إلى متى سيبقى بعض الآباء ينظر لأبنائه نظرة مصغرة، فلا يؤمنهم في شيء، ولا يوكل إليهم مهمة من المهمات، ولا يعودهم على التصرف في الأمور وقضاء الحاجات، ولا يفتح لهم شيئاً من المجالات، ولا يعودهم على شيء من الأعمال، ويبقى هو المسيطر على كل شيء...
الحمد لله رب العباد، نحمده -سبحانه- على نعمة الأولاد، ونشكره على نعمه الجياد، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه العبّاد الزهاد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعترته أولي الهدى والرشاد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجه وطريقته إلى يوم المعاد.
أما بعد:
أيها الناس: نريد اليوم أن نتحدث عن موضوع يهم كل أب، وخطأ تربوي يقع فيه كثير من الآباء، وظاهرة نجدها موجودة في كثير من بيوتنا، ومنتشرة في مجتمعنا، إنها ظاهرة نظرة الآباء إلى الأبناء نظرة مصغرة.
بعض الآباء -أصلحنا الله وإياهم- يعامل أبناءه في كل المراحل معاملة الصغار، ويتماشى معهم بنفس الأسلوب الذي كان يعاملهم به وهم صغار مع أنهم قد صاروا كباراً.
أيها الآباء الكرام: إن لكل سن ما يناسبه، ولكل مرحلة عمرية خصائصها، ولكل مقام مقامه، والمسكين هو من لم يعطِ كل ذي حق حقه، ولا يعامل كل شخص بما يناسبه، وكل مرحلة ما يخصها.
هناك آباء يبقى الواحد منهم جامداً مع أبنائه على مرحلة الصغر، بحكم أنه رباهم وعايشهم وهم صغار، فتبقى نظرته لهم بنفس النظرة، ويعاملهم بنفس المعاملة، مع أن الابن قد كبر سنه، وعلا شأنه، وربما صار رجلاً مرموقاً في المجتمع، والأب لا يزال ينظر إليه بتلك النظرة الدونية، ويراه بنفس المنظار البسيط الذي كان ينظره به وقت الصغر.
كيف ستكون نفسية ولدك حينما ينظر إليه الناس بنظرة تقدير وإجلال، وأنت تنظر إليه بنظرة ازدراء واحتقار؟ كيف سيكون شعوره عندما يخاطبه الناس بلفظ ياشيخ، أو يا أستاذ، أو يادكتور، وأهله يقولون له: ياولد، أو ينادونه باسم التصغير الذي كانوا ينادونه به وهو في بداية المرحلة الأساسية.
بل إن بعض الآباء والأهل من شدة استصغارهم لأبنائهم واحتقارهم لهم يذهب إلى غيرهم ولا يذهب إليهم!! فإذا كان ابنه طالب علم مرموق، أو شيخا، أو متخرجا من أحد الجامعات الإسلامية، فتجد هذا الأب يسأل غيره ولا يسأله، ويتصل بشخص ربما يكون أقل منه علماً ليسأله وابنه موجود عنده في نفس البيت ومع ذلك لا يسأله.
وقد أُثر عن امرأة أنها كانت ترفض فتوى ابنها، وتقبل فتوى تلميذ من تلاميذ ابنها, وإذا كان ابنه دكتور مثلاً فإنه يتعالج عند غيره من الدكاترة ولا يتعالج عنده، ربما يكون حسداً والعياذ بالله، وهذا باب آخر، وربما يكون من باب التصغير والتقليل وهذا ما نتحدث عنه ونحذر منه.
إن الله -تبارك وتعالى- يقول: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 3] أي إن الله -سبحانه وتعالى- قد قدر لكل شيء ما يناسبه، وجعل لكل أمر وقتًا ومقدارًا لا يتعداه ولا يقصر عنه، وحدوداً لا يتجاوزه ولا يتجاوزها، ومن الخطأ الفظيع تجاهل هذه السنة الكونية في أي مجال، ومن ذلك التعامل مع الأبناء الكبار بنفس الوتيرة التي يتعامل بها معهم يوم أن كانوا صغاراً.
لو تأملنا في سيرة الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-, لوجدنا أنه بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم- كان يعامل أصحابه بدرجات متفاوتة تتناسب مع أعمارهم، وتخصصاتهم، والمراحل التي يمرون بها، والظروف التي يعايشونها.
لقد شرع للكبير من التشريعات والأحكام مالم يشرعه للصغير، وجعل للذكر من الخصائص ما يختلف به عن الأنثى، وتدرج مع الناس في أحوال التشريع نفسه بحسب الظروف التي كانوا يمرون بها، وهذا أمر معلوم للجميع.
يقول ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- في قول الله تعالى: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران : 79] أي "حُكَمَاءَ فُقَهَاءَ، وَيُقَالُ الرَّبَّانِىُّ الَّذِى يُرَبِّى النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ" [صحيح البخاري ( 1 / 130 ) الباب 10 - باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ]. وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ" [ البخاري (127)]. وروى مسلم في صحيحه عن عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً" [ مسلم ( 14)].
فهذه النصوص كلها تبين لنا أهمية الانتباه لهذا الأمر، وأن نعامل كل شخص بحسبه، وننظر إلى كل شيء بما يستحق، ونعطي كل شيء قدره وحقه.
ولهذا فلا يجوز لنا أبداً أن ننظر إلى أبنائنا نظرة مصغرة، أو نعاملهم بنفس الأسلوب والطريقة التي نعاملهم بها في وقت الصغر، أو نتجاهل فضلهم وعلمهم ازدراء لهم وتنقصاً. يقول الله –سبحانه وتعالى-:(وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الشعراء : 183].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، بعث رسله مبشرين ومنذرين، وبعث نبيه وخليله -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، أفصح الناس لساناً بياناً لمواعظ الدِّين، أرسله الله رحمةً للعالمين، وداعياً بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: إن أبناءنا أمانة في أعناقنا، ومسؤوليتهم مسؤولية عظيمة قد ألقيت على رقابنا، فلابد لنا من الاهتمام بهم، والعناية بهم، وإنزالهم منازلهم، فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا-، أَنَّهَا قَالَتْ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ" [ مقدمة صحيح مسلم ( 1/6 )].
فإذا كنا مأمورين بأن ننزل الناس منازلهم؛ فكيف لا ننزل أبناءنا ومن لهم حق علينا منازلهم، ونعطيهم قدرهم وحقهم، دون بخس أو مبالغة؟.
إلى متى سيبقى بعض الآباء ينظر لأبنائه نظرة مصغرة، فلا يؤمنهم في شيء، ولا يوكل إليهم مهمة من المهمات، ولا يعودهم على التصرف في الأمور وقضاء الحاجات، ولا يفتح لهم شيئاً من المجالات، ولا يعودهم على شيء من الأعمال، ويبقى هو المسيطر على كل شيء، لأنه ينظر إلى أبنائه نظرة استصغار.
هل تعلمون أن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته أوكل مهمة قيادة الجيش الذي سيغزو الروم إلى أسامة بن زيد -رضي الله عنه- هل تعلمون كم كان عمر أسامة حينما أمّره النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك الجيش؟ لقد كان عمره يومئذ سبعة عشر عاماً فقط.
روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضى الله عنهما- قَالَ: "بَعَثَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم- بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمَارَتِهِ، فَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم- إِنْ تَطْعُنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعُنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ بَعْدَهُ " [ البخاري (3730 )].
لقد كان في هذا الجيش كبار الصحابة كأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، ومع ذلك أمّر النبي -صلى الله عليه وسلم- على الجيش هذا الفتى الصغير والشاب اليافع، ليربي الكبار على الاهتمام بالصغار، وليجيز مسؤولية المفضول على الفاضل.
فلابد من الاهتمام بأبنائنا وتقديرهم، والنظر إليهم بنظرة إجلال وإكبار، حتى يهتموا بأنفسهم ويتشجعوا، ويشعر الواحد منهم أنه أهل للمسؤولية وكفؤ للأمانة والتحمل.
ولا ينبغي لنا أبداً أن نسفههم، أو نحتقرهم، أو ننظر إليهم بنظرة مصغرة، أو نتصرف معهم تصرفات تشعرهم بالدون والنقص، فيحس الواحد منهم أن أهله والناس من حوله ينظرون له أنه ضعيف وناقص فيتحطم، ويرى نفسه ضعيفاً صغيراً ليس أهلاً لشيء، ولا يريد أن يتحمل شيء.
يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل : 76] رجلان أحدهما أبكم، رجل خامل، ضعيف، سلبي، لا يقدر على شيء، ولا يريد أحداً أن يكلفه بشيء، فيصير كَلاً على أهله وسيده ومجتمعه، أينما يضعونه فلن يتحقق منه خير، ولن يأتي بخير، (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، لا يستوون.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللهم اجعلنا من المربين لأولادنا، المهتمين بهم، الناظرين إليهم بنظرة إجلال وكبار، وجنبنا سبهم أو تحطيمهم، يا أرحم الراحمين، وارزقنا برهم، واجعلهم قرة أعين لنا يارب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي