تذكروا بهذه الأَيَّام العَشر أَنَّ الدُّنيَا لا تَعدُو أَن تَكُونَ رِحلَةً كَرِحلَةِ الحَجّ، وَأَنَّ أَيَّامَهَا كَأَيَّامِ العَشرِ، تُوشِكُ أَن تَنتَهِي عَاجِلاً ثم يَعُودَ كُلُّ عَبدٍ إِلى رَبّهِ، فَيُجَازِيَهُ بما عَمِلَهُ وَقَدَّمَهُ؛ فاغتنِموا مواسمَ العبادة قبل فواتها، فالحياةُ مغنَم، والأيّام معدودَة، والأعمارُ قصيرة.
الحمد لله..
أما بعد: فهذه مواسِم الخيراتِ على العباد تترى، فما أن تنقضِي شعيرة إلا وتظهر للناس أخرَى، ها هي أفواجُ الحجيج ببيت الله العتيق تلبِّي دعوةَ الخليل إبراهيم عليه السلام، إذ نادى الناس به ممتثلاً أمر ربه حيث قال: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27]، بيتٌ جعَلَه الله مثابةً للنّاس وأَمنًا، حَولَه تُرتَجى من الكريم العطايا والرحماتُ، حرمٌ مبارَك فيه آياتٌ بينات ظاهرات، قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 96، 97].
حجُّه مِن عمادِ الإسلام، وأركانه العظام، قال سبحانه: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97].
أطولُ عبادةٍ بدنيَّة في الإسلام، العباداتُ فيه مُتنوِّعةٌ؛ تلبية وطواف وصلاة وسعي ومَبيت ووقوف بعرفات، وحلق ونحر ورمي للجمرات.
الحج مظهر من مظاهر الإيمان، وإخلاص العبادة للواحد الديان، فالحاج من أول دخوله في الحج، يعلن إيمانه الخالص بالله في أول كلمة ينطق بها: قائلاً "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
في الحَجِّ تنبيه للمسلمين إلى فضيلة ذِكر للهِ -عز وجل–، وأنه المقصود من فعل العِبَادَاتِ، وأداء الطاعات والقربات، يقول رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "إنما جُعِل الطوافُ بالكعبة وبين الصفا والمروة، ورميُ الجِمار لإقامَة ذِكر الله -عز وجل-" (رواه أحمد).
في الحج تتجلى العبودية التامة لله –تعالى- بامتثال أمره، فيما تدرك العقول حكمته وفيما لا تدركه، فعمر -رضي الله عنه- يقبّل الحَجَر ويقول: "والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبّلك ما قبّلتك".
الحج يعلِّم الأُمَّة أَنَّهُ لا سَعَادَةَ لها إِلاَّ بِاتِّبَاعِ سَيِّدِ المُرسَلِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، فقَد كَانَ في كُلِّ خطوَةٍ في حَجَّتِهِ يُؤَصِّلُ هَذَا المَعنى وَيَغرِسُهُ في قُلُوبِ المُسلِمِينَ، حَيثُ كَانَ يَقُولُ عِندَ كُلِّ مَنسَكٍ مِن مَنَاسِكِ الحَجِّ: "خُذُوا عني مَنَاسِكَكُم"، وَهُوَ -صلى الله عليه وسلم- الذي قَد قَالَ: "مَن عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ عَلَيهِ أَمرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".
الحج يعلم الأمة َالتَّوَسُّطِ والاعتدال في الأُمُورِ كُلِّهَا، فَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ غَدَاةَ العَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ: "القُطْ لي حَصًى، فَلَقَطتُ لَهُ سَبعَ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الخَذفِ، فَجَعَلَ يَنفُضُهُنَّ في كَفِّهِ وَيَقُولُ: أَمثَالَ هَؤُلاءِ فَارمُوا، ثم قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُم وَالغُلُوَّ في الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهلَكَ مَن كَانَ قَبلَكُمُ الغُلُوُّ في الدِّينِ".
رَمي الجِمَارِ في الحج يذكِّر الناس بِأَلَدِّ أَعدَائِهِم، وَأَعتى خُصُومِهِم، الشيطان اللعين، ليحذروا مكره ويقاوموه، قال -عز وجل– محذرًا من كيده ومكره: (إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 6].
الحجِّ يربّي الأمة على التحلي بالصفاتِ الكريمة والأخلاقِ القويمة الحَميدة، قال تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) [البقرة: 197].
في الحج أسمى معاني العدل والمساواة بين بني البشر، فلا فرق بين غني وفقير، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين رئيس ومرءوس إلا بالتقوى.
الحج يذكّر بوحدة الأمة واجتماعها؛ يُشعر المسلمين جميعًا أنهم يدينون بدين واحد، ويؤمنون برب واحد، ونبي واحد، لباسهم واحد، وقبلتهم واحدة، وأهدافهم واحدة، يلهجون بلسان واحد "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لبيك، إن الحمد والنعمة لك لا شريك لك".
في الحج ترسيخُ مبدأ الأُخوَّة بين المسلمين، وفي شعائِره التكافل والتراحم بين المؤمنين، قال –سبحانه-: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج: 28].
في الحج في يوم عرفة خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- جموع المسلمين، بهذه الأخوة قائلاً: "إِنَّ دِمَاءَكُم وَأَموَالَكُم حَرَامٌ عَلَيكُم كَحُرمَةِ يَومِكُم هَذَا، في شَهرِكُم هَذَا، في بَلَدِكُم هَذَا..".
في الحج تُتبادل المنافِع الدينية والدنيويَّة، قال سبحانه: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج: 28]، وفي الحج تعويد المسلم على الصبر وتحمل الشدائد.
في الحج تربية على الشعور بقيمة الوقت، فلكل يومٍ في الحجِّ عبادةٌ مُغايِرةٌ لأُختِها، ولكلٍّ منها زمنٌ ينقضِي بانقِضائِها؛ فالإفاضةُ من عرفة بعد الغروب تبتدئ، والمَبيت بطُلُوع الشمسِ ينقضِي وينتهي.
في الحج تذكير بلقاء الله واليوم الآخر، فبالسفر عن الأوطان ووداع الأهل والجيران، يتذكر المسلم رحيله إلى الله والدار الآخرة، وبالتجرد من المخيط وارتداء ثياب الإحرام، يتذكر المسلم الموت ولباس الأكفان، وبزحمة الحج يتذكر زحام يوم الحشر، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم يجمع الله الأولين والآخرين.
في أداءِ هذا الركن العظيم غُفران الذّنوب، وغَسل أدران الخطايا والعيوب، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن حجَّ فلم يرفُث ولم يفسق رجَع كيوم ولدَته أمّه" (رواه البخاري).
في أداء هذا الركن على الوجه المطلوب الفوزُ برضوان الله الكريم، والظفر بجنَّات النعيم، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ".. والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة" (متفق عليه).
فطُوبَى لمن حجَّ بيتَ الله الحرام مُخلِصًا نيَّتَه لله –تعالى-، مُقتدِيًا في نُسُكه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، راجِيًا ثوابَ الله والدارَ الآخرة.
يقول تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
بارَك الله لي وَلكُم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيهِ منَ الهدى والذكر الحكيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله .....
أما بعد: فإن من عظيم فضل الله على المؤمنين، أن شملهم جميعًا بفضل هذه العشر المباركات، من حج منهم ومن لم يحج، فشرع –سبحانه- فيها أنواع الطاعات والقربات، رغَّب في التكبيرِ والتّحميدِ وقراءةِ القرآن وصِلةِ الأرحام والصّدقةِ وبِرّ الوالدين، وتفريجِ الكرُبات وقضاءِ الحاجات، وسائرِ أنواع الأعمال الصالحات.
رغّب في صيام يوم عرفَة لغير الحجاج، فقال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "صيامُ يوم عرفَة أحتسِبُ على الله أن يُكفِّر السنةَ التي قبلَه والسنةَ التي بعدَه" (متفق عليه).
شرع التقرب فيها بذبحِ الأضاحي يومَ العيد، اقتداء بسنة الخليلين نبينا محمد وإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام-، فتقربوا إلى الله بذبحها سالمة من العيوب، وطيبوا بها نفسًا، وكُلوا وأطعِموا وتصدّقوا، وتحرَّوا بصدقاتكم فقراءَكم، وبهداياكم منها أرحامَكم وجيرانكم، وصونوا أعيادَكم عمّا يغضِب خالِقَكم.
عباد الله، تذكروا بهذه الأَيَّام العَشر أَنَّ الدُّنيَا لا تَعدُو أَن تَكُونَ رِحلَةً كَرِحلَةِ الحَجّ، وَأَنَّ أَيَّامَهَا كَأَيَّامِ العَشرِ، تُوشِكُ أَن تَنتَهِي عَاجِلاً ثم يَعُودَ كُلُّ عَبدٍ إِلى رَبّهِ، فَيُجَازِيَهُ بما عَمِلَهُ وَقَدَّمَهُ؛ فاغتنِموا مواسمَ العبادة قبل فواتها، فالحياةُ مغنَم، والأيّام معدودَة، والأعمارُ قصيرة.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واصرِف عنهم الفتن ما ظهر منها وما بطَن يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم تقبَّل من الحُجَّاج حجَّهم، واجعَل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، وأعِدهم إلى ديارِهم سالمين غانِمين يا ذا الجلال والإكرام.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي