الإنفاق في سبيل الله

عبد السلام محمد زود

عناصر الخطبة

  1. أهمية الصدقة وفضلها
  2. وسائل قبول الصدقة
  3. أفضل أوقات الصدقة
  4. فضل إخفاء الصدقة
  5. ثمرات الصدقة
  6. التحذير من البخل
  7. المبادة بالصدقة
  8. من قصص المتصدقين

الخطبة الأولى:

إخواني في الله: رغب الإسلام في الصدقة، والعطف على الفقراء، ومواساة أهل الحاجة والمسكنة، ورتب على ذلك أعظم الأجر عند الله -تعالى- يوم القيامة.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254].

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ﴾ [البقرة: 267].

وقال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التغابن: 16].

وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ،… وَلَرَسُولُ اللَّهِ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ".

وإن رجلاً سأله فأعطاه غنما بين جبلين فأتى الرجل قومه، فقال: "يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر"[رواه مسلم].

إخواني في الله: آيات من كتاب الله -تعالى-، نادي الله فيها عباده المؤمنين، وأمرهم بالإنفاق في سبيله، ليدخروا ثواب ذلك عنده، وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة من قبل أن يأتي يوم وهو يوم القيامة لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة.

واعلموا –إخواني-: أن الله -تعالى- ابتلاكم بهذا المال، فمن استعان به على طاعة الله، وأنفقه في سبل الخيرات، كان سببا موصلا له إلى رضوان الله، والفوز بالجنة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(30)﴾[فاطر: 29- 30].

ومن استعان بماله على معصية الله، وأنفقه في تحصيل شهواته المحرمة، واشتغل به عن طاعة الله، كان سببا في غضب الله عليه واستحقاقه العقاب الأليم، قال الله -تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: 34].

والإنفاق في سبيل الله؛ خير تقدمه لأخراك، قال تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ [المزمل: 20].

والإنفاق في سبيل الله؛ يدفع الله -عز وجل- به عن العبد البلاء؛ حتى كان بعضُ العلماء يوصي إخوانه إذا أصابتهم الشدائد والملمات، أن يكثروا من الصدقات حتى يرحمهم الله -عز وجل-، وكم من يد أعطت لوجه الله -عز وجل- عافاها الله، ودفع عنها البلاء.

والصدقة دليل وبرهان على إيمان صاحبها؛ قال: "… والصدقة برهان…"[رواه مسلم].

والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار؛ قال: "تصدقوا ولو بتمرة، فإنها تسد من الجائع، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار"[صحيح ابن المبارك].

والصدقة فيها تيسير على عباد الله المؤمنين، وتنفيس لكرباتهم؛ فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ…"[رواه مسلم].

والصدقة يخلفها الله عليك، قال تعالى: ﴿وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: 39].

وقال تعالى في الحديث القدسي: "أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ"[متفق عليه من حديث أبي هريرة].

وعن أبي هريرة –رضي الله عليه وسلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"[متفق عليه].

والصدقة تطهر صاحبها من الذنوب والخطايا وتزكيه؛ قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾[التوبة: 103].

والصدقة لا تنقص المال، بل تزيده وتبارك فيه؛ فعن أبي هريرة –صلى الله عليه وسلم- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ"[رواه مسلم].

وبالصدقات تستر العورات، وتفرج الكربات، وتدفع الشدائد عن عباد الله المؤمنين والمؤمنات، فكم من صدقة دَفعت عن صاحبها أبوابا من البلايا لا يعلمها إلا الله، وكم من صدقة رحم الله بها معذبا، وفرّج بها عن المهموم الهموم والكروب، فإذا عظمت على الإنسان ذنوبه، وكثرت منه خطاياه وعيوبه، فما عليه إلا أن يكثر من الصدقات رجاء أن يرحمه الله بها.

إخواني في الله: هذه الصدقات كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُرَغّب في إخفائها لينال الإنسان أجره كاملا عليها؛ ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ -تعالى- فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ".

ذكر منهم: "وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ".

لذلك كان السلف الصالح -رحمهم الله- يحرصون على إخفاء صدقاتهم؛ حتى ذكروا عن التابعي الجليل زين العابدين، أنه كان ينفق على الناس في ظلمات الليالي، فلما توفي فَقَدَ أكثرَ من ثلاثين بيتا من ضعفة المسلمين رجلا يقرع عليهم الباب بالليل بالطعام، فكانوا -رحمهم الله- يخفون الصدقات رجاء أن يتقبلها الله منهم.

أخي في الله: ولكي يتقبل الله صدقتك ينبغي أن تراعي الأمور التالية:

1- أن تصلح نيتك: فتقصد بصدقتك وجه الله -عز وجل-، قال تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾[البقرة: 272].

فإنك إن لم تقصد وجه الله وقصدت بها الرياء والسمعة لم تقبل منك، وبالتالي تعاقب على ذلك أيضا.

2- أن تتخير الأجود من الحلال الطيب الذي تحبه فتنفقه، قال تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92].

وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا"﴿مسلم﴾.

وعن سعيد بن هلال: أن ابن عمر -رضي الله عنهما- نزل الجحفة وهو مريض فاشتهى سمكا، فلم يجدوا إلا سمكة واحدة، فلما قربت إليه أتى مسكين، حتى وقف عليه، فقال له ابن عمر: خذها، فقال له أهله: سبحان الله! قد عنيتنا ومعنا زاد نعطيه، فقال: إن عبد الله يحبه!.

ووقف سائل على باب الربيع، فقال: "أطعموه سكراً، فقالوا: ما يصنع هذا بالسكر؟ نطعمه خبزا أنفع له، قال: ويحكم أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر!".

3- أن تقدم ذوي الحاجة من أقربائك وذوي رحمك، فقد قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة" [رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني].

4- أن تتحرى بصدقتك أهل الدين الذين يستعينون بهذه الصدقة على طاعة الله، ولا ينفقونها في معصيته فتكون معاونا لهم على المعصية والإثم.

5- أن تسر بصدقتك ما استطعت، إلا إذا كان في إعلانها مصلحة راجحة فأعلنها؛ قال تعالى: ﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ﴾[البقرة: 271].

وذكر من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"[متفق عليه].

6- وعليك –أخي- المتصدق أن تتصدق بما سهل عليك وإن كان قليلا، المهم أن لا ترد السائل ولو بأيسر شيء؛ فعن جابر -رضي الله عنه- قال: "ما سئل النبي –صلى الله عليه وسلم- شيئا قط، فقال: "لا"[متفق عليه].

وأتى سائل إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وعندها نسوة، فأمرت له بحبة عنب، فتعجب النسوة منها، فقالت: إن فيها ذرا كثيرا! تتأول قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7].

7 – وعليك –أخي- أن تعود نفسك على الصدقة ولو كنت فقيرا؛ فقد سئل عن أفضل الصدقة، فقال: "جهد المقل" [رواه أحمد والنسائي وأبو داود] أي صدقه الفقير.

واعلم –أخي- أن أفضلَ ما تكون الصدقة إذا كانت في عز الشباب، واقتبال العمر، مع كمال الصحة والعافية؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: "أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ".

فهذه الصدقة من أحب الصدقات إلى الله -تعالى-.

أما الثمرات التي تجنيها من صدقتك فكثيرة؛ منها:

1 – بل من أعظمها وأجلها: رحمة الله لك، وغفرانه لسيئاتك؛ فعن أبي هريرة: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "غُفِرَ لامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ -بئر- يَلْهَثُ، كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ الْمَاءِ فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ"[رواه البخاري].

أجل، لقد غفر الله لهذه المرأة البغي من بغايا بني إسرائيل؛ لأنها سقت كلبا شربة ماء، وإذا كان هذا في كلب بهيم فكيف بمن يسقي إنسانا يذكر الله –تعالى-؟!

كيف بمن يفرج همَّ بيت من بيوت المسلمين، فيكفله في كل شهر بمال يتقرب به إلى الله رب العالمين، فلذلك أول ما يجنيه الإنسان من الصدقة رحمة الله -عز وجل- به.

2 – وأما الخصلة الثانية التي تجنيها من صدقتك؛ فهي محبة الناس، ودعاؤهم لك؛ فإن القلوب فطرت على حب من أحسن إليها، وكم من أناس أنفقوا أموالهم في الطاعات ماتوا وكأنهم لا زالوا في الناس أحياء، وكم من أناس أنفقوا لوجه الله ما زالت الناس تذكرهم بصالح الدعوات، حتى بعد وفاتهم ومماتهم، فالله -عز وجل- يجعل لأهل الصدقات من حسن الذكر وجميله الشيء الكثير.

3 – وأما الخصلة الثالثة التي تجنيها من الصدقات؛ فهي أنها تدفع النار عنك يوم القيامة؛ فعن عدي بن حاتم عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اتَّقُوا النَّارَ، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلاَثًا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ"[رواه البخاري].

وورد في الحديث الصحيح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أن عائشة -رضي الله عنها- أخبرته أن امرأة جاءتها ومعها ابنتها، فأعطتها عائشة تمرتين، فأخذت الابنة تمرة فأكلتها، فجاءت الأم تريد أن تأكل تمرتها فطلبتها ابنتُها منها فأعطتها الأم تلك التمرة، فعجبت عائشة من صنيعها، فلما دخل النبي –صلى الله عليه وسلم عليها أخبرته خبرها، فقال: أتعجبين من أمرها إن الله غفر لها بتلك التمرة.

 4 – ومن ثمرات الصدقات: أنها تظلك يوم القيامة وتحول بينك وبين حر الشمس حينما تدنو من رؤوس العباد؛ كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ قَالَ يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ، قَالَ يَزِيدُ: وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ لَا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إِلَّا تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ كَعْكَةً أَوْ بَصَلَةً أَوْ كَذَا"[رواه الإمام أحمد].

5 – ومن ثمرات الصدقات: أنها تدخلك الجنة من باب الصدقة؛ كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ..."[متفق عليه].

7 – ومن ثمرات الصدقات: أن الله يضاعف لك أجرها إلى سبعمائة ضعف يوم القيامة؛ فعن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله، فقال: رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة"[رواه مسلم].

وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ -وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ- فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ -صغير الخيل- حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ"[رواه البخاري].

إخواني في الله: بعد أن رغب الله -عز وجل- في الإنفاق، حذر من البخل والإمساك، وأخبر أن الممسكين عن الإنفاق سيندمون في ساعة لا ينفع فيها الندم، وهم على فراش الموت قادمين على الله -تعالى-.

روى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: "مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ، أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ يَفْعَلْ يَسْأَلِ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ" فَقَالَ رَجُلٌ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ اتَّقِ اللَّهَ، إِنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ الْكُفَّارُ، قَالَ: سَأَتْلُو عَلَيْكَ بِذَلِكَ قُرْآنًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون: 9-11].

إخواني في الله: وحتى لا نقع في الحسرة والندم في ساعة لا ينفع فيها ذلك، قال: "تصَدَّقُوا فَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأَمْسِ لقَبِلْتُهَا مِنْكَ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلاَ حَاجَةَ لِي فِيهَا"[أخرجه البخاري عن حارثة بن وهب الخزاعي].

أخي في الله: والله لن تجد أياما تعينك فيه النفس البخيلة الشحيحة على الإنفاق في سبيل الله، أفضل من هذه الأيام في هذا الشهر المبارك الذي غُلت فيه الشياطين وصفدت.

فاغتنم هذه الفرصة –أخي-، وتقرب إلى الله بالإنفاق في وجوه الخير، ابتغاء مرضاة الله.

وبالمقابل فإن الإنسان ليندهش من بعض أصحاب الأموال الذين يملكون الآلاف والملايين، ثم تَشُحُّ أيديهم بقليل من المال ينفقونه في سبيل الله؛ حتى على أنفسهم أحيانا، وإني لأسألك -أخي الغني-: لمن تدخر هذا المال؟ ولم يبق لك من هذه الحياة إلا سنوات أو أيام معدودات لا سيما إن تجاوزت السبعين، لم يبق من عمرك إلا كالشمس على رؤوس الجبال عند غروبها، فأنت لا تدري أيُصَبِّحك الموت أم يمسيك.

أخي وأختي: لقد دعاكما الله ورسوله إلى الإنفاق في أبواب الخير، وهي كثيرة؛ دعاكما إلى الإنفاق لإطعام جائع، أو تفطير صائم، أو كسوة عار، أو إغاثة ملهوف، أو كفالة يتيم مات أبوه، أو إلى الإنفاق في مشروع دعوة؛ كتوزيع كتاب أو شريط، أو تجهيز غازي في سبيل الله، أراك -أخي وأختي- لا زلتما مترددين.

إياك –أخي-: أن تتعلل بخوف الفقر وأنت الذي تملك الآف الدولارات، بل ملايينها، وإياك أن تحتج بأنه ليس لديك أموالا نقدية للإنفاق.

فأقول لك: ليس ضروريا أن تكون الصدقة التي دعاك الله إليها دولارات نقدية، بل قد تكون الصدقة أرضا، أو سيارة، أو عمارة، أو بيتا، أو شقة تجعلها وقفا في سبيل الله، يعود ريعها على الفقراء والأيتام والمساكين والمشاريع الخيرية وما أكثرها، ويعود أجرها عليك ولو بعد وفاتك.

وإياك أن تقول: أخشى أن لا تصل الصدقة إلى مستحقيها، وقد علمت أن إخوانك يوصلونها، وعلى كل حال ألم تسمع حديث رسول الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة –رضي الله عنه- والذي قال فيه رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ رَجُلٌ لأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِيٍّ، وَعَلَى سَارِقٍ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ، أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ".

إن المال -أيها الأخ الكريم-: هو العنصر المفقود في معظم الأعمال الخيرية الإسلامية، فقد وجدنا المسلمين قادرين -بإذن الله- على أن يقوموا بالدعوة، ونشر الخير، وإحياء الجهاد في سبيل الله، ولا ينقصهم في ذلك كله إلا المال، واللهُ قد جعل المال بيدك خازنا له وأمينا عليه، أفيسرك أن يُكوى به جنبك وجبينك وظهرك يوم يقوم الناس لرب العالمين؟!!

إذا فأسرع –أخي- في الإنفاق من مالك وأنت على قيد الحياة قبل أن يتحول هذا المال الذي تعبت في تحصيله طيلة حياتك إلى ورثتك، الذين هم بين أمرين:

إما أن يتقوا الله فيه، فيكون ذلك في ميزان حسناتهم يوم القيامة، ورحم الله يحي بن معاذ الذي قال: "مصيبتان للعبد في ماله عند موته لا تسمع الخلائق بمثلهما، قيل: ما هما؟ قال: يؤخذ منه كله، ويسأل عنه كله".

أخي في الله: فكِّر قليلا: من سيتصدق عنك غدا؟ ومن سيحج عنك إن لم تكن قد حججت بعد؟ ومن سيدعو لك؟ ربما من تصدقت عليه يدعو لك، وابنك الذي يرثك لا يذكرك بدعوة صالحة، بل إن صدقة جارية تتركها من بعدك قد تكون خيرا لك من ابنك الذي ورث مالك، ولم يذكرك بدعوة صالحة أو بصدقة يتصدقها عنك بعد وفاتك.

وهذه حقيقة لا أقولها من فراغ، أين أبناء هذه البلاد الذين يدعون الله لآبائهم وأمهاتهم وهم على قيد الحياة؟ فضلا عن أن يدعوا لهم أو يتصدقوا عنه بعد الوفاة، هل رأيت ابنك يوما رافعا يديه إلى الله يدعو لك بدعوة صالحة؟

أرجو ذلك.

اسمع ماذا، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "بئس الرفيقان: الدينار والدرهم، لا ينفعانك حتى يفارقاك".

أخي: استمع معي إلى هذا الحديث الذي يخلع القلوب خلعا؛ عن أبي ذر –رضي الله عنه قال: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في ظل الكعبة، فقال: "هم الأخسرون ورب الكعبة" قالها ثلاثاً، قال أبو ذر: فأخذني غم، وجعلت أتنفس وقلت: هذا شر حدث في، فقلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: "الأكثرون أموالا، إلا من قال في عباد الله هكذا وهكذا، وقليل ما هم"[رواه مسلم].

أفيسرك -أخي-: أن تكون من الخاسرين يوم القيامة بسبب إمساك المال وعدم إنفاقه؟!

ورحم الله من قال:

يا جامعا مانعا والدهر يرمقه *** مقدرا أي باب منه يغلقه

مفكرا كيف تأتيه منيته *** أغاديا أو رائحا بل كيف يتركه

جمعت مالا فقل لي هل جمعت *** له يا جامع المال أياما تفرقه

المال عندك مخزون لوارثه *** ما المال مالك إلا يوم تنفقه

ارفق ببال فتى يغدو على ثقة *** إن الذي قسم الأرزاق يرزقه

إن القناعة من يحلل بساحتها *** لم يبق في ظلها هم يؤرقه

وقال رجل للحسن: "إني أكره الموت، فقال الحسن: ذاك أنك أخرت مالك، ولو قدمته لسرك أن تلحق به".

عوتب سهل بن عبد الله المروزي في كثرة الصدقة، فقال‏: "لو أن رجلا أراد أن ينتقل من دار إلى دار أكان يبقي في الأولى شيئا‏!".

وحكي أن بعض الزهاد وقف على جمع فنادى بأعلى صوته‏: ""يا معشر الأغنياء لكم أقول‏: استكثروا من الحسنات فإن ذنوبكم كثيرة‏، ويا معشر الفقراء لكم أقول‏: ‏ أقلوا من الذنوب فإن حسناتكم قليلة"‏.

ورحم الله من قال:

إذا المرء لم ينفعك حيا فنفعه *** أقلُ إذا ضُمت عليك الصفائح

بأية حال يمنع المرء ماله *** غدا فغدا والموت غاد ورائح

ثم اعلم –أخي- أن مالك الحقيقي هو ما قدمته لآخرتك؛ سأل النبي –صلى الله عليه وسلم- أصحابه يوما، فقال: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدَّم، ومالَ وارثه ما أخَّر"[رواه البخاري عن ابن مسعود].

وقال سلمان الفارسي –رضي الله عنه-: "إذا مات السخي قالت الأرض والحفظة: رب تجاوز عن عبدك في الدنيا بسخائه، وإذا مات البخيل قالت: اللهم احجب هذا العبد عن الجنة كما حجب عبادك عما في يديه من الدنيا".

وقال: "يقول ابن آدم ما لي ما لي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت"[رواه مسلم].

ثم دعني –أخي-: أهمس في أذنك هذه الكلمة التي قالها الحسن البصري -رحمه الله-: "من أيقن بالخلف جاد بالعطية".

لكن مشكلتنا أن إيماننا ضعيف، نخشى الفقر إن أنفقنا، مصدقين بذلك وعد الشيطان: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء﴾ [البقرة: 268].

واعلم أنك إن منعت ما عندك منعك الله ما عنده.

ثم أين أنا وأنت –أخي- من إنفاق السلف؛ قال عروة: "رأيت عائشة تقسم سبعين ألفا وهي ترقع درعها، وقسمت في يوم مائة وثمانين ألفا بين الناس، فلما أمست قالت: يا جارية عليّ فطوري وكانت صائمة يومها، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها جاريتها: "أما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحما نفطر عليه؟" فقالت: "لو ذكرتني لفعلت".

وقال علي: "إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفني، وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى".

وعن الأحنف بن قيس: "أنه رأى رجلا في يده مال، فقال: لمن هذا المال؟ فقال: لي، فقال: أما أنه ليس لك حتى يخرج من يدك".

وفي معناه قيل:

أنت للمال إذا أمسكته *** فإذا أنفقته فالمال لك

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

وأذكر -نفسي وإخواني- بقوله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ﴾[محمد: 38].

أخي في الله: لا تحرم نفسك من هذا الأجر الذي سمعته، والذي تكون أحوج ما تكون إليه عند لقاء فاطر الأرض والسماوات، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال، ثم يموت ويدعه لغيره، فيرزقه الله فيه الصلاح والإنفاق في وجوه البر، فيجد ماله في ميزان غيره".

إخواني في الله: أذكركم بهذه القصة العجيبة، خصومة حصلت في عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- بين أبي لبابة ويتيم على نخلة، حيث كان هناك بستان لأبي لبابة، وبجانبه بستان آخر لهذا اليتيم، وبينهما نخلة، واليتيم لم يدرك بعد، فقال أبو لبابة: هذه النخلة لي، وقال اليتيم الصغير هذه النخلة لي، تشاجرا، فما كان من اليتيم إلا أن ذهب إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- واشتكى له أبا لبابة، فاستدعى النبي –صلى الله عليه وسلم- أبا لبابة، وقال له: "هذا اليتيم يشكوك في نخلة أخذْتَهَا له" أو كما قال.

فقال أبو لبابة: "والله ما كان ذلك لي يا رسول الله، وما كنت لآخذ نخلته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذاً نخرج ونعاين".

فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه ليعاين البستانين، وليعاين النخلة.

وهذا من تواضعه وحكمه العدل، ولما وصل إلى النخلة المختلف عليها، وجدها في بستان أبي لبابة واضحة جلية، فهل يعطف على هذا اليتيم فيحكم بها إليه، لا حاشاه أن يجور في حكم، فحكم بالنخلة لأبي لبابة، فذرفت دموع اليتيم وانحدرت على خديه، فأراد أن يجبر كسر قلبِ هذا اليتيم؛ لأنه لم يدرك الحق، فقال لأبي لبابة: "أعطه هذه النخلة ولك بها عِذق في الجنة" -أي نخلة مثمرة أو غصن نخلة في الجنة مقابل هذه النخلة- لكن أبا لبابة كان في وقت غضب، إذ كيف يشكوه والحق له، ويشكوه إلى من؟ إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: لا، فسمع بذلك أبو الدحداح، وكان يتمنى مثل هذه الفرصة رضي الله عنه وأرضاه.

فقال: يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لئن اشتريت هذه النخلة وأعطيتها هذا اليتيم ألي بها عِذْقٌ في الجنة؟" قال: "نعم" فيلحق أبو الدحداح بأبي لبابة، ويقول: أتبيعني هذه النخلة ببستاني كله، خذ بستاني كلّه وأعطني هذه النخلة، قال: أبيعُكَها لا خير في نخلة شكيت فيها إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فباعه النخلة بالبستان كلّه، وذهب أبو الدحداح إلى أهله ونادى فيهم: يا أم الدحداح ويا أبناء أبي الدحداح قد بعنا البستان من الله فاخرجوا منها، فخرجوا ومع أطفاله بعضُ الرطب، فقام يأخذه ويرميه فيها، وهو يقول: قد بعناها من الله -جل وعلا- بعذق في الجنة لا نخرج منها بشيء، خرج هو وأهله وقد باع كل شيء من دنياه واشترى عذقا، واشترى غصنا من نخلة عند الله -جل وعلا-.

لكن هل اكتفى بذلك، وقال: لنا عذق من نخلة في الجنة، يكفي لا صلاة ولا صيام ولا زكاة، لا والله، فالذي بذل هذه في سبيل الله سيبذل أعظم منها في سبيله، بذل المال والأولاد وبذل كل نعيم في هذه الحياة، ثم في الأخير يقدم نفسه لله -جل وعلا-.

ويخرج في معركة أحد، التي ابتلي فيها المؤمنون ابتلاء شديدا، وربوا فيها تربية عظيمة، حيث كسرت فيها رباعية المصطفى، وشج وجهه، وساعة انتهت المعركة ذهب يفتش عن أصحابه وهو في تلك الحالة ويتفقدهم، ويأتي إلى صاحب العذق إلى أبي الدحداح، وإذا به مضرج بدمائه، فيرفعه ويمسح الدم عن وجهه، ويقول: "رحمك الله أبا الدحداح: كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُعَلَّقٍ أَوْ مُدَلًّى فِي الْجَنَّةِ لابْنِ الدَّحْدَاحِ -أَوْ قَالَ شُعْبَةُ- لأَبِي الدَّحْدَاحِ"[رواه مسلم].

"لا إله إلا الله" ماذا خسر أبو الدحداح، خسر شجيرات، خسر نخيلات، لكنه فاز بجنة عرضها السموات والأرض: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران: 185].

وماذا خسر أبو بكر الصديق الذي أنفق ماله كله في سبيل الله، ونصرة دين الله؟!

وماذا خسر الفاروق عمر الذي أنفق نصف ماله في سبيل الله ورفع كلمة الله؟!

وماذا خسر ذو النورين عثمان الذي جهز جيش العسرة 700 بعير بأحلاسها وأقتابها، واشترى بئر رومة للمسلمين، ولا زال ينفق وينفق، حتى قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم".

والله ما خسر واحد منهم أبدا، بل اشتروا بأموالهم جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين -جعلني الله وإياكم منهم، اللهم آمين-.

وأنت -أخي وأختي-: ماذا تخسر لو أنفقت 100 دولار من مالك فدفعتها لاستئجار بيت من بيوت الله، تَذْكُرُ فيه اسم الله أنت وأولادك وزوجتك آمنا مطمئنا؟!

لا، والله لن تخسر أبدا، إذاً فاغتنم الفرصة، وأنفق اليوم من مالك ما تجده غدا أمامك حاضرا؛ قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا﴾ [آل عمران: 30].

وأذكرك بقوله تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل: 96].

أخيرا: أرجو المعذرة من إخواني وأخواتي فقد أثقلنا عليكم هذا العام، لكن ماذا نفعل تجاه المصائب والنكبات التي نزلت ولا تزال تنزل بالمسلمين في كل مكان، وآخرها قضية الشيشان، الأمر الذي يستدعي الوقوف بجانبهم بكل قوة؛ لذلك أشكر كل الإخوة والأخوات الذين أنفقوا ولا زالوا ينفقون من أموالهم في شتى مشاريع الخير، شكرا لكافلي الأيتام والأرامل، وشكرا لمن أنفق من ماله لتفطير إخوانه الصائمين هنا وهناك، وشكرا لكل من قدم من ماله لإخوانه المسلمين في الشيشان، وشكر لمن تبرع ولا زال يتبرع لهذا المسجد، مسجد السنة، وشكرا لكل من ساهم في تقديم الجوائز لمسابقة القرآن والسنة.


تم تحميل المحتوى من موقع