فتوحيد الله - سبحانه وتعالى - بما يستحقه وما يليق به على أكمل الوجوه وأتم الصفات، هو الغاية التي خلق لها الجن والإنس، والتي من أجلها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وأعدت الجنة وأعدت النار، وجردت السيوف ورفعت الرايات، وأقيمت بين أفراد الأسر الموالاة والمعاداة, منذ أن وجد هذا الدين وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها...
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض، ولم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدّره تقديراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. وأشهد أن نبينا وإمامنا محمداً عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وعلى آله وأصحابه وعلى كل من شهد لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها الأخوة المؤمنون: لقد خلق الله الثقلين: الجن والإنس، لغاية عظمى وهدف أسمى، هو توحيد الله سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذريات:56] أي: ليوحدون.
فتوحيد الله - سبحانه وتعالى - بما يستحقه وما يليق به على أكمل الوجوه وأتم الصفات، هو الغاية التي خلق لها الجن والإنس، والتي من أجلها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وأعدت الجنة وأعدت النار، وجردت السيوف ورفعت الرايات، وأقيمت بين أفراد الأسر الموالاة والمعاداة, منذ أن وجد هذا الدين وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, وهو خير الوارثين (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25]، (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة:4].
وهذا التوحيد هو الإقرار والاعتراف بضرورة إفراد الله سبحانه لما له، وبما يستحقه من توحيد في ربوبيته, لا يشركه فيه أحد من خلقه, إقراراً واعترافاً يشد المخلوق بالخالق توكلاً وخوفاً ورجاء واستعاذة واستغاثة وعبادة وسلوكاً ومعاملة, في ضراء أو سراء أو مشهد أو حضور (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء:69-82].
كما وأنه الإقرار والاعتراف بضرورة إفراد الله سبحانه بالألوهية والعبادة دون غيره, إقراراً يشد المتأله بالمألوه والمتعبد بالمعبود، فيتوجه بعبادته -وضمنها دعاؤه فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه- توجهاً يحقق له ركني كلمة الإخلاص: النفي والإثبات اللذين يلفظ بهما، في قوله: لا إله إلا الله (فلا إله) نفي لأي مألوه أو متعبد، (وإلا الله) قصر لهذه الألوهية والعبادة على الله وحده، كما في قول الخليل عليه السلام الذي حكاه الله عنه بقوله: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) [الزخرف:26-27]. وفي قوله سبحانه: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) [الأحقاف:5-6]، وقوله: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [المؤمنون:117].
كما وأنه الإقرار بما أخبر الله به عن نفسه، وبما أخبر به عنه رسوله ووصفه بما وصف به نفسه، وما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تأويل، ومن غير تكييف ولا تعطيل، بل على حد قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى:11], فيثبت العبد لله ما أثبت تعالى لنفسه، وينفي العبد عن الله ما نفى تعالى عن نفسه، منتهجاً في ذلك قولة بعض السلف الخالدة: آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله. وفي هذا المعنى قول مالك المشهور، لما سئل عن كيفية استواء الله الذي أخبر الله به: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
هذا هو مجمل توحيد الله الذي خلق الله الثقلين لأجله وأرسل رسوله، وأنزل كتبه من أجله.
فاتّقوا الله -عباد الله- وحققوا توحيدكم بتوحيد الله سبحانه بكل ما للتوحيد من صفات ومعان خالصة تليق بالله، فما هو إلا توحيد الله الخالص من شوائب الشرك والبدع والعصيان والجنة، أو ضده والنار (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة:72].
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي