من عقوباتها: أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال معلولا لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه، فإن تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان. ومن آثار كثرة المعاصي: أنها إذا تكاثرت طبعت على قلب صاحبها، فكان من الغافلين؛ ففي...
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله -سبحانه-، عسى أن نكون من الفائزين: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88- 89].
إخوة الإسلام: في الصحيحين: أنَّ أبا بكرٍ الصديقَ -رضي الله عنه- قال للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: يا رسولَ اللهِ، علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي؟ قال: "قُلْ: اللهم إني ظلَمتُ نفسي ظُلمًا كثيرًا، ولا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت، فاغفِرْ لي من عِندِك مغفرًة، إنك أنت الغفورُ الرحيمُ".
وإذا كان الصديق أُرشد إلى قول هذا، فمال عسى أن نقول نحن أهل التقصير والمعاصي الكثيرة؟!
نعم: "كل بني آدم خطاء" ولكن: "وخير الخطائين التوابون".
فهل نحن كذلك؟! أم أننا أدمنا الذنوب، فتأقلمنا وصرنا نفعلها، ثم لا نندم ولا نتوب.
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إيَّاكُم ومحقَّراتِ الذُّنوبِ، فإنَّهنَّ يجتَمعنَ على الرَّجلِ حتَّى يُهْلِكْنَه" وإنَّ رسولَ اللهِ ضرَبَ لهنَّ مثلًا؛ "كمَثلِ قومٍ نزَلوا أرضَ فلاةٍ، فحضَر صَنيعُ القَومِ، فجعَل الرَّجلُ ينطَلقُ فيجيءُ بالعودِ، والرَّجلُ يَجيءُ بالعودِ، حتَّى جمعوا سَوادًا، وأجَّجوا نارًا، وأنضَجوا ما قذَفوا فيها" [صححه الألباني].
وقال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "إنكم لتعملون أعمالًا، هي أدقُّ في أعينِكم منَ الشعرِ، إن كنا لنعدُّها على عهدِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من الموبقاتِ".
إخوة الإيمان: إن إدمان الذنوب له آثاره السيئة المتنوعة، فمن أضراره المُرَّة: ظلمة وقسوة يجدها العاصي في قلبه؛ ففي الحديث عند مسلم: " تُعرَضُ الفتنُ علَى القلوبِ كالحصيرِ عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَ فيهِ نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنكرَها نُكِتَ فيهِ نُكتةٌ بَيضاءُ حتَّى تصيرَ علَى قلبَينِ: علَى أبيضَ مِثلِ الصَّفا، فلا تضرُّهُ فتنةٌ ما دامتِ السَّماواتُ والأرضُ، والآخرُ أسوَدُ مُربادًّا كالكوزِ مُجَخِّيًا، لا يعرِفُ معروفًا، ولا ينكرُ مُنكرًا، إلَّا ما أُشرِبَ مِن هواهُ".
ومن آثار إدمان الذنوب: أن المعاصي يجر بعضها لبعض، ويولِّد بعضها بعضا، والله -سبحانه- قد نهانا عن اتباع خطوات الشيطان، والمعاصي خطوات له.
ومن ثمار إدمان المعاصي: إلف الذنب حتى يصير عادة، يقول ابن القيم: "حتى إن كثيرا من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها، ولا داعية إليها، إلا لما يجد من الألم بمفارقتها" ا. هـ .
ومن شؤم إدمان الذنوب: استهانة العبد بمعصيته لربه، واستصغاره لها، وهذا مؤشر خطر، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إنَّ المؤمنَ يرى ذنوبَه كأنه قاعدٌ تحت جبلٍ يخاف أن يقعَ عليه، وإن الفاجرَ يرى ذنوبَه كذبابٍ مر على أنفه، فقال به هكذا. قال أبو شهابٍ بيده فوقَ أنفِه".
قال ابن القيم: "ومن عقوباتها: أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال معلولا لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه، فإن تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان" ا. هـ.
ومن آثار كثرة المعاصي: أنها إذا تكاثرت طبعت على قلب صاحبها، فكان من الغافلين؛ ففي الحديث عند أحمد والترمذي وابن ماجة وحسنه الألباني: "إنَّ المؤمنَ إذا أذنبَ كانت نكتةٌ سوداءُ في قلبِه، فإن تاب ونزع واستغفرَ صقلَ قلبُه، فإن زاد زادت، فذلك الرَّانُ الذي ذكرَه اللهُ في كتابِه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين:14]".
قال الحسن: "هو الذنب على الذنب، حتى يعمى القلب" ا. هـ.
ويكفي أن إدمان المعاصي من أسباب سخط الله، وعقابه في الدنيا، وفي القبر، ويوم القيامة.
ومن أراد الاستزادة في هذا الموضوع، فليرجع إلى كتاب: "الداء والدواء" لابن القيم -رحمه الله-.
رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يورثُ الذلَ إدمانُها
وترك الذنوبِ حياةُ القلوب *** وخيرٌ لنفسك عصيانها
إخوة الإسلام: من العباد مدمن خمر، ومنهم مدمن دخان، ومنهم مدمن غيبة، ومنهم مدمن كذب، ومنهم مدمن حسد، ومنهم مدمن حلق لحية، ومنهم مدمن نوم عن الصلاة، ومنهم مدمن نظر محرم، ومنهم مدمن سماع محرم، ومنهم .. ومنهم ..
وحالنا -عباد الله- متفاوتة مع الذنوب كثرة وقلة، منا سريع الندم والتوبة، ومنا دون ذلك، ومنا المصرّ.
إن إدمان الذنوب يستوجب منا مراجعة لحالنا، ومحاسبة لأنفسنا.
ألا تنظر كيف أنه سبحانه يتحبب إلينا بنعمه مع غناه عنّا، ونحن نتبغض إليه بالمعاصي مع فقرنا إليه؟!
خيره ينزل إلينا، وشرنا يصعد إليه!.
فلا إحسانه وبره وإنعامه يصدنا عن معصيته، ولا ذنوبنا ولؤمنا يقطع إحسانه.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف: 23].
(رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران:16].
(رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)[المؤمنون:118].
الحمد لله القائل: (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ)[الجاثية:21].
وصلى الله وسلم على رسوله الذي كان يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فأوصي نفسي وإياكم بتجديد التوبة، وأن نجاهد أنفسنا أن يكون ما بقي من أعمارنا خيرا مما مضى.
ولا شك أن ترك الذنب الذي أدمن العبد عليه، فيه مشقة، ولكن لنتذكر أن الجنة حفت بالمكاره، وأن النار حفت بالشهوات.
وهذه علاجات أذكر بها نفسي المقصرة وإخواني:
أولا: لننطرح بين يدي الله، نسأله الهداية والتوبة النصوح، فإن المعصية ضلال، ولنتحر أوقات الإجابة، وقد قال سبحانه في الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم"[رواه مسلم].
وثانيا من العلاجات: احرص على ما يغذي إيمانك، ويذكرك بآخرتك، فإنه إذا قوي الإيمان كرهت المعصية، وضعف وازعها في القلب: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[النحل: 99].
استمع تلاوة خاشعة، زر مقبرة، استمع موعظة، صل نافلة.
وثالثا: جاهد نفسك: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الملك:2].
وقد وعد الحق -سبحانه-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[العنكبوت:69].
ووعد الله حق.
ومن مجاهدة النفس: إبعادها عن المواطن والأسباب التي تجرها إلى المعصية، سواء أكانت جليسا أو مكانا، أو غيره.
وليحرص العبد على استصلاح قلبه؛ ففي الحديث: "ألا وإن في الجسدِ مُضغَةً، إذا صلَحَتْ صلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدَتْ فسَد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ"[أخرجه الشيخان].
ورابعا: عند ضعفنا ووقوعنا في المعصية: الندم والتوبة، ثم الحرص على فعل عمل صالح، أو أعمال صالحة، قال سبحانه: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)[هود:114].
إخوة الإيمان: هاهنا تنبيه: إذ أن بعض الناس عندما يتوب ويرجع للمعصية، وتتكرر منه التوبة، ثم المعصية، ييأس، يترك التوبة، ويستسلم.
وهذا خطأ، فما دمت ندمت على عصيانك، وأقلعت وعزمت أن لا تعود، ورددت الحقوق، إن كانت للناس، فتوبتك صحيحة، ولا أحد يحول بينك وبين ربك، ولو أذنبت آلاف المرات، ما دمت تتوب صادقا: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)[البقرة: 222].
ففي الحديث الذي أخرجه مسلم: "أذنَب عبدٌ ذنبًا، فقال: اللهمَّ! اغفِرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنَب عبدي ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنبَ، ويأخذ بالذَّنبِ، ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربِّ! اغفرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغفرُ الذنبَ، ويأخذُ بالذنبِ، ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربِّ! اغفرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنبَ عبدي ذنبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغفرُ الذنبَ، ويأخذ بالذنبِ، اعملْ ما شئت، فقد غفرتُ لك".
قال عبدُ الأعلى:" لا أدري أقال في الثالثةِ أو الرابعةِ: اعملْ ما شئت".
ويخطئ بعض الناس عندما يتكرر عوده للذنب بعد التوبة، فيعاهد ربه: أن لن يفعل، أو يحلف أيمانا: أنه لن يفعل.
فهذا لم يأمرنا به الشرع، وإنما أمرنا بالتوبة دون العهد، أو الحلف.
وبعض الناس ربما حلف أو عاهد ربه فضعف ووقع في الذنب، فصارت نفسه في حرج وضيق، والعمل بما في الشرع كفاية، والله غفور رحيم.
وهاهنا ملحوظة أخرى: فبعض الناس ربما وقع منه الذنب في السر، فكشف عن ذلك، لئلا يكون مرائيا.
وهذا خطأ، بل إنه بذلك أضاف إلى إثم المعصية إثم المجاهرة، وفي الحديث الصحيح: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين".
وإن لم يتب العاصي فلا أقل من الاستغفار والاستكثار من الصالحات، ليزاحم سيئاته عسى الله أن يعفو عنه ويرحمه.
وختاما -عبد الله- أرع سمعك لهذا الحديث الذي أخرجه الشيخان، قال عليه الصلاة والسلام: "ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه ربُّه ليس بينه وبينه تَرجُمانٌ، فينظر أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عملِه، وينظر أشْأَمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يدَيه فلا يرى إلا النّارَ تلقاءَ وجهِه، فاتَّقوا النَّارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ".
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف:23].
(رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ)[آل عمران:193].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي