الآكل الملعون (آكل الربا)

عبد الله بن علي الطريف
عناصر الخطبة
  1. نظرة الإسلام للربا .
  2. أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم في الدنيا والآخرة .
  3. حكم آكل الربا .
  4. وجوب الحرص على أكل الحلال وتحريه .
  5. فتوى اللجنة الدائمة في حكم الاكتتاب في البنك الأهلي .

اقتباس

آكِلُ الرِّبَا مَلعُونٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ، مَطرُودٌ مِن رَحمَةِ اللهِ، مَمحُوقَةٌ بَرَكَةُ مَالِهِ، معَذَبٌ في قَبرِه، يقوم يوم الحشر كَالمَجنُونِ، معذب في نار جهنم، إِنَّهَا الحَربُ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَأَيُّ نَفسٍ تَتَحَمَّلُ كُلَّ هَذَا ٍ؟! وَأَيُّ جَسَدٍ يَقدِرُ عَلَى كُلِّ هَذَا العَذَابِ؟! وَمَن هَذَا الَّذِي يَبلُغُ بِهِ حب الدنيا أَن يُعَرِّضَ نَفسَهُ لِحَربٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ؟! وَهَل يَظُنُّ من حَارِبَ اللهَ وَرَسُولَهُ أنه سيسلم وينجو وينتصر، أَو تَقُومَ لَهُ قَائِمَةٌ أَو يَرتَفِعَ شَأنُهُ؟! أعاذني الله وإياكم.

الخطبة الأولى:

أيها الإخوة حديثنا اليوم عن بعض آيات الربا؛ ذلكم الوجه الكالح الطالح.. الذي شوَّهَ الإسلام صورته؛ حيث جعله ضد الصدقة التي هي عطاء وسماحة، وطهارة وزكاة، وتعاون وتكافل.. أما الربا فهو شحّ، وقذارة ودنس، وأثَرَة وفردية.. وعملية الربا فيها من القبح والشناعة، وجفاف قلب مقترفها وشرّه في المجتمع، وإفساده في الأرض وإهلاك للعباد الشيء الكثير.

ولم يبلغ الإسلام في تفظيع أمر من أمور الجاهلية أراد إبطاله ما بلغ من تفظيع الربا. ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ في التهديد في أمر الربا - في هذه الآيات وفي غيرها في مواضع أخرى يقول الله تعالى: (الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمرُهُ إِلَى اللهِ وَمَن عَادَ فَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ* يَمحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُربِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة: 276-277].

قال السعدي -رحمه الله-: "يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم (إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ المَسِّ) أي: يصرعه الشيطان بالجنون، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال، فكما تقلبت عقولهم و(قَالُوا إِنَّمَا البَيعُ مِثلُ الرِّبَا)، وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله، أو متجاهل عظيم عناده، جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين، ويحتمل أن يكون قوله: (لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ المَسِّ) أنه لما انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفَّت أحلامهم وضعفت آراؤهم، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم.

 قال الله –تعالى- رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة (وَأَحَلَّ اللهُ البَيعَ) أي: لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه، وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع (وَحَرَّمَ الرِّبَا)؛ لما فيه من الظلم وسوء العاقبة، والربا من كبائر الذنوب وموبقاتها، (فَمَن جَاءَهُ مَوعِظَةٌ مِن رَبِّهِ) أي: وعظ وتذكير وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمةً من الله بالموعوظ، وإقامة للحجة عليه (فَانتَهَى) عن فعله وانزجر عن تعاطيه (فَلَهُ مَا سَلَفَ) أي: ما تقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاءً لقبوله للنصيحة، دل مفهوم الآية أن من لم ينته جُوزي بالأول والآخر، (وَأَمرُهُ إِلَى اللهِ) في مجازاته وفيما يستقبل من أموره (وَمَن عَادَ) إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة، بل أصرَّ على ذلك (فَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ)، وهذا من نصوص الوعيد التي تمر كما جاءت. 

ثم قال تعالى: (يَمحَقُ اللهُ الرِّبَا) أي: يُذهبه ويُذهب بركته ذاتًا ووصفًا، فيكون سببًا لوقوع الآفات فيه ونزع البركة عنه، وإن أنفق منه لم يؤجر عليه بل يكون زادًا له إلى النار (وَيُربِي الصَّدَقَاتِ) أي: ينمّيها وينزل البركة في المال الذي أُخرجت منه، وينمّي أجر صاحبها، وهذا لأن الجزاء من جنس العمل، فإن المرابي قد ظلم الناس وأخذ أموالهم على وجه غير شرعي، فجُوزِي بذهاب ماله، والمحسن إليهم بأنواع الإحسان ربه أكرم منه، فيحسن عليه كما أحسن على عباده (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ) لنعم الله، لا يؤدي ما أوجب عليه من الصدقات، ولا يسلمُ منه ومن شره عبادَ الله (أَثِيمٍ) أي: قد فعل ما هو سبب لإثمه وعقوبته".

وقال شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله-: "إن المرابين كالمجانين لا يعون موعظةً ولا يرعوون عن معصية".

ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ * فَإِن لَم تَفعَلُوا فَأذَنُوا بِحَربٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُم فَلَكُم رُءُوسُ أَموَالِكُم لا تَظلِمُونَ وَلا تُظلَمُونَ) [البقرة: 279-280]،  عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لآكِلِ الرِّبَا: خُذْ سِلاحَكَ لِلْحَرْبِ".

قال السعدي -رحمه الله-: "لما ذكر أكلة الربا، وكان من المعلوم أنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا ينفعهم لم يصدر منهم ما صدر ذكر حالة المؤمنين وأجرهم، وخاطبهم بالإيمان، ونهاهم عن أكل الربا إن كانوا مؤمنين، وهؤلاء هم الذين يقبلون موعظة ربهم وينقادون لأمره، وأمرهم أن يتقوه، ومن جملة تقواه أن يذروا ما بقي من الربا، أي: المعاملات الحاضرة الموجودة، وأما ما سلف، فمن اتعظ عفا الله عنه ما سلف، وأما من لم ينزجر بموعظة الله ولم يقبل نصيحته فإنه مشاقّ لربه محارب له، وهو عاجز ضعيف ليس له يدان في محاربة العزيز الحكيم الذي يمهل للظالم ولا يهمله حتى إذا أخذه، أخذه أخذ عزيز مقتدر (وَإِن تُبتُم) عن الربا (فَلَكُم رُءُوسُ أَموَالِكُم) أي: أنزلوا عليها (لا تَظلِمُونَ) من عاملتموه بأخذ الزيادة التي هي الربا (وَلا تُظلَمُونَ) بنقص رءوس أموالكم".

أيها الإخوة: وقد حذر من الربا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك ما رواه البُخَارِيّ عَن سَمُرَةَ بنِ جُندُبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - في حَدِيثِ رُؤيَا النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، حَيثُ أَتَاهُ آتِيَانِ، وَابتَعَثَاهُ وَانطَلَقَا بِهِ، وَأَرَيَاهُ أُمُورًا مِمَّا يَحدُثُ لِلنَّاسِ في قُبُورِهِم.. وَمِن ذَلِكَ قَولُهُ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: "فَانطَلَقنَا فَأَتَينَا عَلَى نَهَرٍ أَحمَرَ مِثلِ الدَّمِ، وَإِذَا في النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَد جَمَعَ عِندَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسبَحُ مَا يَسبَحُ، ثُمَّ يَأتي ذَلِكَ الَّذِي قَد جَمَعَ عِندَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلقِمُهُ حَجَرًا فَيَنطَلِقُ يَسبَحُ، ثُمَّ يَرجِعُ إِلَيْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلقَمَهُ حَجَرًا - قَالَ - قُلتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ قَالا: وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيتَ عَلَيهِ يَسبَحُ في النَّهَرِ وَيُلقَمُ الحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا ... " الحَدِيثَ.

وَعَن جَابِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - "آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيهِ" وَقَالَ: "هُم سَوَاءٌ" (أَخرَجَهُ مُسلِمٌ).

حَالُ آكِلِ الرِّبَا -أَيُّهَا الأحبة- مَلعُونٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ، مَطرُودٌ مِن رَحمَةِ اللهِ، مَمحُوقَةٌ بَرَكَةُ مَالِهِ، معَذَبٌ في قَبرِه، يقوم يوم الحشر كَالمَجنُونِ، معذب في نار جهنم، إِنَّهَا الحَربُ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَأَيُّ نَفسٍ تَتَحَمَّلُ كُلَّ هَذَا ٍ؟! وَأَيُّ جَسَدٍ يَقدِرُ عَلَى كُلِّ هَذَا العَذَابِ؟! وَمَن هَذَا الَّذِي يَبلُغُ بِهِ حب الدنيا أَن يُعَرِّضَ نَفسَهُ لِحَربٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ؟! وَهَل يَظُنُّ من حَارِبَ اللهَ وَرَسُولَهُ أنه سيسلم وينجو وينتصر، أَو تَقُومَ لَهُ قَائِمَةٌ أَو يَرتَفِعَ شَأنُهُ؟! أعاذني الله وإياكم ...

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: قال البخاري -رحمه الله-: بَابُ مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ حَيْثُ كَسَبَ الْمَالَ.. ثم ذكر فيه حديثَ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ".

قال ابن التين: "أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا تحذيرًا من فتنة المال وهو من بعض دلائل نبوته لإخباره بالأمور التي لم تكن في زمنه، ووجه الذم من جهة التسوية بين الأمرين، وإلا فأخذ المال من الحلال ليس مذموماً من حيث هو، والله أعلم".

وقد وُجد في هذا الزمان أناس لا يبالون من أين جاءهم المال أمن حلال أم من حرام.. 

أيها الإخوة: ولقد سُئلت اللجنة الدائمة للفتوى ببلادنا -حرسها الله من كل سوء وأدام عليها نعمة الأمن والإيمان-، وهذه اللجنة إحدى اللجان العلمية المعتبرة في العصر الحاضر، وتضم نخبة من كبار أهل العلم في المملكة العربية السعودية، ولها مصداقية عالية في الأوساط العلمية والإسلامية، وأثنى عليها جمع من العلماء وطلبة العلم من أهل السنة، ولها جهود كبيرة في بيان الأحكام الشرعية للناس، وإصدار الفتاوى المتعلقة بجميع شؤون الحياة، وهي مكونة من خمسة أعضاء من هيئة كبار العلماء يرأسها سماحة مفتي المملكة وفقهم الله جميعاً.

ولقد أصدرت يوم أمس الثاني والعشرين من ذي الحجة فتوى رقم (26302) في حدث الساعة هذا نصها: بعد دراسة اللجنة للاستفتاء أفتت: بتحريم الاكتتاب والمساهمة في البنوك والشركات والمؤسسات التي تتعامل بالربا بيعاً وشراء واستثماراً للأدلة الواردة في تحريم الربا، وفي تحريم التعاون على الإثم والعدوان في كتاب الله وسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولإجماع علماء الأمة على تحريم الربا. وبالله التوفيق. 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي