ليس بيننا وبين الله أحد، ليس بيننا وبين الله ترجمان ولا حجاب ولا جن ولا إنسان، أبواب الله مشرعة للتائبين، وأسحار الليل مفتوحة للمستغفرين.
أيها الأحبة المسلمون: مَن الذي "يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل"؟.
من الذي ينادي في كل ليلة: "هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟".
من الذي ينادي: "يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرتُ لك ولا أبالي".
من الذي ينادي: "يا عبادي، إنكم تخطئون في الليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم".
من الذي ينادي: (قل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
من الذي يرحم التائبين، ويشملهم بعفوه ومغفرته وهو خير الغافرين؟ من الذي عجت ببابه الأصوات، فلهجت بالمعذرة والمسائل والحاجات؟.
هو الغفور الرحيم، الذي اتصف بهذه الصفة، سبحانه، لوجود المذنبين، ولكثرة الخطائين، ولوفرة المقصرين، ليمحو ما اخترمته أنفسنا وما اكتسبته أيدينا، فهو خير الغافرين، وهو أرحم الراحمين.
جاء عثمان -رضي الله عنه- وأرضاه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يحمل الذهب والفضة، فصبها في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- صدقة لوجه الله، فنزل الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذ الذهب بيديه، وقلبه بكفه فقال: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم".
وقال لعمر -رضي الله عنه- في شأن حاطب بن أبي بلتعة: "يا عمر، وما يدريك! لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
قد يغفر الله للعبد مغفرة فيمشي على وجه الأرض وما عليه من خطيئة، فقد غفر الله ذنوب خلقه، برحمتهم لخلقه.
مرت بغي من بغايا بني إسرائيل، كانت على المعاصي والفجور، مرت على أنجس البهائم، مرت على كلب يلهث يأكل الثرى عطشا، ويتقلب على الأرض ظمأ، فانكسر قلبها، ورق فؤادها، وتهاطلت رحمات هذه المرأة الزانية البغي لكلب، كلب من الكلاب، فنزلت إلى البئر، فملأت خفها ماء، وسقت الكلب الظمآن، فشكر الله لها، وغفر ذنوبها. غفر الله ذنوب هذه الزانية البغي، بسبب رحمتها لهذا الكلب.
ومر رجل على غصن شوك في طريق المسلمين، فلما رآه، تداعى قلبه شفقة على الناس وقال: والله! لأنحينه عن طريق المسلمين حتى لا يؤذيهم، فزحزحه عن طريقهم، فزحزحه الله عن نار جهنم، وغفرت ذنوبه.
الله هو الغفار، وهو الواحد القهار، إذا أراد أن يغفر لعبده، فمَن الذي سيسأله؟ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء:23]، إذا غفر الله لعبده، فمَن سيسأله؟ والله لا يُسأل عن أمره، ولا يعقّب على حكمه -سبحانه وتعالى-.
أيها الأحبة المؤمنون: إذا وقف العبد بين يدي الله، وتمثل بين يدي سيده ومولاه، يناديه: رباهُ رباه! قد ذهبت اللذة، وانقضت الشهوة، وبقي العذاب والهوان، بقي ذل المعصية، ينادي ربه، بين ذنوب وخطايا، وعيوب ورزايا،، قد أقضت مضجعه، وكدرت مهجعه، لم يجد ملجأ إلا إلى الله، يقف هذا العبد الضعيف المسكين، بين يدي الله وقد أحزنته ذنوبه، وأهمّتْه عيوبه، ينظر يمينا فإذا بالنفس الأمارة بالسوء قد خذلته، وينظر شمالا وإذا بالشيطان قد تخلى عنه، فلم يجد إلا الله، لم يجد إلا الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فيلوذ بباب الله معتذرا، ويقف بين يديه منكسرا.
يناديه: يا ربِ! يا رب! وإذا بالرحمن -جل جلاله-، وإذا بالغنيّ عن العباد، الذي لا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية، فإذا بذي العفو والغفران، لا ينظر إلى ما مضى من إساءته، ولكن يفرح بإنابته وتوبته، فتصعد تلك الكلمات والدعوات، فتنتهي إلى ما شاء الله أن تنتهي، فيغفر الله له، ويتوب عليه.
وقد يكون هذا العبد ابن ستين وسبعين سنة، فيغفر الله له في طرفة عين، فيحثُو الشيطان على نفسه التراب ويقول: يا ويلتاه! أغويه من ستين وسبعين، ويغفر له في طرفة عين!.
فإذا غفرت الذنوب، وسترت العيوب، ورأى العبد بشائر فضل الله وإحسانه، وكرمه وامتنانه، أصبح ولسان حاله يقول: يا رب! أسأتُ فيما مضى من عملي، فأحْسِنْ لي فيما بقي من عمري، وأحسن لي فيما بقي من أجلي؛ فيفتح الله في وجهه أبواب البر، فينطلق ذلك العبد المذنب المسيء، إلى أبواب الخير والتوفيق، بسبب توبته وإنابته، فإذا بالذنوب قد تبدلت، وإذا بالسيئات قد تحسنت، قال -تعالى-: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان:70].
أيها المسلمون: من الذي يحول بين العبد وربه؟ قال -سبحانه- في الحديث القدسي: "يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة"، فمن الذي يحول بيننا وبين الله؟ من الذي يقف بيننا وبين ربنا؟.
ليس بيننا وبين الله أحد، ليس بيننا وبين الله ترجمان ولا حجاب ولا جن ولا إنسان، أبواب الله مشرعة للتائبين، وأسحار الليل مفتوحة للمستغفرين.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يدني العبد يوم القيامة ثم يلقي عليه كنفه ثم يكون في ستر لا يسمع ما يقول إلا الله وحده لا شريك له، فيقول له: يا عبدي عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا. فيقول: نعم يا رب. فيقول: عبدي، عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا. فيقول: نعم يا ربي، حتى إذا كشفت العيوب، وكشفت الذنوب، وأشفق العبد على نفسه، قال الحليم الرحيم: عبدي، سترتها عليك في الدنيا، وها أنا أسترها عليك اليوم، فيستره الله بستره، ويشمله بعفوه ومغفرته، ويدخله الجنة".
ليس بين العبد وبين الله أحد، لا يستطيع أحد أن يحرمك من رحمة ربك، ولا يستطيع كائن مَن كان أن يقفل أبواب فضل الله عليك.
فانهب أثباج العمر إلى تداركه، وشمر إلى طريق الخير ومسالكه، وتفطن لأمارات التوبة، وعلامات الأوبة، فإن دلائل التوبة ثلاث، إذا رزقها الله العبد غفرت ذنوبه، وسترت عيوبه، وزالت عنه خطاياه.
أول تلك الأمارات وأجلها وأعظمها: ندم القلب والجنان، ثم: استغفار اللسان، ثم: الإقلاع وصلاح حال الجوارح والأركان.
فأما ندم القلب والجنان فلا يرزقه الله إلا لعبده الذي يحبه، العبد المرحوم المغفور له هو الذي ينكسر قلبه لله، وإذا انكسر قلبه لله -عز وجل- شمله الله برحمته، وعمه بعفوه ومغفرته.
إذا تحرك دم الندم في القلوب جاءت رحمة علام الغيوب.
الندم هو بشير التوبة، ولا يتحرك الندم إلا حينما يقلب الإنسان الذنب في نفسه، فتلومه نفسه، ويلومه قلبه قائلاً: ما كان ينبغي أن تقول كذا! وما كان ينبغي أن تفعل كذا! وما كان ينبغي أن يكون منك هذا الشيء!.
فإذا ندم القلب والجنان، تحرك اللسان بالاستغفار، وقال العبد المذنب النادم: اللهم إني فعلت كذا وكذا فاغفر لي. فانطلقت هذه الكلمة الطيبة، لتقرع أبواب السماء: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر:10].
فإذا قبل الله استغفار العبد، وقبل الله توبته أصلح حاله فجاءت العلامة الثالثة وهي الإقلاع عن الذنوب والمعاصي، ومقتها في جنب الله -سبحانه وتعالى- فكان هنالك العبد من أسعد الناس حظا، وأوفرهم ربحا.
فلا يقنّطنّكم الشيطان عن رحمة الرحمان، فإنما هما سبيلان: سبيل الزيغ والخيبة، وسبيل والندم والتوبة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
أيها المسلمون: إذا جاءت هذه العلامات الثلاث: ندم القلب والجنان، واستغفار اللسان، وصلاح الجوارح والأركان. فاعلموا أنها مؤشرات الخير، ودلائل رحمة الله وفضله وغفرانه. نسأل الله أن يجعلنا من التوابين، ومن المستغفرين.
صلوا وسلموا، على من قال الله -عز وجل- فيه: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِينَاً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) [الفتح:1-2].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي