متاع الغرور

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. الدنيا عرض زائل ومتاع فانٍ .
  2. أقسام متاع الحياة الدنيا .
  3. أسباب الفوز بالمتاع الحسن في الدنيا .
  4. الفرق بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة .
  5. قيمة الدنيا ومتعها في السنة النبوية .
  6. حرص السلف الصالح على التقلل من الدنيا .
  7. وصية جامعة .

اقتباس

إِنَّ الدُّنْيَا مَتَاعُ الْغُرُورِ، وَلَا يَبْقَى فِيهَا مَتَاعٌ عَلَى حَالِهِ؛ فَجَدِيدُهَا مَعَ الْأَيَّامِ يُصْبِحُ قَدِيمًا، وَيُصِبُح جَمِيلُهَا دَمِيمًا، وَحَسَنُهَا قَبِيحًا، وَقَوِيُّهَا ضَعِيفًا، وَشَبَابُهَا هَرِمًا، وَأَجْمَلُ نِسَاءِ الدُّنْيَا يَعْمَلُ الزَّمَنُ فِيهَا عَمَلَهُ فَتَصِيرُ عَجُوزًا لَا يَرْغَبُهَا أَحَدٌ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا أَحَدٌ. وَأَحْسَنُ مَنَازِلِهَا، وَأَجْمَلُ سَيَّارَاتِهَا، وَأَفْخَمُ أَثَاثِهَا، يُصْبِحُ مَعَ الزَّمَنِ قَدِيمًا تَالِفًا لَا يُسَاوِي شَيْئًا.. وَأَمَّا الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا فَلَا شَبَابُهَا يَبْلَى، وَلَا حَسَنُهَا يَقْبَحُ، وَلَا جَمَالُهَا يَزُولُ، وَلَا نَضْرَتُهَا تَذْهَبُ... لَا يَمْرَضُونَ فِيهَا وَلَا يَهْرَمُونَ وَلَا يَمُوتُونَ...

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ للَّـهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ؛ خَلَقَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَأَمَرَ الْعِبَادَ بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالمَعَاصِي وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمٍ أَكْمَلَهَا، وَعَافِيَةٍ أَتَمَّهَا، وَمَصَائِبَ خَفَّفَهَا، وَبَلَايَا صَرَفَهَا، وَهُوَ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، لَوْ بَسَطَ الرِّزْقَ لَهُمْ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ (وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى: 27].

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان: 2] خَلَقَ الْبَشَرَ، وَقَدَّرَ أَرْزَاقَهُمْ وَآجَالَهُمْ، فَلَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، وَلَنْ تَنَالَ أَكْثَرَ مِمَّا قُدِّرَ لَهَا.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ خَيَّرَهُ اللهُ تَعَالَى بَيْنَ المُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، وَبَيْنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَرَفَضَ المُلْكَ وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا، وَقَالَ: «لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّـهِ، وَرَسُولُهُ» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا مِنْ مُرُورِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ مُعْتَبَرًا، وَاتَّخِذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا يَكُونُ لِلْجَنَّةِ مَعْبَرًا؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا مُغِرَّةُ الْأَغْرَارِ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ دَارُ الْقَرَارِ، وَالْجَنَّةَ مُسْتَقَرُّ الْأَخْيَارِ، وَالنَّارَ دَارُ الْفُجَّارِ (أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) [الفرقان: 24].

أَيُّهَا النَّاسُ: فِي نِهَايَةِ عَامٍ وَبِدَايَةِ آخَرَ تَذْكِيرٌ لِلنَّاسِ بِدُنْيَاهُمْ، وَدُنُوِّهِمْ مِنْ آجَالِهِمْ، وَاقْتِرَابِ آخِرَتِهِمْ. وَكُلُّ يَوْمٍ يَمُرُّ عَلَى الْعَبْدِ فَيَجِبُ أَنْ يُذَكِّرَهُ بِمَسِيرِهِ إِلَى اللَّـهِ –تَعَالَى- وَإِدْبَارِهِ عَنِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْمُوعَةُ أَيَّامٍ يَعِيشُهَا، كُلَّمَا انْقَضَى يَوْمٌ ذَهَبَ بَعْضُهُ، حَتَّى إِذَا أَمْضَى أَيَّامَهُ كُلَّهَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ فَصَارَ جُثَّةً هَامِدَةً.

إِنَّ الدُّنْيَا مَتَاعُ الْغُرُورِ الَّذِي يَغُرُّ صَاحِبَهُ فَيَتْرُكُ لِأَجْلِهِ مَا يَبْقَى، ثُمَّ يَفْنَى المَتَاعُ، أَوْ يُفَارِقُهُ صَاحِبُهُ، فَغَرَّهُ عَنِ الْعَمَلِ، وَفَارَقَهُ وَقْتَ حَاجَتِهِ لَهُ. وَفِي الْقُرْآنِ وَصْفٌ مُكَثَّفٌ جِدًّا لِلدُّنْيَا بِأَنَّهَا مَتَاعٌ، وَأَنَّهَا مَتَاعُ الْغُرُورِ، وَأَنَّ مَتَاعَهَا قَلِيلٌ فَلَا يَغْتَرُّ بِهَا إِلَّا مَغْرُورٌ (وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْكُفَّارِ (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ) [لقمان: 24].

وَالدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا مِنْ أَوَّلِ خَلْقِهَا إِلَى نِهَايَتِهَا وَبِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ زِينَةٍ وَعُمْرَانٍ وَمَلَذَّاتٍ لَيْسَتْ بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعًا قَلِيلًا (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى) [النساء: 77]، (وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) [الرعد: 26]، (أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ) [التوبة: 38]. وَالمَتَاعُ فِي أَصْلِهِ مُؤْذِنٌ بِالْقِلَّةِ وَهُوَ مَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ مُدَّةً، فَكَيْفَ وَقَدْ وُصِفَ بِالْقِلَّةِ؟!

وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- حِينَ أَهْبَطَ الْبَشَرَ إِلَى الْأَرْضِ بَيَّنَ أَنَّ مَتَاعَهُمْ فِيهَا مُؤَقَّتٌ، وَلَيْسَ دَائِمًا (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [البقرة: 36]، فَلِكُلِّ إِنْسَانٍ فِي الدُّنْيَا تَمَتُّعٌ مُدَّةً مَعْلُومَةً، هِيَ حَيَاتُهُ فِيهَا.

وَلَكِنَّ هَذَا المَتَاعَ الَّذِي يَتَمَتَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَتَاعًا حَسَنًا، وَهُوَ الْعُمُرُ الَّذِي قَضَاهُ الْإِنْسَانُ مُكْتَسِبًا دُنْيَاهُ مِنْ حَلَالٍ، وَيُنْفِقُهَا فِي الْحَلَالِ، وَأَدَّى حَقَّ اللَّـهِ -تَعَالَى- وَحُقُوقَ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَازْدَادَ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، فَهَذَا مَتَاعٌ حَسَنٌ، وَكُلَّمَا مَتَّعَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِعُمُرِهِ ازْدَادَ إِحْسَانًا. وَإِمَّا أَنْ يُمَتَّعَ الْإِنْسَانُ مَتَاعًا سَيِّئًا، وَهُوَ أَنْ يَقْضِيَ عُمُرَهُ مُكْتَسِبًا دُنْيَاهُ مِنْ حَرَامٍ، وَيُنْفِقُهَا فِي الْحَرَامِ، وَلَا يُؤَدِّي حَقَّ اللَّـهِ -تَعَالَى- وَلَا حُقُوقَ الْخَلْقِ عَلَيْهِ. وَكُلَّمَا زَادَ مَتَاعُهُ فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْهِ بِاكْتِسَابِ أَوْزَارٍ أَكْثَرَ، وَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ» وَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَسَاءَ عَمَلُهُ».

وَمُلَازَمَةُ التَّوْبَةِ وَكَثْرَةُ الِاسْتِغْفَارِ سَبَبَانِ لِلْمَتَاعِ الْحَسَنِ (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [هود: 3]، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي المَتَاعِ الْحَسَنِ: الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ الْهَانِئَةُ. وَهُوَ كَقَوْلِ اللَّـهِ -تَعَالَى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل: 97].

وَالزَّوْجَةُ الصَّالِحَةُ مَتَاعٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهَا تُذَكِّرُهُ إِذَا نَسِيَ، وَتُعِينُهُ إِذَا ذَكَرَ، وَتُقَوِّمُهُ إِذَا أَخْطَأَ، وَتَسُرُّهُ فِي نَفْسِهَا وَبَيْتِهَا وَوَلَدِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَكَمْ مِنْ زَوْجَةٍ فَتَحَتْ لِزَوْجِهَا أَبْوَابًا مِنَ الْخَيْرِ مَا كَانَ لَوْلَاهَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا! وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ اسْتَقَامَ دِينُهُ بِزَوَاجِهِ!

وَالْمَرْأَةُ السَّيِّئَةُ مَتَاعٌ سَيِّئٌ، تُزَيِّنُ لَهُ الْإِثْمَ، وَتُعِينُهُ عَلَى المُنْكَرِ، وَتُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ، فَتَكُونُ عَدُوًّا لَهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن: 14]، وَكَمْ مِنْ زَوْجَةٍ حَرَفَتْ زَوْجَهَا عَنِ الدِّينِ، وَزَيَّنَتْ لَهُ المُنْكَرَ؟! وَكَمْ مِنْ مُسْتَقِيمٍ انْقَلَبَ بَعْدَ زَوَاجِهِ إِلَى ضَالٍّ أَثِيمٍ!؟!

وَالْأَمْرُ بِالتَّمَتُّعِ فِي الْقُرْآنِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم: 30] وَذَلِكَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ الْإِنْسَانُ بِمَا يَرَى مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا فَيَرْكَنُ إِلَيْهَا وَيَنْسَى الْآخِرَةَ.

وَذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- جُمْلَةً مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا ثُمَّ خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ) [آل عمران: 14].

وَلَا أَبْلَغُ فِي دَحْرِ إِعْجَابِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِمَا عِنْدَ الْكُفَّارِ مِنْ حَضَارَةٍ وَصِنَاعَةٍ وَتَقَدُّمٍ مِنْ وَصْفِهَا بِأَنَّهَا مُجَرَّدُ مَتَاعٍ يَغُرُّ نَاظِرِيهِ، فَهِيَ إِلَى زَوَالٍ وَاضْمِحْلَالٍ (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) [آل عمران: 196- 197]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى (وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ) [لقمان: 23- 24].

وَمَنْ رَضِيَ بِدُنْيَاهُ دُونَ دِينِهِ، فَتَرَكَ الْإِيمَانَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا؛ تَمَتَّعَ بِدُنْيَاهُ قَلِيلًا ثُمَّ وَافَى عَذَابًا أَلِيمًا دَائِمًا، كَمَا تَمَتَّعَ هِرَقْلُ بِمُلْكِهِ سُنيَّاتٍ ثُمَّ زَالَ مُلْكُهُ وَمَتَاعُهُ وَبَقِيَ كُفْرُهُ وَعَذَابُهُ (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس: 69- 70].

وَمَنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ دِينِهِ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا يَنَالُهُ، فَكَذَبَ عَلَى اللَّـهِ -تَعَالَى- بِإِبَاحَةِ مُحَرَّمٍ، أَوْ إِسْقَاطِ وَاجِبٍ، أَوْ لَبْسِ حَقٍّ بِبَاطِلٍ، فَإِنَّمَا يَنَالُ مَتَاعًا زَائِلًا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل: 116- 117]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [يونس: 23].

وَلَا يَسْتَوِي مَتَاعُ الدُّنْيَا الزَّائِلُ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ الدَّائِمِ (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ) [القصص: 61]، وَالْوَعْدُ الْحَسَنُ هُوَ الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ؛ وَلِذَا تُسَمَّى الْحُسْنَى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس: 26]، وَالزِّيَادَةُ رُؤْيَةُ الرَّبِّ -سُبْحَانَهُ-، وَلَا نَعِيمَ فَوْقَ هَذَا النَّعِيمِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حَقَارَةِ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَقِلَّتِهِ قَوْلُ اللَّـهِ -تَعَالَى-: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لمَّا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 33- 35].

وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَلَوْلَا كَرَاهَةُ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى الْكُفْرِ وَيُطْبِقُوا عَلَيْهِ (لَّجَعَلْنَا) لِحَقَارَةِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا (لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ) مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا؛ وَلِحَقَارَتِهَا أَعْطَاهَا اللهُ -تَعَالَى- مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَمْ يُعْطِ الدِّينَ إِلَّا مَنْ أَحَبَّ لِأَجْلِ أَنَّ فَوْزَ الْآخِرَةِ عَظِيمٌ، وَمُلْكَهَا كَبِيرٌ (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان: 20].

وَجَاءَتْ أَحَادِيثُ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِتُؤَكِّدَ مَا جَاءَ فِي الْآيَاتِ مِنْ أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعُ الْغُرُورِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تَبًّا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» فقَالَ عُمَرَ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، قَوْلُكَ: تَبًّا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَاذَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لِسَانًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا شَاكِرًا، وَزَوْجَةً تُعِينُ عَلَى الْآخِرَةِ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

وَهَاجَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ هَاجَرَ وَمَتَاعُهُ قَلِيلٌ، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَتَاعِهِ فَنُقِلَ، وَمَتَاعُهُ قَلِيلٌ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

وَمَاتَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَتَاعُهُ قَلِيلٌ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلاَ دِينَارًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ أَمَةً وَلاَ شَيْئًا، إِلَّا بَغْلَتَهُ البَيْضَاءَ، وَسِلاَحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

أَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ) [الحديد:20].

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...

       

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْإِنْسَانَ مَهْمَا مُتِّعَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ مُفَارِقُهَا، وَقَدْ مَاتَ مُلُوكُ الدُّنْيَا، وَأَبَاطِرَةُ المَالِ، وَخَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ مَتَاعًا لَا يَكَادُ يُحْصَى مِنْ كَثْرَتِهِ فَلَمْ يَأْخُذُوا مِنْ دُنْيَاهُمْ مَعَهُمْ شَيْئًا (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ *  ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ  * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) [الشعراء: 206-207].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: تَرَبَّى الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى عَيْنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَسَارُوا عَلَى نَهْجِهِ فِي مَعْرِفَةِ أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعُ الْغُرُورِ، وَتَعَامَلُوا مَعَهَا بِهَذَا المَفْهُومِ؛ فَمَنْ أَغْنَاهُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْهُمْ نَظَرَ إِلَى غِنَاهُ نَظَرَ المُتَمَتِّعِ الَّذِي لَا يَدُومُ لَهُ مَتَاعُهُ، وَهُوَ مُفَارِقُهُ لَا مَحَالَةَ، فَأَنْفَقُوا الْأَمْوَالَ الطَّائِلَةَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَحَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى قَلِيلِ مَا بَقِيَ مَعَهُمْ.

وَلمَّا احْتُضِرَ سَلْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَكَى، وَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَهِدَ إِلَيْنَا عَهْدًا فَتَرَكْنَا مَا عَهِدَ إِلَيْنَا: أَنْ يَكُونَ بُلْغَةُ أَحَدِنَا مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ». قَالَ الرَّاوِي: ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَا تَرَكَ سَلْمَانُ فَإِذَا قِيمَةُ مَا تَرَكَ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، أَوْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

ودَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَبِي ذَرٍّ، فَعَجَلَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَيْنَ مَتَاعُكُمْ؟ قَالَ: إِنَّ لَنَا بَيْتًا نُوَجِّهُ إِلَيْهِ صَالِحَ مَتَاعِنَا. قَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مَتَاعٍ مَا دُمْتَ هَا هُنَا. قَالَ: إِنَّ صَاحِبَ المَنْزِلِ لَا يَدَعُنَا فِيهِ.

وَكَانَ أَبُو الْيَسَرِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُلْبِسُ عَبِيدَهُ مِمَّا يَلْبَسُ مِنْ حَسَنِ اللِّبَاسِ، وَيُسَاوِيهِمْ بِنَفْسِهِ، فَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يُسَاوِيَهُمْ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ أَبُو الْيَسَرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ. وَكَانَ أَنْ أَعْطَيْتُهُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ حَسَنَاتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

إِنَّ الدُّنْيَا مَتَاعُ الْغُرُورِ، وَلَا يَبْقَى فِيهَا مَتَاعٌ عَلَى حَالِهِ؛ فَجَدِيدُهَا مَعَ الْأَيَّامِ يُصْبِحُ قَدِيمًا، وَيُصِبُح جَمِيلُهَا دَمِيمًا، وَحَسَنُهَا قَبِيحًا، وَقَوِيُّهَا ضَعِيفًا، وَشَبَابُهَا هَرِمًا، وَأَجْمَلُ نِسَاءِ الدُّنْيَا يَعْمَلُ الزَّمَنُ فِيهَا عَمَلَهُ فَتَصِيرُ عَجُوزًا لَا يَرْغَبُهَا أَحَدٌ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا أَحَدٌ. وَأَحْسَنُ مَنَازِلِهَا، وَأَجْمَلُ سَيَّارَاتِهَا، وَأَفْخَمُ أَثَاثِهَا، يُصْبِحُ مَعَ الزَّمَنِ قَدِيمًا تَالِفًا لَا يُسَاوِي شَيْئًا.. وَأَمَّا الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا فَلَا شَبَابُهَا يَبْلَى، وَلَا حَسَنُهَا يَقْبَحُ، وَلَا جَمَالُهَا يَزُولُ، وَلَا نَضْرَتُهَا تَذْهَبُ... لَا يَمْرَضُونَ فِيهَا وَلَا يَهْرَمُونَ وَلَا يَمُوتُونَ..

فَلْنَأْخُذْ -عِبَادَ اللَّـهِ- عِبْرَةً وَعِظَةً مِنْ عَامٍ يَمْضِي هَذَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْهُ، وَعَامٍ يَقْدُمُ غَدًا أَوَّلُ أَيَّامِهِ؛ لِنَعْلَمَ أَنَّنَا إِلَى اللَّـهِ -تَعَالَى- سَائِرُونَ بِأَبْدَانِنَا، فَلْنَسِرْ إِلَيْهِ -سُبْحَانَهُ- بِقُلُوبِنَا قَبْلَ أَبْدَانِنَا، حَتَّى إِذَا قَدِمْنَا عَلَيْهِ وَجَدْنَا مَا يَسُرُّنَا مِنْ أَعْمَالِنَا قَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهِ، فَيُقَالُ لَنَا: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الخَالِيَةِ) [الحاقة: 24].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي