في خطر ظهور المعاصي في المجتمعات وعدم إنكارها

عبدالله بن صالح القصير
عناصر الخطبة
  1. أثر المعاصي وظلم العباد .
  2. أثر السكوت عن إنكار المعاصي .
  3. تنوع العقوبات الكونية .
  4. صور من الواقع المزري لعالمنا الإسلامي اليوم . .

اقتباس

والعقوبات الكونية أعظم من العقوبات الشرعية أخذاً، وأخطر عاقبة، ومن ذلكم الختم على القلوب، وصم الأسماع وطمس الأبصار، حتى يحال بين المرء وبين قلبه ويغفل عن ذكر ربه، وينسى نفسه، ويثبط عن طاعة مولاه، وتمحق بركة عمره ووقته، سعيه في دينه ودنياه، فيفرط في الأمانات، وتضيع عليه بلا فائدة جملة الأوقات ..

 

 

 

 

 إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

أما بعد:

أيها الناس: توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له تسعدوا، وأكثروا الصدقة ترزقوا، وأمروا بالمعروف وانهو عن المنكر تنصروا، ولا تستعملوا جوارح غذيت بنعم الله في التعرض لسخط الله بمعصيته، ولا تشتغلوا بأموالكم بما فيه ظلم عباده ومحاربته، واجعلوا شغلكم بالتماس مغفرته، واصرفوا هممكم بالتقرب إليه بطاعته، وإياكم ومحقرات الذنوب، فإنها متى يؤاخذ بها صاحبها تهلكه.

أيها المسلمون: احذروا معاصي الله وظلم عباده؛ فإنها تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة، قال -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:53]. وقال -سبحانه-: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء:160-161].

إن المعاصي وظلم العباد يزيلان النعم الحاصلة، ويمنعان النعم الواصلة؛ فإن نعم الله تعالى ما حفظ موجودها ولا استجلب مفقودها بمثل طاعته، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، فطاعة الله تحفظ النعم الموجودة، وتجلب النعم المفقودة، وأما المعاصي فإنها تزيل النعم الموجودة، وتمنع النعم المنتظرة؛ إذ أن الله تعالى قد جعل لكل شيءٍ سبباً يجلبه وآفة تذهبه؛ فالطاعات أسباب جالبة لنعمه، والمعاصي آفات مذهبة لنعمه جالبة لنقمه؛ فهي تزيل الخيرات، وتجلب العقوبات، وتحل البلايات، وقد خلت من قبلكم المثلات، وفي زمانكم فيمن حولكم عبرة لمن اعتبر وذكرى لمن ادّكر.

أيها المسلمون: إن الناس إذا فعلوا المعاصي وارتكبوا المنكرات، فلم يتقيدوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الاستطاعة، ولم يقم أولو الغيرة والسلطان بالإصلاح والأخذ على أيدي السفهاء وأطرهم على الحق أطراً - فإن الله يحل بالمجتمع عقوباته الكونية القدرية مثل ما أحل بالأمم الخالية والقرون الماضية.

والعقوبات الكونية أعظم من العقوبات الشرعية أخذاً، وأخطر عاقبة، ومن ذلكم الختم على القلوب، وصم الأسماع وطمس الأبصار، حتى يحال بين المرء وبين قلبه ويغفل عن ذكر ربه، وينسى نفسه، ويثبط عن طاعة مولاه، وتمحق بركة عمره ووقته، سعيه في دينه ودنياه، فيفرط في الأمانات، وتضيع عليه بلا فائدة جملة الأوقات، وتذهب نفسه عليه عند الموت حسرات.

ومن العقوبات الكونية القدرية العامة ما يبتلي الله بها الناس عند ظهور المنكرات من شيوع الفواحش والجرائم، ونسيان ما ذكروا، وفرحهم بما أوتوا، واغترارهم بالدنيا وزخرفها، وظنهم أنهم قادرون عليها؛ من ظهور الأمراض الغريبة واستفحال الأوجاع المستعصية، ومنعهم القطر من السماء، وأخذهم بالسنين والغلاء وجور السلاطين.

حدث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين -أي القحط- وشدة المؤنة -أي غلاء الأسعار- وجور السلطان -أي ظلمه لهم وقهره إياهم- وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا ".

فانظروا معاشر المسلمين صدق هذا الحديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

في واقع معظم العالم الإسلامي اليوم ظهر الزنا، وأعلن عنه، ووجد من القوانين الوضعية التي يحكم بها الظلمة الناس ما يحمي الزناة، ويعفيهم من العقوبة الشرعية التي حكم الله بها، وأقامها رسوله صلى الله عليه وسلم، فظهر من الأسقام ما عرفه الناس من أمراض الزنا: كالزهري والسيلان والإيدز، الذي يسمونه مرض عدم المناعة، والذي قرر المختصون أنه لا مخرج منه إلا بالموت، ولا طريقة للوقاية منه إلا اجتناب الزنا.

وتجرّأ كثير من الناس في سائر الأمصار، على نقص المكيال وبخس الموازين، وأخذ أموال الناس وأكلها بالباطل، عن طريق الرشاوي، واستحلال الربا، والتعامل بالغش والخيانة وسائر الحيل الملتوية، فأصاب الناس نوع من القحط، وحلّ بهم الجدب وزيادة الأسعار، وساءت منهم الظنون، وما أصابكم من مصيبة فبما كسبته أيديكم، ويعفو عن كثير.

ومنع كثيرون زكاة أموالهم فمنعوا القطر من السماء بحسب ذلك، فمنهم من لم تمطر السماء عليه هذا العام، ومنهم من حبس عنهم المطر منذ سنين، ومنهم من جاءهم المطر الغزير على حين غفلة أو في حال قلة، فأخذتهم الفيضانات التي أهلكت الحرث والنسل وأذهبت الأخضر واليابس.

أيها المسلمون: إننا لو تأملنا هذا الواقع وقايسناه بأعمالنا ومعاصينا التي نرتكبها عمداً وعن بصيرة، لوجدنا أننا نستحق أكثر من هذا، ولكن كما قال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [فاطر:45].

أيها المسلمون: إن الكثيرين من الأثرياء في السنين الماضية قد قامت معظم ثرواتهم على القروض الربوية - فمحقهم الله، وإن الكثير منعوا الزكاة وبخلوا بالصدقات شحًّا بالأموال، أو تساهلاً في إحصائها، وتهاوناً بشأنها، أو يصرفونها في غير مصارفها - فهلكت أموالهم بالسرقة والحرائق وأنواع الهلاك.

وإن الكثير الآن ليتبايعون البيوع الباطلة المحرمة وهم يعلمون، يتبايعون بأنواع من المعاملات الربوية، ويأكل بعضهم أموال بعض في بيع البضائع المنقوصة والمغموسة على أنها تامة موفرة بواسطة التواطؤ مع وكيل البضاعة أو جهة الصناعة.

ومنهم الذين يشترون لزبائنهم قطع الغيار ونحوها من المواد بأسعار مناسبة، ثم يبيعونها عليه بأسعار غالية مع أنهم قد اشتروها بالسعر الأول له وباسمه، ومن التجار من يعطي سماسرة المشترين نسبة من الأرباح، ويسجل في الفاتورة على حساب العمل، فيقول: السلعة بكذا، وهي في الحقيقة أقل من ذلك بنسبة مئوية معينة، ولكنه جعلها لصالح السمسار وسجلها في الفاتورة. ومنهم من يعطي السماسرة مبلغاً من المال من عنده من أجل أنه يجلب له الزبائن بحيث لا يشترون إلا من عنده ولا يخفى ما في ذلك من المضرة للآخرين.

وهذا كله من الاحتيال على الله، والظلم لعباده، وأكل أموال الناس بالباطل: من الغش، والكذب، والخيانة، والخديعة، ونحو ذلك. فاتقوا الله أيها المسلمون وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي