جفاء العلم صد عن سبيل الله

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. فضل العلم الشرعي وأهمية الاشتغال به .
  2. ظاهرة العزوف عن طلب العلم   .
  3. أسباب العزوف عن العلم   .
  4. نتائج العزوف المرة وثماره الخبيثة   .
  5. الحث على التفرغ لطلب العلم. .

اقتباس

إن جفاء العلم الشرعي والعزوف عنه وهجر مجالسه وحلقه أمر خطير ستكون له نتائج وخيمة وثمرات خبيثة، ومن أعظمها الجهل بالله والجهل بدينه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ وإذا جهلنا ديننا وخلت قلوبنا من العلم الشرعي الذي يغرس في قلوبنا عظمة الله وخشيته فلنعلم أن هلاكنا قريب، وعاقبتنا ستكون أليمة...

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا بِإِنْعَامِهِ عَلَيْنَا خَيْرَ أُمَّةٍ، وَمَنَحَنَا الأَنَفَةَ مِنَ الْجَهْلِ، وَعُلُوَّ الْهِمَّةِ، وَرَزَقَنَا حِفْظَ الْقُرْآنِ وَالْعُلُومِ الْمُهِمَّةِ، وَشَرَّفَنَا بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، نَبِيِّ العلم والرَّحْمَةِ -صلى الله عليه وسلم-، وَعَلَى مَنْ تَبِعَ طَرِيقَهُ وَأَمَّهُ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَا اخْتَلَفَ ضَوْءٌ وَظُلْمَةٌ.

أَمَّا بَعْدُ:

عباد الله: إن العلم الشرعي هو أشرف العلوم وأعزها وأفضلها عند الله -سبحانه وتعالى- لأنه متعلق بمصدرين عزيزين جليلين، هما أعظم المصادر وأشرف المراجع،  إنه كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

ولذلك فإن الاشتغال به وتعلمه وتعليمه يعد من أعظم العبادات وأجل الطاعات، ويكفينا في ذلك قول الله -سبحانه وتعالى-: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران : 18]. ففي هذه الآية العظيمة دليل على شرف العلم، حيث قرن الله -سبحانه وتعالى- شهادة أهل العلم بشهادته وشهادة ملائكته، وكفى بذلك فضلاً للعلم وأهله، بل جعل أهل العلم شهداء على خلقه وحجة على عباده.

ويقول الله -سبحانه وتعالى- مبيناً فضل العلم ومنزلة العلماء: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر : 9]، وقال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) [المجادلة : 11].

أيها المسلمون: مع هذه الفضائل الجمة للعلم، ومع كثرة الآيات والأحاديث المبينة لفضله والحاثة على طلبه، إلا أننا نرى في زماننا هذا جفاء خطيراً وعزوفاً كبيراً عن طلب العلم، وبعداً واضحاً عن مجالس العلماء وحلقهم.

نجد كثيراً من الناس -وخاصة من الشباب- من اشتغل بجميع العلوم، وتخصص في جميع الفنون، ولا تجد تخصصاً من التخصصات الدنيوية إلا وتجد فيه كليات خاصة وجامعات متخصصة، يفد إليها الطلاب من كل حدب وصوب. لكن حينما تنظر إلى حلق العلم الشرعي ومجالس العلماء وعدد الذين يحرصون على حضور الدورات الشرعية تجد أنهم قليل جداً بالنسبة إلى أولئك، وتجد القليل من هؤلاء القليل من يستمر في تلك الحلق، ويواظب على حضور تلك المجالس والدروس.

إنها ظاهرة خطيرة جداً تنذر بشر مستطير، ونتائج وخيمة، وجهل مستقبلي بل وواقعي يعيشه الناس في مجال دينهم وعباداتهم. فانظر على مستوى البلدة الواحدة أو المدينة التي تعيش فيها كم فيها من طلاب متخصصون في التخصصات الدنيوية؟! وكم فيها من طلاب علم شرعي فرغوا أنفسهم عند العلماء وجثوا بركبهم في مجالسهم ونذروا أنفسهم للعلم وتلقيه؟!.

ربما تجد مدناً بأكملها مع ما فيها من كثافة سكانية وطاقات بشرية إلا إنك لا تجد بينهم عالم من علماء الشريعة، ولا تجد فيهم من يدفع بأبنائه نحو طلب العلم الشرعي، ولا تجد عندهم من يفتيهم في مسائل الدين وأحكامه. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوسا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" [البخاري (100) مسلم (2673)].

أيها الناس: لاشك أن هناك أسباب أدت إلى حدوث هذه المشكلة، وانتشار هذه الظاهرة، ومن أهمها: الانشغال بالدنيا والحرص عليها، حيث صار أكثرنا يفكر في دنياه، ويحرص على العلم الذي يرى أنه سيؤمن مستقبله، ويحسنّ دخله، ويجعله يحصل على الوظيفة في أسرع وقت.

وبعض الناس أثرت فيهم الدعايات التضليلية التي يبثها أهل الريب والنفاق على العلماء وطلاب العلم، فصاروا يرتابون منهم ويتحرجون من حضور مجالسهم، ويعتقدون أنهم سيسممون عقول أبنائهم بأفكار متطرفة، أو أنهم سيجننّوهم بذلك العلم الذي يدّرسونه، أو يقولون لهم أنكم تضيعون مستقبل أبنائكم عند هؤلاء.

وهذه كلها تهم باطلة وافتراءات لا حقيقة لها، فالعلماء الربانيون لا يدعون إلا إلى كتاب الله وسنة رسول الله، وليس فيهم من الغلو والتطرف شيء، وليس من المعقول أبداً أن يكون علم الشريعة سبب للجنون أو خبل العقول، ومن يعتقد ذلك فعليه أن يراجع نفسه ويصحح اعتقاده.

صحيح أن بعض الناس ربما سلك سبيل العلم وطلبه ثم فشل في ذلك، أو أصابه شيء من التعقد والتقهقر، لكن ذلك عائد إلى الشخص نفسه وخطؤه إما في المنهجية التي يتلقى العلم بها، أو العشوائية والمزاجية التي يسير عليها، وليس الخلل في العلوم الشرعية نفسها.

وبعض الناس يظن أن العلم الشرعي لا حاجة له في زماننا هذا الذي انتشرت فيه وسائل التقنية الحديثة، وصارت فيه العلوم الإسلامية مخزنة على الأقراص والحواسيب، وهذا ظن خاطئ جداً، فالعلم يحفظ في الصدور لا في السطور، والله -سبحانه وتعالى- أثنى على أهل العلم لأنهم أهل القلوب الحية بالخشية المليئة بالعظمة له -جل جلاله- فقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر : 28]، وقال: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت : 43] أي لا يفهم ولا يتدبر تلك الأمثال التي يضربها الله للناس ولا يعقلها في قلبه إلا أهل العلم، الذين وصل العلم إلى قلوبهم فأثمر فيها محبة الله وخشيته.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله البرّ الرحيم، الواسع العليم ذي الفضل العظيم، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد النبي الكريم، أعلم الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله صلاة وسلاماً إلى يوم الدين.

ثم أما بعد:

عباد الله: إن التخلي عن العلماء والبعد عن محاضراتهم ودروسهم وعدم الرجوع إليهم جعل كثيراً من العلماء يتخلون عن التفرغ لتدريس العلوم الشرعية، ويزهدون في إقامة الدورات الشرعية المستمرة، وفتح المراكز العلمية المفتوحة، وانشغلوا بأمور أخرى خيرية أو إغاثية أو غيرها، وما ذلك إلا لأنهم لم يجدوا منا إقبالاً عليهم ولا حضوراً في مجالسهم، ولا تشجيعاً لهم.

إن الواجب علينا أن نستشعر عظمة العلم الشرعي وأهميته، وفهم النصوص الشرعية التي أمرت بتعلمه وحثت على طلبه، وأمرت بتعظيم العلماء الربانيين وإجلالهم. وإذا لم نستشعر قيمة هذه النصوص وإذا لم نفهمها حق الفهم فإننا لن نتوجه للعلم ولن نتفرغ لطلبه، ولن ندفع بأبنائنا إلى العلماء ليربوهم بصغار العلم قبل كباره، وبأصوله قبل فروعه.

إن جفاء العلم الشرعي والعزوف عنه وهجر مجالسه وحلقه أمر خطير ستكون له نتائج وخيمة وثمرات خبيثة، ومن أعظمها الجهل بالله والجهل بدينه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ وإذا جهلنا ديننا وخلت قلوبنا من العلم الشرعي الذي يغرس في قلوبنا عظمة الله وخشيته فلنعلم أن هلاكنا قريب، وعاقبتنا ستكون أليمة شديدة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ، يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً، وَتَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، وَأَمَانَاتُهُمْ، فَاخْتَلَفُوا، وَكَانُوا هَكَذَا؟، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، قَالُوا: كَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: تَأْخُذُونَ بِمَا تَعْرِفُونَ، وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى خَاصَّتِكُمْ، وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَوَامِّكُمْ" [ابن ماجة (3957)].

إن نبينا -صلى الله عليه وسلم- يخبرنا بهذا الزمان الذي يُغربل الناس فيه غربلة، أي يذهب خيارهم وفضلاؤهم ويبقى شرارهم وأراذلهم، كالدقيق عندما  يغربل، يتساقط الدقيق وتبقى حثالته أي الرديء منه في المنخل، وهكذا الناس يذهب علماؤهم وخيارهم وصالحيهم ويبقى أراذلهم الذين لا يبالي الله بهم، فهل نرضى أن نكون كذلك؟.

عباد الله: لقد أرشدنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى الالتفاف نحو خاصتنا وعلمائنا، ولنأخذ بما نعلم ونعرف، وندع ما نجهل وننكر، ونحذر من الاغترار بالعوام والسير خلفهم، فإن السير خلف العوام والجهال مضرة، والسير خلف العلماء والخاصة خير وفلاح.

علينا أن نشجع أبناءنا على طلب العلم الشرعي، ومواصلة الطلب فيه، والنهل من علومه النافعة، والاستفادة من علمائه الفضلاء وأئمته النبلاء، ولو دفعت كل أسرة أو قبيلة بواحد من أبنائها وفرغته لطلب علوم الشريعة وجعلته وقفاً على العلم وتعلمه لكان في ذلك نفعاً عظيماً لهم قبل غيرهم، وشرفاً لهم ورفعة في الدنيا قبل الآخرة. يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون) [التوبة : 122]. ويقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ" [البخاري (71) مسلم (1037)]. وقال -عليه الصلاة والسلام-: "فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ" ثُمَّ قَالَ: "إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأهْلَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الخَيْرَ" [الترمذي (2685)].

صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم جل جلاله بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

اللهُمَّ قو إيماننا بفهم شريعتك، وارزقنا العمل بها، وزدنا علماً ينفعنا، وأصلح نياتنا، ووفقنا لذكرك وشكرك.

اللهم يا عليم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي