التوسل

عبد الرحمن بن محمد الهرفي

عناصر الخطبة

  1. ادعاء البعض بجواز كل صور التوسل
  2. معنى الوسيلة في القرآن
  3. التوسل مشروع وممنوع
  4. أمثلة على كل نوع

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71)﴾ [الأحزاب: 70 و71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله: هناك قضية اضطرب الناس فيها اضطرابًا عظيمًا، واختلفوا فيها اختلافًا شديدًا، بين محلل ومحرم، وغال ومتساهل، ونريد في هذه العجالة أن نقف معها مبينين الحكم في مثل قول بعض الناس: "اللهم بحق نبيك أو بجاهه أو بقدره عندك عافني واعف عني"، أو "اللهم إني أسألك بحق البيت الحرام أن تغفر لي"، أو "اللهم بجاه الأولياء والصالحين ارزقني مولودًا"، أو "اللهم بكرامة رجال الدين عندك"، أو "بجاه من نحن بحضرته وتحت مدده؛ فرج الهمَّ عنَّا وعن المهمومين". ما حقيقة هذه الأقوال وحكمها؟!

تلكم القضية هي قضية التوسل، التي وصل الجهل بها عند بعض من يدعون العلم إلى أن يدّعي أن التوسل مشروع ومستحب بكافة أشكاله وصوره، بل لقد غلا بعض الجهلة فأباحوا التوسل إلى الله تعالى ببعض مخلوقاته التي لم تبلغ من المكانة ورفعة الشأن ما يؤهلها لذلك؛ كقبور الأولياء والصالحين، بل والحديد المبني على أضرحتهم، والتراب والحجارة والشجر القريبة من قبورهم وغيرها، زاعمين أن ما جاور العظيم فهو عظيم، وأن إكرام الله لساكن القبر يتعدى إلى القبر نفسه، حتى يصبح وسيلة مشروعة يتوسل بها إلى الله!

ولذلك كان لابد من بيان ما هو التوسل المشروع وما هو التوسل الممنوع، لئلا يكون للناس على الله حجة، و﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42].

عباد الله: إن الوسيلة المأمور بها في القرآن والسنة هي ما يقرب إلى الله تعالى من الطاعات المشروعة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 35]، قال ابن جرير -رحمه الله-: "﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ صدَّقوا الله ورسوله فيما أخبرهم ووعدهم من الثواب وأوعد من العقاب، ﴿اتَّقُواْ اللّهَ﴾ أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم بالطاعة له في ذلك، ﴿وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾ اطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو يصف محمدًا -صلى الله عليه وسلم-: "ففرَّق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وطريق أهل الجنة وطريق أهل النار، وبين أوليائه وأعدائه. فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله. وقد أرسله الله إلى الثقلين: الجن والأنس، فعلى كل أحد أن يؤمن به، وبما جاء به، ويتبعه في باطنه وظاهره، والإيمان به ومتابعته هو سبيل الله، وهو دين الله، وهو عبادة الله، وهو طاعة الله، وهو طريق أولياء الله، وهو الوسيلة التي أمر الله بها عباده في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾.

فابتغاء الوسيلة إلى الله إنما يكون لمن توسل إلى الله بالإيمان بمحمد واتِّباعه، وهذا التوسل بالإيمان به وطاعته فرض على كل أحد في كل حال؛ باطنًا وظاهرًا، في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد مماته، في مشهده ومغيبه، لا يسقط التوسل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق في حال من الأحوال بعد قيام الحجة عليه، ولا بعذر من الأعذار، ولا طريق إلى كرامة الله ورحمته والنجاة من هوانه وعذابه إلا التوسل بالإيمان به وبطاعته".

أيها المؤمنون: اعلموا -ثبتي الله وإياكم على الدين القويم، وأعانني وإياكم على المرور على الصراط المستقيم- أنَّ التوسل منه ما هو مشروع ومطلوب فعله، ومنه ما هو ممنوع ومطلوب تركه، ولقائل منكم أن يقول: ما هو التوسل المشروع المطلوب فعله وقد وبالغت في التحذير آنفًا حين حذرت؟! وما هو التوسل الممنوع المطلوب تركه وقد تراجعت وفصلت؟! فأقول: إن التبرك المشروع يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: التوسل إلى الله -سبحانه وتعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى: كأن يقول المسلم في دعائه: "اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحيم الرحمن، اللطيف الخبير؛ أن تعافيني"، أو يقول: "اللهم إني أسألك باسمك الأعظم الذي إذا دُعيت به أجبت، وإذا سُئلت به أعطيت"، كما قال الله تعالى آمرًا بدعائه بأسمائه وصفاته: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180]، وفي دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق؛ أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي".

وسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يقول: "اللهم إني أسألك يا الله، الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، أن تغفر لي ذنوبي؛ إنك أنت الغفور الرحيم".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما سؤال الله بأسمائه وصفاته التي تقتضي ما يفعله بالعباد من الهدى والرزق والنصر؛ فهذا أعظم ما يسأل الله تعالى به".

القسم الثاني: التوسل إلى الله بعمل صالح قام به المتوسِّل: كأن يقول في توسله ودعائه: "اللهم بإيماني بك، ومحبتي لك، واتباعي لرسولك؛ اغفر لي"، أو يقول: "اللهم إني أسألك بحبي لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وإيماني به؛ أن تفرّج عني". ولهذا القسم أدلته من الكتاب والسنة، كما قال الله تعالى عن عباده المؤمنين: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 16]، وحديث الثلاثة الذين أغلق عليهم الغار وفيه أن كل واحد منهم كان يقول: فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنا، حتى فرّج الله عنهم، وسنفرد خطبة -إن شاء الله- لشرح هذا الحديث العظيم.د

القسم الثالث: التوسل إلى الله بدعاء الرجل الحي الصالح: كأن يقول فلانٌ من الناس لعالمٍ من علماء الإسلام، أو لمن كان عابدًا لله عرف بتقواه وقربه من الله: "ادع الله لي أن يشفيني"، أو "أن يهديني"، أو "أن يثبتني على دينه الحق"، ودليل ذلك؛ فعن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا -صلى الله عليه وسلم- فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، قال: "فيسقون".

قال الشيخ الألوسي: "وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس، وهم يجدون أدنى مسوغ لذلك، فعدولهم هذا مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبحقوق الله تعالى ورسوله -عليه الصلاة والسلام-، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق دليل واضح، على أن المشروع ما سلكوه دون غيره".

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأصلي وأسلم على خير داع إلى رضوانه؛ محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه.

أيها الناس: أما النوع الثاني من أنواع التوسل فهو التوسل الممنوع، وهو توسل بدعي؛ وهو التوسل إلى الله بما لم يرد في الشرع التوسل به؛ كالتوسل بذوات الأنبياء والصالحين، أو جاههم، أو حقهم، أو حرمتهم، ونحو ذلك، فهذا توسل بدعي؛ كأن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بجاه البدوي، أو بحق عبد القادر الجيلاني، أو بفلان وفلان، أو حتى التوسل إلى الله بنبيه بعد وفاة النبي؛ كأن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بنبيك أو بجاه نبيك، فهذه بدعة لا تجوز؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرحم بنا من أنفسنا ولم يدلنا على مثل هذا الفعل.  


تم تحميل المحتوى من موقع