فما نزعت يدٌ من طاعة إلاَّ صاحفها الشيطانُ وعرّضها لفتنةٍ عمياء، وموتِ جاهليّة جهلاء، والعاقلُ يدرك خطورة عصيان الأئمة الشرعيين، وما تأتي به منازعتُهم أو الخروجُ عليهم من شرّ، وما يترتّب على ذلك من مفاسدَ عُظمى لا يعلم مداها على الحقيقة، إلاَّ الله سبحانه، وتفادياً لهذا الشرّ، ودَرءاً...
الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المُهتدون، وبعدله ضلَّ الضالون، لا يُسأل عما يفعل وهُم يُسألون، أحمدُه تعالى وأشكُرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيّدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعد :
فيا عبادَ الله: لقد جاء دينُ الإسلام إكراماً للبشريّة ورحمةً بها، جاء ليُرَتِّب ويُنظِّمَ أمورَ الناس مادّيةً وروحيّة، ويُقيمُها على أُسسٍ إصلاحيّةٍ وقواعِدَ ثابتة، جاء ليُبيِّن للناس أسبابَ العطب فيجتنبوها وأسباب النجاة فيسلكوها. وإنَّ ممّا أوضحه وأبانه الإسلام علاقةَ الإنسان بربِّه، وعلاقةَ الإنسان بنبيّه صلى الله عليه وسلم، وعلاقته بأميره ورئيسه، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59] والمراد بأُولي الأمر كلُّ من له ولايةٌ شرعيّة، سواء ًكان الإمامَ العام، أو العالمَ الرُّوحي، أو الأميرَ أو الرئيسَ الخاصّ بالإنسان.
عبادَ الله: إنَّ الله جلَّت قُدرتُه قد أوجبَ لوُلاةِ الأُمور الشرّعيّين بهذه الآية، وما في معناها، حقًّا عظيماً، بالقيام به تسعدُ الأُمَّةُ الإسلامية، ويستتِبُّ لها الأمنُ ويسودُ السلام, أوجبه من هو عالمٌ بأسرار الكون، وطبائع البشر التي لا تَصلُح ولن تَصلُح بدون إمام أو مع إمام منازع، أوجبه حفاظاً على الحياة الاجتماعية ورعاية، وحمايةً لها من فوضى الجاهلين، وطيش المفسدين، إنَّ الله ليزعُ بالسلطان ما لا يزعُ بالقرآن، أوجبه وجعله طاعةً له سبحانه وقربةً إليه، طاعةً مؤكدة معروفة يجب الإتيان بها في العسر واليسر، والمنشط والمكره والاستبداد، إلاَّ إذا أمر الإنسانَ بمعصية الله، أو فوق المُستطاع، فلا سمع ولا طاعة إذاً لمخلوق في معصية الخالق، يقول صلى الله عليه وسلم: "على المرء المسلم السَّمعُ والطاعَةُ فيما أحَبَّ أو كَرِهَ إِلا أَنْ يُؤمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِن أُمِرَ بِمعصيةٍ، فلا سَمْعَ، ولا طَاعَةَ"، وإنَّ شيئاً يا عباد الله أمر الله به ورتَّبَ عليه سبحانه مصلحةً عُظمى في الدُّنيا، وأجراً مُضاعفاً في الآخرة، لجديرٌ بأن يكونّ موضعَ رعايةِ المؤمن واهتمامِه.
فاتَّقوا الله - أيُّها المسلمون- وتقرَّبوا إلى الله بما أمَركُم به من طاعة ولاة الأُمور، ومن الدُّعاء لهم، والتعاون معهم على البر والتقوى، والصبر عليهم، ما أطاعوا الله ورسوله وأقاموا شعائر دينه، فما نزعت يدٌ من طاعة إلاَّ صاحفها الشيطانُ وعرّضها لفتنةٍ عمياء، وموتِ جاهليّة جهلاء، والعاقلُ يدرك خطورة عصيان الأئمة الشرعيين، وما تأتي به منازعتُهم أو الخروجُ عليهم من شرّ، وما يترتّب على ذلك من مفاسدَ عُظمى لا يعلم مداها على الحقيقة، إلاَّ الله سبحانه، وتفادياً لهذا الشرّ، ودَرءاً له عن الأُمّة الإسلامية، قال هادي البشرية عليه الصلاة والسلام: "مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ" وقال: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإنْ تَأمَّر عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ" وروى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأُثْرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ".
يا عِبادَ الله: يا من في أيديهم شيءٌ من ولاية، إن الحَكَم العدلَ سبحانه، كما أوجب لكم حقًّا على من لكم عليه ولاية، وأمره باحترامه والقيام به، فكذلكم أوجب عليكم حقًّا لمرؤوسيكم ومن في سُلطانكم، ومن تحت رعايتكم، وآذنكم بخطورته، وعِظَم مسؤوليته على لسان رسوله بقوله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّكم راعٍ، وكُلُّكم مسؤولٌ عن رعيته" فاتَّقوا الله فيما استرعاكم الله فيه، وأدُّوا ما أوجبه الله عليكم من حقوق مرؤوسيكم ورعاياكم تكونوا من خيرا الأئمة الذين قال الرسول فيهم صلى الله عليه وسلم: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ: الذين تُحبُّونَهُمْ ويُحبونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عليهم، ويُصَلُّونَ عليكم" وتبتعدوا عمّن عناهم صلى الله عليه وسلم بقوله: "وَشِرارُ أَئِمَّتِكُمُ: الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ، وَيُبْغِضُونَكمْ، وتَلْعَنُونَهُم، وَيلْعَنُونَكم".
وإنَّ أعظم تلكم الحقوق إقامةُ العدل بينهم، والإحسانُ بهم، وخفضُ الجناح لمؤمنهم، يقول تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) [النساء: 58]، ويقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) [النحل: 90]، ويقول: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 215]، كما وأنَّ من حقّ الرّعيّة عليكم أن تحوطوهم بالنُّصحِ، وأن تَسْعوا بإخلاصٍ وجدٍّ فيما يجلب لهُم النّفْع، ويَدْرَأُ عنهم الضّرر، وأن تَتَجنّبوا كلَّ ما يُثير نفوس أَفْرادِ الرَّعية، ويُعَرِّضهم للحِقدِ والمنازعة كالاستئثارِ بالمصالح، ومعاملتهم بالشدَّة والقَسوة، وتكليفهم ما يُعنتهم ويشُقُّ عليهم ونحو ذلكم، ممّا يسبّب بُغض الرّعيّة للرّاعي، ويُعرِّضُه للمنازعة في الدُّنيا، ولِلعذابِ الأليم في الآخرة. يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّة، يَموتُ يَوْمَ يَمُوتُ وهو غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلا حَرَّمَ اللهُ عليه الجَنَّةَ", وفي روايةٍ لمسلم: "مَا مِنْ أمِير يَلي أُمُورَ المُسلمينَ، ثم لا يَجْهدُ لهم، وَيَنْصَحُ لهم، إلا لم يَدْخُلْ مَعَهُمُ الجَنَّةَ".
وروي عن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أنَّه دخل على عُبيد الله بن زياد، فقال: أي بُنيّ: إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ شَرَّ الرُّعَاةِ الْحُطَمَةُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ" و الْحُطَمَةُ: هو الشديد الغليظ القاسي، قليل الرحمة والشفقة والحنان, ويقول مُستَجاب الدَّعوة صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ من أمْر أُمَّتي شَيْئا، فَشَقَّ عليهم، فَاشْقُقْ عليه، ومَنْ وَلِيَ منْ أَمْرِ أُمَّتي شَيْئا فَرَفَقَ بِهِم، فَارفُق بهِ".
أقول قولي هذا، وأسأل الله تعالى أن يُرفِّقَ ولاة أُمورِ المسلمين، وحُماةَ الإسلام لِما فيه صلاحُ دينهم ورعاياهم. إنَّهُ خيْر مسؤول، غفورٌ رحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي