واعْلموا أنَّه قد كثُرَ الحديث, عن العين وأثرِها, وانْتشارِها وضررِها, وبالَغَ الكثيرُ من الناس في الخوف منها, حتى أصْبحت حديث كثيرٍ من المجالس, وإذا ألمَّ بأحدهم مرضٌ أو مُصيبة, عزاه للعين أو السحر, فكثُر سوق الرُّقاةِ الصادقين والدَّجالين, وكلُّ هذا ...
الحمدُ لله ربِّ العالمين, غرس في بعضِ القلوب الإيمانَ واليقين, فلمْ تخش ولم تخفِ الساحرين والعائنين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعلَ التوكُّل والثقةَ به, نجاةً ومعونةً في الدنيا ويومِ الدين, وحِرْزاً من الشياطين والحاسدين.
وأشهد أن نبينا محمداً عبدُ الله ورسوله، النبيُّ الصادقُ الأمين, صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين كانوا للخير سابقين, ولِشرعِ الله مُطبِّقين, وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعْلموا أنَّه قد كثُرَ الحديث, عن العين وأثرِها, وانْتشارِها وضررِها, وبالَغَ الكثيرُ من الناس في الخوف منها, حتى أصْبحت حديث كثيرٍ من المجالس, وإذا ألمَّ بأحدهم مرضٌ أو مُصيبة, عزاه للعين أو السحر, فكثُر سوق الرُّقاةِ الصادقين والدَّجالين, وكلُّ هذا من الجهل في الدِّين.
واعْلموا -معاشر المسلمين- أنَّ هناك طُرقاً صحيحة, وطرُقاً خاطئة, للوقاية من العين والسحر, فالمؤمنُ العاقل هو الذي يسلك الطُرُقَ الصَّحيحةَ السليمة, ويبتعدُ عن الخاطئةِ السقيمة.
فمن الوسائلِ النافعة السليمة: عدمُ إظْهار المحاسن والمفاتن, وخاصةً من الصبيان والنساء, فالمبالغةُ في اللباس والزينة, مع ما يُصاحبُها من العجب والبَطَر غالباً؛ تجعلُ صاحبها مُعرَّضاً للعائنين والحاسدين.
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن علاج ذلك والاحترازِ منه, سترُ محاسن مَن يُخاف عليه العَيْن, بما يردُّها عنه". اهــ.
فهذا السبب لا بأس به, وهو وسيلةٌ لسدِّ الفتن والْمُغرَيات.
ومِنها أيضاً: الْمواظبةُ على الأورادِ والأذكار, وقراءتُها بتأمُّلٍ واسْتشعار, ويقينٍ بنفعها, وإيْمانٍ بِجَدْواها, فأكثرُ الناس يقرؤها دون تأمُّلٍ لِمَعانيها, بل ربَّما شَرَدَ ذِهْنُه أثناء قراءتها, فحينها لا تؤتي الأورادُ أُكُلَها, ولا تُحصِّن صاحبَها, إلا أن يشاء الله.
ومن التعوُّذاتِ والرُّقَى الإكثارُ من قراءة المعوِّذتين، وفاتحةِ الكتابِ، وآيةِ الكُرسي، ومنها التعوذاتُ النبوية, نحو: "أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ مِن شرِّ ما خَلق".
ومنها: "اللَّهُمَّ أنت ربِّي لا إله إلا أنتَ، عليك توكلتُ، وأنتَ ربُّ العرشِ العظيم، ما شاء اللهُ كان، وما لم يشأْ لم يكن، لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله، أعلم أنَّ اللهَ على كُلِّ شيء قديرٌ، وأنَّ الله قد أحاط بكل شيء علماً، وأحصَى كُلَّ شيءٍ عدداً، اللَّهُمَّ إني أعوذُ بِكَ مِن شَرِّ نفسي، وشَرِّ الشيطانِ وشِرْكه، ومِن شَرِّ كُلِّ دابةٍ أنتَ آخذٌ بناصيتها، إنَّ ربِّي على صِراط مستقيم".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومَن جرَّب هذه الدعوات والعوذ، عَرَفَ مِقدار مَنْفعتها، وشِدَّةَ الحاجةِ إليها، وهي تمنعُ وصول أثر العائن، وتدفعُه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها، وقوةِ نفسه واستعدادِه، وقوةِ توكله وثباتِ قلبه، فإنها سلاح، والسلاحُ بضاربه". اهـ.
تأملوا قوله: فإنها - أي الرقى والأذكار- سلاح، والسلاحُ بضاربه. فالرقى والأذكار, سلاحٌ قاطع, وعلاجٌ نافع, لا بدّ أنْ يكون مُوردُها صحيحَ الإيمان, سليمَ الجنان, واثقاً مُتوكلاً على الملكِ الديَّان.
فمَن يُدْمِن على هذه الأدعيةِ وغيرِها, بيقينٍ وإيمان, وتوكّلٍ على الرحيم الرحمن, فكيف ستصيبه سهامُ الشياطين, وقد اسْتجار بالله رب العالمين؟ كيف ستصيبه عينٌ مِن أَتْفَهِ البَشَر, وقد لاذ واعْتصمَ بالله المقتدر؟.
إنه التوكل على الله وحده, وعدمُ الخوف من هؤلاء العائنين أبداً, ولو هدَّد وتوعَّد, بأنْ يُصيبَه بالعين إن لم يفعلْ ما طَلَبْ.
وإن من المحزن حقا, ما نراه مِمَّن قلَّ يقينه, وضعُفَ إيمانه, من والخوف والهلع, والجُبْن والفزع, من العائنين والسَّحرة, حتى وصل الحال ببعضهم أنه يَكتم ويُخفي ما أنعم الله عليه خشيةَ العين, وإذا سُئل عن حاله ومعيْشته, تظاهر بأنها سيِّئةٌ رديئة, قليلةٌ مُتردِّية, فهو اتَّخذ ذلك وسيلةً لدفعِ العين, لكنَّها وسيلةٌ خاطئةٌ آثمة؛ لأنها تَجْمع بين مفسدتين عظيمتين, ومَعْصيتين كبيرتين:
المفسدةُ والمعصيةُ الأولى: جحدُ نعمة الله عليه, فالله يُعطيه, فينكر عطاءه, ويُنعم عليه, فيُنكر نِعَمَه, بحجَّةِ الخوف من العين, وقد قال الله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-, بعد أنْ عدَّد عليه نعمه وآلاءه: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى:11].
قال ابن كثير -رحمه الله-: أي: وكما كنت عائلا فقيرًا فأغناك الله، فحدِّث بنعمة الله عليك، كما جاء في الدعاء المأثور النبوي: "واجعلنا شاكرين لنعمتك, مثنين بها".
وعن أبي نضرة قال: كان المسلمون يرون, أن مِن شكر النِّعَم أنْ يحدِّث بها. اهــ.
المفسدةُ والمعصيةُ الثانية: ضعفُ إيمانِه ويقينِه بالله, وانْعدامُ ثقته بحفظِ الله.
فأين يقينُه بالأذكار والأوراد, التي هي حِرزٌ متين, وحِصْنٌ حصين, من العائن والساحرِ والشَّيطانِ الرَّجيم؟.
أين إيمانه بقول الله -جل وعلا-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]؟ أين إيمانه بقول الله -تعالى-: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:175].
وقد تسببَّ هذا الخوفُ من العائنين أنْ جعلهم متسلِّطين على الناس, حتَّى أصْبح بعضُ هؤلاء العائنين, يُهدِّد أنْ يُصيبَ بالعين من لم يمْثلْ لطلبه, ويفعلْ ما يريد, ولم يجد أحداً يردَعُه ويُخوِّفه بالله.
يقول أحدُ طلابِ العلمِ -وفَّقه الله- في هذه المحافظةِ المباركة: عندما عملت في إحدى الدوائر الحكومية, وخالطت الموظفين, تعجبت من أحد الموظفين, قد اشْتُهِر بينهم بأنه عائن, وأنه لا يكاد يخطئ مَن أراد إصابتَه بالعين, وكانوا يَفْرقون منه ويخافونه؛ لخوفهم أن يصيبهم بالعين.
ونَتَيِجَة ذلك طغى وتكبر عليهم, حتى إن بعضهم عندما يخطئ عليه سهواً يسارع بطلب العفو والصفح منه, خوفاً من ذلك.
ولم يكتف هذا العائنُ بذلك, بل جعل هذا الأمر دَيْدَنَهُ في كلِّ ما يطلبه, أو يأمر به أو ينهى عنه.
ووصل بهمُ الخوفُ والرُّعبُ منه, أنَّه كلَّما مرض منهم أحد, جاء إليه يطلب منه أن يقرأ عليه, أو يعطيه شيئاً من فضول مائه وما أشبه ذلك.
ولَمَّا رأيت ذلك قلت: سبحان الله! أين التوكل على الله؟ أين الاستجابة لقوله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)؟, أين المحافظون على الأذكار؟ فالله يحفظ من يحفظه.
فذهبت إليه ناصحاً ومحذِّرا, فقلت له: سأروي لك يا فلانُ قصةً, لعلها تكون لك عبرة وعظة, فذكرت له القصة التي ذكرها ابن القيم....
قال: فتعجَّب منها ومِن دعاء الرجل الصالح, وقلت له: اتق الله, ولا تتعرض لأحد, وإلا دعوتُ عليك بهذا الدعاء, ثم لا ينفعك الندم، فدعوةُ المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.
ولأول مرةٍ يسمع أحداً يُهدِّده ويُخوِّفه بالله, فرأيت علاماتِ الخوفِ والإذْعانِ عليه, فتغيَّرت حاله بعد ذلك, وذهب واعتذر لكلِّ من آذاه, وتعهد أن يذكرَ الله ويدعو بالبركة عندما يرى ما يُعجبه, وحَسُن حاله كثيراً.
فهكذا يجب علينا أنْ نكون, مُوقنين واثقين بالله, ولا نخشى من العائنين أبداً, بل يجب أنْ نُناصحهم ونُنْكرَ عليهم, فإنَّه لن يُصيبَنا شيءٌ لم يكتبْه الله علينا.
ولنستحضرْ ما رواه الترمذيُّ وصححه, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا، فَقَالَ: "يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ".
نسأل الله -تعالى- أنْ يعيذنا من شرّ العائنين والساحرين, وأنْ يرزقنا الثقةَ واليقين بالله رب العالمين, إنه سميعٌ قريبٌ مجيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الرحيمِ الغفار, مَنَّ علينا بالغيثِ والأمطار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم الظواهر والأسرار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيراً ما تعاقبَ الليلُ والنهار.
أما بعد: أيها المسلمون: لقد تفضَّل الله -تعالى- علينا, بأنْ سقانا من الغيث والمطر, فأروى أرضنا, وشرح صدورنا, وأحيا بلدنا, فهو الرحيمُ أنزل رحمته, (وَهُوَ الَّذِي يُنزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى:28].
نعم, هو الولي, الذي يتولى عباده بأنواع التدبير، ويتولى مصالحهم بالحفظِ والتيسير؛ وهو الحميد, أي: المحمود في ولايته وتدبيره، المحمود على ما له من الكمال، وما أوصله إلى خلقه من أنواع الإفضال.
وإنَّ الواجب علينا تجاه هذه النعمة العظيمة, أنْ نحمد الله ونشكرَه عليها, وأنْ تكون سبباً للطَّاعةِ والعبادة, لا المعصيةِ والمخالفة.
فينبغي لمن خرج للنُّزهة أنْ يلهجَ لسانُه بالحمد والثناء, وأنْ يتضرَّع لخالقه بالدعاء, بأنْ يزيد في الخير والعطاء.
وأنْ يحرص على إخْراجِ أهله, ليُشاهدن ويتمتَّعْن بهذه النعمة, ولْيحرصْ على سَتْرهن وحِفظِهنّ, وألا يبدو من أجسادهنّ شيء.
ويجب كذلك حفظ المكان, وألا يُلقَى في الأرض الأوساخُ والقاذورات, وكلُّ ما تبقَّى مِن مُخلَّفاتٍ ونفايات, فينبغي إحراقُها بالنار, وأنْ يُتْركَ المكان بعد الجلوس فيه نظيفاً خالياً من الأشياء التي تؤذي الآخرين.
ولْيتنبَّهِ الكثيرُ من الشباب إلى أنَّ مُخاطَرتهم بالصُّعود والنزول بالسيارة, بين الكثبان الرملية أمرٌ منكَرٌ لا ينبغي فكم أُزْهقَتْ أرواحٌ بسببه! وكم أُهْدِرتْ من سيَّارةٍ ومركبة! فخسروا أموالهُم, وضيعوا أوقاتهم.
فينبغي للعاقل أنْ يتجنَّب مثل هذه السفاهات, والمخاطرات، وإضاعة الأوقات.
نسأل الله أن يُتابع علينا نعمةَ الأمطار, وأن يجعلَها مُباركةً نافعة, عامَّةً شاملة, إنه على ذلك قدير, وبالإجابة جدير.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي