كانت هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة حدثًا عظيمًا، لا يزال على مر الأيام موطنًا لكثير من الذكريات، ومسارًا لكثير من الدروس والعبر، قوم مؤمنون بدينهم متمسكون بعقيدتهم، يعلنون كلمة الحق للناس، ويدعونهم إليه بالقول والحجة والبيان والبرهان، يصدعون برسالتهم، ويضحون في سبيلها بالنفس والولد، والمال والأوطان، والبيوت. يقاومهم أناس طغاة متغطرسون، متمسكون بباطلهم وانحرافهم، وضلالهم وطغيانهم وعدوانهم؛ فيخرجونهم من بيوتهم وأموالهم ليشرَّدُوا ويموتوا، ولتموت معهم دعوتهم، فلا يبتئسون ولا يحزنون، ولا تتزلزل عقيدتهم، ولا يتنازلون عن مبادئهم مهما كان.
الحمد لله آناء وأطراف النهار ملء السماوات وملء الأرض حيثما توجه إنسان وأينما استقر، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوب إليه، ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح للأمة وكشف الله به الغمة، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى أهل بيته، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: يقول -تبارك وتعالى- في محكم آياته وهو أصدق القائلين (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:8- 9].
وعن سيدنا عمر -رضي الله تبارك وتعالى عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" (رواه البخاري ومسلم).
أيها الإخوة الأحبة: كانت هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة حدثًا عظيمًا لا يزال على مر الأيام موطنًا لكثير من الذكريات، ومسارًا لكثير من الدروس والعبر، قوم مؤمنون بدينهم متمسكون بعقيدتهم، يعلنون كلمة الحق للناس، ويدعونهم إليه بالقول والحجة والبيان والبرهان، يصدعون برسالتهم، ويضحون في سبيلها بالنفس والولد والمال والأوطان والبيوت.
يقاومهم أناس طغاة متغطرسون، متمسكون بباطلهم وانحرافهم، وضلالهم وطغيانهم وعدوانهم؛ فيخرجونهم من بيوتهم وأموالهم ليشرَّدُوا ويموتوا ولتموت معهم دعوتهم، فلا يبتئسون ولا يحزنون، ولا تتزلزل عقيدتهم، ولا يتنازلون عن مبادئهم مهما كان، يستقبلهم قوم مهللين مكبرين فرحين مستبشرين، ويتعاهدون معهم دعوتهم، ويتخذونهم إخوانًا لهم، ويؤثرونهم على أنفسهم، ويقدمون لهم بيوتهم وأموالهم.
يقول قائلهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك"، وآخر يقول: "لو سِرْتَ بنا إِلى بِرك الغمَاد لجالدنا معك".
فيُظهر الله بهؤلاء وهؤلاء دينه، ويعلي كلمته، ومن ينصر الله ينصره (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 39].
أي دعوة، أي عبرة أعظم من هذه العِبَر، وأي دروس أعظم من هذه الدروس إلى يوم القيامة، فيها الإيمان بالحق عن حجة وثبات، وعقيدة راسخة تختلط بالدماء، ومع كل نفس من الأنفاس.
فيها الثبات على المبدأ مهما كانت العوائق، ومهما كانت القوى المضادة، فيها التضحية بالنفس والمال، فيها الزهد بكل شيء في هذه الحياة، الزهد بالمتاع والديار والمصالح الخاصة الشخصية.
فيها سلوى للمصلحين، فيها الهجرة إلى الخير، فيها البحث عن الأرض الصالحة التي تصلح للبذور الصالحة.
فيها دليل عملي، وإلى يوم القيامة، أن الحق لا يعدم الأنصار، وأن العاقبة للمتقين، وأن النصر للعاملين الصابرين.
أي عبرة -أيها الإخوة- أعظم من هذه العِبَر، هذه بعض عبر الهجرة، وهذه بعض دروسها قد استعرضتها في خطبي السابقة، وألخصها اليوم.
أيها الإخوة: كانت الهجرة بالسابقين، وفاز بها الأولون، ولم يعد بعد الفتح هجرة، ولكن إنا لنا جميعا رجالاً ونساء شيوخًا وشبابًا هجرة من نوع آخر، هي هجرة القلوب من الانحراف إلى الاستقامة، من الظلم إلى العدل، من الشر إلى الخير، من الضلال إلى الهدى.
وهذا ما عبّر عنه رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حينما قال كلمتين: "والمهاجر من هجر من نهى الله عنه".
فليستعرض كل منا رجالاً ونساء سلوكه وحياته وتصرفاته وأقواله وعلاقته مع الآخرين، فإذا وجد فيها -ولا بد أن نجد شيئًا مما نهى الله عنه- فلنبادر -أيها الإخوة- ولنسارع إلى هجر تلك الصفات السيئة والأفعال التي لا يرضى الله تعالى عنها.
اتق الله أن يراك حيث نهاك، لنطبق -أيها الإخوة- هذا القول كلّ منا على نفسه، وليحرص أن ينصح به مَن حوله، اتق الله أن يراك حيث نهاك، يراك في موقع أو موقف أو قول أو فعل نهاك أن تقف فيه، وأن يفقدك حيث أمرك، أن يفقدك في موقع أمرك أن تكون فيه.
اتق الله أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك.
إن الإسلام -أيها الإخوة- دين القلوب، دين النوايا الصادقة لا المظاهر الكاذبة، ولا العناوين الخادعة ولا الأقوال البراقة.
دين عملي وسلوكي وتطبيقي لا الادعاء، وهذه هي الهجرة الحقيقية التي ينشدها منا إسلامنا، ويأمرنا بها رسولنا، ولو أن هجرة المسلمين لم تقم على أساس متين من هجرة القلوب قبل هجرة الأبدان لما كتب لها الله النصر وتحقيق نواة لدولة إسلامية تمتد ظلالها شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا.
ولما تكرر ذكرها ويتكرر إلى يوم القيامة، فهناك هجرات كثيرة هاجر فيها أقوام كثيرون ولكنها طويت مع التاريخ إن لم تكن قد رُميت بمزابل التاريخ.
عن عبدالله بن مسعود قال: "أراد رجل أن يخطب امرأة في المدينة -وهو طبعًا في مكة قبل أن يهاجر- فاشترطت عليه أن يهاجر فهاجر وتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس"، استهزاءً به وإنكارا لفعله واستخفافا لهذا الفعل.
ذلك أن الروح العامة آنذاك كانت الأفعال والتصرفات والأقوال يبتغى بها وجه الله وحده، أما اليوم ويا للأسف فقد انقلبت المعايير والأهداف ومُسخت أكثر القلوب فغدت الأهداف مصالح دنيوية أو سلالم يُتسلق عليها، لم تعد الأفعال أو الأقوال عند كثير من الناس يبتغى بها وجه الله -تبارك وتعالى-.
فينا كثيرون يصلون ويصومون ويتصدقون ويكتبون ويخطبون، ولكن ليقال عنهم أنهم مصلحون، ليست أهدافهم خالصة لوجه الله -عز وجل-، وليست أهدافهم من أجل أن يبتغى بها وجه الله، وأن يكون في المواقع التي أمرهم الله أن يكونوا فيها، وأن يجتنبوا المواقع التي نهاهم الله أن يكونوا فيها.
ولذلك وفي هذا المعنى يقول لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات"، فالنية هي جوهر العمل وروحه "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، أي له من الأجر على حسب ما ينوي، "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
من كان عمله لناس يثنون عليه، أو لهدف دنيوي يقصده فأجره يحصل عليه في دنياه، وكم من عمل من الأعمال من صلاة أو صوم أو صدقة أو خطبة أو فعل لا يُبتغَى به وجه الله -عز وجل- يلفّ كما يلف الثوب الخرق، ويرمى في وجه صاحبه.
وكثيرًا ما يصدق على أمثال هؤلاء -والعياذ بالله تعالى- (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا) [الفرقان:23].
وصدق -عز وجل- حيث يقول: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء) [البينة:5]، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
أقول قولي هذا وأستغفر الله ..
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد وكفر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله سيد الخلائق والبشر الشفيع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى أصحابه ما اتصلت عين بنظر وسمعت أذن بخبر.
أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فاتقوا الله العلي حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، وتزودوا من دنياكم لآخرتكم عملاً يرضاه، واعلموا أنه لا يضر وينفع، ويصل ويقطع، ويفرق ويجمع، ويعطي ويمنع، يخفض ويرفع إلا الله.
واعلموا أن الله –سبحانه- وله الأمر، أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيها بملائكة قدسه فقال -وعز من قائل- مخبرًا وآمرًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم فصلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ما تعاقبت الأوقات، اللهم أيد الإسلام والمسلمين وانصر يا مولانا كلمة الحق والدين، وبدد اللهم شمل الكفرة والفسقة والملحدين.
اللهم عليك بكل ظالم وخائن وباغٍ ومعتدٍ يخون الإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود، ومن عاونهم، ومن ناصرهم يا رب العالمين.
اللهم عليك بأعداء الإسلام؛ فإنهم لا يعجزونك..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي