إن إطراء الحياة الآمنة هو ديدن كافة المنابر؛ للصلة الوثيقة بينه وبين إمكانية استقرار المجتمعات، وإلا فما قيمة لقمة يأكلها المرء وهو خائف، أو شربة يشربها الظمآن وهو متوجِّس قلِق، أو غفوة من نوم يتخللها يقظة وسْنَانٍ هلع، أو علم وتعليم وسط أجواء محفوفة بالمخاطر..؟! إن كل مجتمع يفقد الجانب الأمني في ثناياه إنما هو في الحقيقة فاقد لمعنى الحياة لا محالة، فما قيمة حياة يتوجس فيها الفرد ويخاف من أن يكون عُرضة لنهب الناهبين.. وجشع الطامعين.. يتوجس في الصباح الدوائر... ويبيت الليل مشغول الخاطر.. إذا أصبح حمل همّ المساء.. وإذا أمسى حمل همّ الصباح.. خائف يترقب الدوائر.. ويخشى القوارع...
الحمد لله القائل (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش: 3- 4]، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أيها الأحبة: إن وقفات التأمل والمراجعة للواقع الذي نعيشه من النعم المتعددة مقرونا بالتأمل بما صح من السنة المطهرة يجعل المسلم يعرف أسرارها، ويستضيء بأنوارها، فتنشرح النفس.. وتحلوا الحياة.. ويتفتق البيان بآيات الحمد والثناء على المنعم المنان بما أعطى من نعم لا حدود لها.
ومن عظيم ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الحديث فقد قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا". وفي رواية: "فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها". (رواه الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد وهو حديث حسن عن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه).
الله أكبر أيها الإخوة: إنها كلماتٌ يسيرات، حوت معنى الحياة الحقة، والاستقرار الدائم، بل إنها كلمات ترسم للمرء صورة الحياة بكل تفاصيلها.. حلوها ومرها.. وسهلها وصعبها، على أنها لا تتجاوز هذه المعايير الثلاثة، والتي لا يمكن لأيِّ كائن بشري عاقل أن يتصوّر الحياة الدنيوية الهانئة بدون توافرها، وماذا في الدنيا أكثر من هذا..؟ عافية البدن.. وتوفر القوت الذي يشبعه.. والمأوى الآمن.. ولو بحث الإنسان وراء ذلك لم يجد بعد ذلك شيئاً، فالدنيا كلها بين يديه بمتعها.
إنها عبارات سهلة على كل لسان، غير أن وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بكونها تعادل حيازة الدنيا بحذافيرها يجعل كل واحد منا يتأمّل ويدقق النظر في أبعاد هذه المعاني، وتنْزيلها على واقع حياتنا جميعاً، ومدى تأثيرها فينا وجوداً وعدما، إيجاباً وسلباً.
أمن المرء في سربه -أيها الأحبة- مطلبُ الفرد والمجتمعات على حدّ سواء، وهو الهدف المرتقب لكل المجتمعات بلا استثناء على اختلاف مشاربها، ثم إن إطراء الحياة الآمنة هو ديدن كافة المنابر؛ للصلة الوثيقة بينه وبين إمكانية استقرار المجتمعات، وإلا فما قيمة لقمة يأكلها المرء وهو خائف، أو شربة يشربها الظمآن وهو متوجِّس قلِق، أو غفوة من نوم يتخللها يقظة وسْنَانٍ هلع، أو علم وتعليم وسط أجواء محفوفة بالمخاطر..؟!
إن كل مجتمع يفقد الجانب الأمني في ثناياه إنما هو في الحقيقة فاقد لمعنى الحياة لا محالة، فما قيمة حياة يتوجس فيها الفرد ويخاف من أن يكون عُرضة لنهب الناهبين.. وجشع الطامعين.. يتوجس في الصباح الدوائر... ويبيت الليل مشغول الخاطر.. إذا أصبح حمل همّ المساء.. وإذا أمسى حمل همّ الصباح.. خائف يترقب الدوائر.. ويخشى القوارع..
ومن أجل الأمن –أحبتي- جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة والحدود الرادعة تجاه كل مُخلٍ بالأمن كائنا من كان، بل وأغلقت أبواب التهاون في تطبيقها، أيّا كان هذا التهاون، سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها، أو في الاستحياء من الوقوع في وصمة نقد المجتمعات التي تدعي الحضارة، ومعرّة وصفهم للغير بالتخلف بسبب تطبيقها.
وحين يدبّ في الأمة داء التوجس الأمني فإن المتسببين في ذلك يهيلون التراب على أمتهم، ويقطعون شرايين الحياة الآمنة على الأجيال الحاضرة والآمال المرتقبة.
أيها الإخوة: إن إصباح المرء المسلم آمنًا في سربه لهو من أوائل بشائر يومه وغده، وما صحّة البدن وقُوت اليوم إلا مرحلة تالية لأمنه في نفسه ومجتمعه، إذ كيف يصحّ بدن الخائف..؟! وكيف يكتسب من لا يأمن على نفسه وبيته..؟!
ولأجل هذا كان لزاماً علينا أن نقدر حقيقة الأمن الذي نعيشه، وأن نستحضره نصب أعيننا بين الحين والآخر، حتى لا نكون مع كثرة الإمساس له فاقدي الإحساس به، ولاسيما حينما نطالع يمنةً ويسرة لنرى بعض الأقطار الملتهبة بالصراع.. والتي يطحن بعضها بعضاً من داخلها، أو بما هو أدهى وأمر من خلال سطوة البغاة عليها واجتياح العدوان المسلّح لها، استباحةً لأرضها، وقطعاً لحرماتها.
أيها الأحبة: في نظري أن للأمن مصدران أساسيان، الأول: السلطة التنفيذية والقوة القضائية، ولن تتمكن أيّ دولة مهما أُوتيت من الإمكانات البشرية والمادية والتقنية أن تحفظ الأمن على التمام بهذا المصدر وحده، إذا لم يصاحب هذه السلطة المصدر الثاني: وهو الوعي الشعبي بأهمية الأمن بصورته الكاملة.. والانتماء إلى الأمة والوطن.. وطاعة أولي الأمر بالمعروف.. والصدور بالأفعال عن أهل العلم والفتوى.. واعتبار ذلك من الدين.. واستجابة لرب العالمين القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]، بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا....
أيها الإخوة: لقد راعنا وأقض مضاجعنا ما حدث في محافظة الأحساء من اعتداء وقتل في اليوم العاشر من شهر الله المحرم، الذي ندَب لنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- صيامه شكراً لله –تعالى- على ما أولاه لنبيه موسى -عليه السلام- وقومه حيث نجاهم فيه من عدو الله وعدوهم فرعون.
إن هذا الاعتداء جريمة شنيعة لما فيها من الإفسادِ في الأرض وزعزعةِ الأمن في هذا البلد الطاهر، ولما فيها من سفكٍ للدم الحرام في الشهر الحرام وبثّ لبذورِ الفُرقة وإشاعةٍ للفتنة التي قال الله عنها: (..وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ..) [البقرة:191]، وفي بطن هذا العمل جرٌ للبلاد إلى بلايا وشرور عريضة لا حدود لها.. وهذا الاعتداء جرم بين في باعثه وغايته وتنفيذه وأثره..
أيها الإخوة: نعم هذا الاعتداء جرم في باعثه وغايته.. فما الباعث لمثل هذه الجريمة وما الغاية منها..؟! باعثها ضلالُ الفكر وفسادُ المنهج، والفهم الخاطئ للدين، وتنزيلُ الأدلة على الوقائع.. وأما غايته فإشاعة الفُرقة وخلق العداوة وضرب اللُّحمة الوطنية التي دعا إليها الدين وقامت عليها هذه البلاد منذ توحيدها قبل ما يزيد على ثمانين عاماً.
أما تنفيذه فهو تنفيذ لجريمة قتل عمد لأنفس معصومة حرم الله إزهاقها، سواء منهم من قضى بالحادث أو من رجال الأمن الذين يحرسون أمن هذا البلد ويقومون عليه، وقد توعد الله القاتل بأعظم وعيد فقال: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93]، وتوعد عليه رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَقَالَ: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا»، وَقَالَ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: «إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ» (رواه البخاري).
وقوله: "في فسحة" أي: سعة من دينه يرتجي رحمة الله ولطفه، ولو باشر الكبائر سوى القتل، فإذا قتل ضاقت عليه ودخل في زمرة الآيسين من رحمة الله –تعالى-، ومعنى "ورطات" جمع ورطة، وهي الشيء الذي قلما ينجو منه، أو هي الهلاك. "لا مخرج" لا سبيل للخلاص منها. "سفك الدم الحرام" قتل النفس المعصومة. "بغير حله" بغير حق يبيح القتل.
وعن أَبَي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إِلاَّ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا أَوْ مُؤْمِنٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا».
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا فَاعْتَبَطَ بِقَتْلِهِ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً».
وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لاَ يَزَالُ الْمُؤْمِنُ مُعْنِقًا صَالِحًا مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا فَإِذَا أَصَابَ دَمًا حَرَامًا بَلَّحَ». (رواه أبو داود وصححها الألباني).
وقوله: "لاَ يَزَالُ الْمُؤْمِنُ مُعْنِقًا صَالِحًا" أي: مُسْرِعا في طاعته، مُنْبَسِطا في عَمله، موفَّقاً للخيرات مسارعاً إليها "ما لم يصب دماً حراماً"، "فَإِذَا أَصَابَ دَمًا حَرَامًا بَلَّحَ" يعني: أعيا وصار بخلاف الحالة الأولى، وذلك بسبب هذا الذنب.
كما أن هذا التنفيذ للقتل الآثم افتئاتٌ على ولي الأمر وانتهاك لسلطانه.. ذلك أن حفظ دماء الرعية والأمر بالقتل هي من اختصاصه حسب الشرع، ولا يجوز لكائن من كان أن ينتهك هذه الولاية..
أما أثر هذا الجرم فكبير في الحاضر والمستقبل لما ينطوي عليه من استهانة بالولاية، وبث للفُرقة، وتعزيز العصيبة والحزبية والطائفية المقيتة، وإن لم يكن بتدبير خارجي فهو سيسر العدو ويفرحه، وقد يكون سبباً في فرقة بين أهل البلد لا تحمد عقباها.
أيها الإخوة: الواجب علينا استنكار هذا الحادث الآثم وتجريم فاعليه.. وحشانا أن نفرح بمثله. والحمد لله أن طهّر أيدينا منه، ونسأله أن يطهر ألسنتنا وقلوبنا من الاغتباط به..
ثم إن علينا أن ننتبه ونحذر كل الحذر من الأطروحات الشاذة ونعرض كل ما يعنّ لنا أو يطرح علينا على أهل العلم الثقات الذين يصدرون من الفهم الصحيح للكتاب والسنة..
وأن نترحم على من قضى من رجال أمننا البواسل الذين فدوا بأرواحهم أمن بلادنا واستقرارها؛ فها نحن ننعم بوارف الأمن بفضل الله، ثم بما يقومون عليه من حراسة لهذا الوطن.
فأمن هذا البلد ليس أمناً لنا نحن المواطنين والمقيمين فحسب، بل هو أمن لأمة الإسلام التي تؤمه لما يحويه من الحرمين والمشاعر المقدسة..
اللهم احم هذه البلاد وأهلها من الشر، وارزقنا التقوى ظاهرا وباطنا وادفع عنا الشرور والفرقة بحولك وقوتك، الله أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا.. اللهم اغفر لمن قضى من رجال أمننا واجعلهم من الشهداء يا رب العالمين، وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي