وجوب النصيحة وحرمة الفضيحة

إبراهيم سلقيني
عناصر الخطبة
  1. الخطاء طبيعة بشرية .
  2. أهمية النصيحة وخطر التفريط فيها .
  3. رقي المجتمع بالنصيحة وسوء الفهم فيها .
  4. خطوات يجب توفرها في النصيحة .
  5. أهمية الرفق واللين في النصيحة .
  6. بعض ما يجب علينا تجاه العصاة .
  7. خطر الشدة والقسوة في النصيحة .

اقتباس

أيها الإخوة: إن من الأدلة على رقي المجتمع، وعلى سلامة واستقامة ضمائر أفراده: أن يتمسكوا جميعا في كل مجالاتهم، بخلق النصح والتناصح. حينئذ يكون الحق محترما، والفضيلة منتشرة، والثقة؛ تربط بين الأفراد والجماعات.

الخطبة الأولى:

الحمد لله آناء وأطراف النهار، ملء السماوات وملء الأرض حيثما توجه إنسان، وأينما استقر، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوب إليه، ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه، وعلى أهل بيته، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

أيها الإخوة  المؤمنون: ليس فينا من لا يخطئ، ذلك لأن كلا منا ركب فيه من الطباع ما يميل به إلى الرشد أو الغي، إلى التقى أو الشر: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)[الشمس:7-10].

وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان منا من لا يعرف خطأه، ولا يهتدي إلى عيبه، فإن من حق الأخ على أخيه، والصديق على صديقه، والجار على جاره، والزوج على زوجته، والزوجة على زوجها، من حق الجميع أن ينصح أخاه، وأن يبصره بعيوبه، بعد أن يعرف عيوب نفسه فيجتنبها.

ويوم يتساهل الناس في هذا الحق، فيتملق الصديق صديقه، ويستر عيوبه، ويحاول أن يجعل من عيوبه استقامة، فقد وصلت الأمة إلى الهاوية، فتنقلب الصداقات إلى عداوات، وتنقلب الثقة إلى عدم الثقة، ويموج المجتمع بالفوضى، والشر والفساد.

ولقد أخبرنا الله -تبارك وتعالى-: في محكم آياته: أن بني إسرائيل حينما تهاونوا في النصح والتناصح، وحينما كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، استوجبوا اللعن والطرد، والتشريد والتمزيق: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)[المائدة:78-79].

أيها الإخوة: إن من الأدلة على رقي المجتمع، وعلى سلامة واستقامة ضمائر أفراده: أن يتمسكوا جميعا في كل مجالاتهم، بخلق النصح والتناصح.

حينئذ يكون الحق محترما، والفضيلة منتشرة، والثقة؛ تربط بين الأفراد والجماعات.

أيها الإخوة  الأحبة: لقد حصل سوء الفهم والاضطراب، بمعنى النصيحة، ولشروطها.

فكثير من الناس انقلبت عنده النصيحة إلى التشهير بالآخرين، وانقلبت المدارة إلى التملق للآخرين.

أيها الإخوة: إذا رأيت أن النصيحة لا تجدي، بل قد تنقلب إلى ضرر وشر، فعليك مدارة من تريد نصيحته، وتتحين الفرص السانحة، والظروف المناسبة إلى نصحه، فتنصحه، وهذه هي المدارة، وهذه هي حدودها.

أما أن تشجع المخطئ على خطئه، أما أن تؤيد المنحرف على انحرافه، والظالم على ظلمه، فهذا هو التملق الذي حرمه الإسلام، أشد تحريم.

أيها الإخوة  المؤمنون: إن للنصيحة مراتب وخطوات، لا بد من سلوكها قبل أن تؤدى النصيحة، أولى الخطوات: ألا نسارع إلى تصديق كل ما نسمع، بل علينا أن نتأكد من صحة ذلك، لأن أغلب الناس اعتادوا على إشاعة السوء، وعلى سوء الظن، ولذلك حرم الإسلام سوء الظن، واعتبره إثما، فحرمه الله في آياته الكريمة منها: (وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) [النجم:28].

وفي الحديث: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث".

والخطوة الثانية -أيها الإخوة-: أن تقدر طبائع الناس، وأن ترى أنهم ليسوا أنبياء، ولا ملائكة معصومين عن الخطأ، بل معرضون للخطأ، وتحمل خطأهم على ضعف النفوس، أو غالب النفوس البشرية أمام ما يعرض لها، ولذلك فعليك: أن لا تطمع بأن لا ترى زلة، أو هفوة، أو خطأ!.

ولهذا نقل عن نقل عن الإمام الشافعي -رحمه الله-: أنه قال: "ليس أحد من المسلمين من يطيع الله أبداً، ولا يعصيه أبداً، وليس في المسلمين من يعصي الله أبداً، ولا يطيعه أبداً، فمن غلبت طاعاته على معصيته كان عدلا".

من الخطوات التي يجب أن تسلكها قبل أن توجه النصيحة: أن تحاكم الأمر الذي ترى أنه منكر، تحاكمه ليس من وجهة نظرك وحدك، وإنما أن تعرف وجهة نظر من تنكر عليه؛ لأنه قد يكون له شبهة، فتحاوره في تصحيحها، وقد يكون له أيضا بعض الحق، فيما ذهب إليه.

وأيضا -أيها الإخوة-: في الأمور التي اختلف فيه العلماء المعتبرين، لا مجال لأحد على أحد فيها، طالما يعتمد على مجتهد من المجتهدين المعتبرين.

ورابع الخطوات أيضا: أن تكون نصيحتك لمن تريد أن تنصحه في السر لا في العلن، وليس على ملأ من الأشهاد، وإنما بينك وبينه؛ لأنك حينما تفعل ذلك تكون نصيحتك أكثر استجابة، وأدل على إخلاصك، وأبعد عن شبهة تظاهرك بالفضل، أو بالعلم عليك؛ لأن النفوس عادة وغالبا تكره أن يطلع أحد على عيوبها.

ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- وهو المعلم الأول، والمربي الأكبر، إذا رأى من جماعة انحرافا، أو خطئا، أو منكرا، ما كان يسميهم بأسمائهم، وإنما كان يقول صلى الله عليه وسلم وهذا أعلى مستويات التربية: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا".

فإلى أولئك الذين يشهرون بالناس، ويفضحون حرماتهم أمام الناس، بحجة أنهم دعاة إلى الحق، وبحجة أنهم ناصحون، إنهم يقلبون الخير شرا، ويتخذون الحق سبيلا إلى الباطل.

إنهم يرتكبون إثما عظيما، وهو اسم فعل الغيبة التي حرمها الإسلام، وجعلها من المحرمات القاطعة: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)[الحجرات:12].

فإذا ذكرت أخاك في غيبته بما فيه، فقد اغتبته، وإن لم يكن ذلك فيه، فقد بهته.

أيها الإخوة الأحبة: أما إذا تكرر نصحك لإنسان، وبقي مستمرا على خطئه، وعلى تصرفاته، وكان موضع القدوة للآخرين، وكان ممن يستمع قوله، فليس من الغيبة أن تذكر خطأه أمام الناس، حتى لا يقتدوا به، ولا يتأثروا بفعله، فأنت تكره هذا الفعل، ولا تريد التشهير بفاعله.

انظروا إلى قول الله -عز وجل-: (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ)[الشعراء:216].

فإني بريء من الفعل، لا من صاحبه.

أيضا من الخطوات كذلك: أن لا يترتب على النصح أو إنكار المنكر ضرر أعظم، أو شر أكبر.

أن لا يترتب عليه مثلا فتنة، أو تمزيقا للجماعة، أو صراعات فيما بينهم.

فإن ترتب على ذلك مثل هذه النتائج، فعليك أن لا تقوم بهذه النصيحة.

إذا اجتمعت كل الخطوات، وتأكدت من صحة ما نقل إليك، ولم يكن هناك شبهة، فحينئذ تبادر إلى النصيحة، ولكن بأسلوب لين هين، محبب، ومرغب، وبكلمات طيبة، وبحجج مقنعة، وهذا ما وجهنا الله -تبارك وتعالى- إليه بقوله عز من قائل: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[النحل: 125].

فالرفق واللين، والكلمة الطيبة، كالشجرة الطيبة، تفتح القلوب للاستجابة، وتبعد الناصح عن شبه الغرور، والتعالم على من ينصحه: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".

إن علينا أن لا نزدري العاصي، ولا نترفع عليه، ولا  نشعره أننا أعلى منه، وأننا أفضل منه.

إنه يجب علينا أن يكون موقفنا في النصيحة، وفي التوجيه، في بيوتنا وفي مجتمعاتنا، ولدى جيراننا وأصدقائنا: أن ننظر إلى المخطئ منهم نظرة طبيب الأجسام: هل رأيتم طبيبا يزدري مريضا، أو يحتقره، أو يتعالى، ويترفع عليه؟

إن وجد مثل هذا، فهو طبيب فاشل.

ومن هنا -أيها الإخوة-: إذا خالفنا الرقة واللطف، والحجة في النصيحة، فقد تصبح حينئذ قسوة وغلظة؛ تغلق القلوب عن سماعها، وتنفر الناس عن الاستجابة للخير.

ما أحوجنا -أيها الإخوة-: إلى النصيحة، وإلى أن نشيعها في بيوتنا، ولدى جيراننا، وفي مجتمعاتنا، وفي معاملاتنا، ومؤسساتنا، القائد مع جنده، والأستاذ مع تلميذه، وكل مسئول مع من كان تحت ولايته، والزوج مع زوجته، والوالد مع ولده، والجار مع جاره.

ما أحوجنا إلى معرفة مراحل وخطوات النصيحة وشروطها في وقت اشتدت فيه النزاعات والخصومات، والصراعات والانقسامات والاتهامات.

نعم -أيها الإخوة-: ما أحوجنا في كل مشكلاتنا الاجتماعية إلى أن نتعرف حكم الإسلام فيها، وأحكام الشريعة فيها، بملازمة العلماء المخلصين، والاستفادة من علمهم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي