إن لُقمةً يطعمها المرء لن يهنأ بها تحت وكزات الخوف، وإن عبادة يتناوشها الخوف من كل جانبٍ لن تكون كاملة مستقرة فما سُميت صلاة الخوف بذلك ولا نقصت صفتها عددها وشروطها وسننها إلا لداخلة الخوف...
الحمدُ لله الكبير المُتعال، ذِي العزة والجبروت والملكوت والجلال، له ملك السموات والأرض وما بينهما وهو شديدُ المحال، وأشهدُ أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، أنزل علينا الكتاب وفصّله لنا، وضرب فيه الأمثال، وأشهدُ أن محمداً عبدُ الله ورسوله، صادقُ المقال، وطيبُ الخصال، دعا إلى الخير على كل حال، وحذر من الشر والغفلة وسوءِ المآل، فصلواتُ الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحبه الغرِّ الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان ما هلّ قطرٌ وأظلّ ظِلال وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فأُوصيكم - أيّها الناس - بتقوى الله سبحانه والاستمساك بعروته الوثقى، والاعتصام بحبله المتين، ولُزوم جماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، وإياكم ومُحدثاتِ الأمور، فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [النور: 52].
أيُّها الناس: إن حياةً بما فيها من حضارةٍ، ووفرةِ عيش ينقصها الأمن لهي حياةٌ خداج لهي حياةٌ خداج خِداجٌ خِداجٌ خِداج غيرُ تمام، وإن نوماً بلا أمنٍ لهو قلقٌ وأرق، وإن عبادةً تفتقرُ إلى الأمن لهي عبادةٌ مشوشة يكثُرُ الالتفات فيها، لأن البشر قاطبة في حاجةٍ مُلحة إلى أمنٍ يتحققُ بما عندهم من إيمان، فإن من آمن أمِن ومن أمِن نما، ولا حياة مستقرةً دون توافر هذا الهرم (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82]. أي لهم أمن الدنيا والآخرة.
الأمن – عباد الله - مطلبٌ الأممِ طُرّا، فلا يزهدُ فيه إلا من كَرِه الحياة الكريمة ولم يرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولاً، كيف لا ! وهو المِنّة التي توجبُ على العباد شُكر واهبها بعبادته على الوجه الذي يرضى به عنهم (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش: 3- 4].
إن لُقمةً يطعمها المرء لن يهنأ بها تحت وكزات الخوف، وإن عبادة يتناوشها الخوف من كل جانبٍ لن تكون كاملة مستقرة فما سُميت صلاة الخوف بذلك ولا نقصت صفتها عددها وشروطها وسننها إلا لداخلة الخوف وانسلاخ الأمن إنه لا أمن بلا إيمان ولا نماء بلا أمن وضماناتٍ واقعيةٍ ضد ما يعكر الصفو في أجواء الحياة اليومية.
الأمنُ – عباد الله – ضرورةٌ من ضرورات الحياة لا تقبلُ المزايدة ولا ليّ الذراع بل إن الأمن حدّ لا يحتملُ التأويل ولا الفهم الخاطئ ولا الإهمال.
الأمن – عباد الله – ضرورةٌ لا تتحقق إلا بتحقق حفظ الضرورات الخمس التي أجمعت عليها الديانات والملل "وهي الدين والنفس والمال والعرض والعقل"، وإن من يخلُ بالأمن فهو كالذي يخرقُ سفينةُ المجتمع الماخرة وما على أهل السفينة إلا أن يقذفوا به خارجها حتى لا تغرق بهم جميعاً.
إن المساومة على أمن المجتمع لا تقع إلا ضمن نسيجٍ من الأعداء المتربصين به وإن استعملوا في نفاذ اختلاله الأغرار من أبناءه والأُجراء ممن لديهم مِسكةُ عقل، إن من يهز أمن المجتمع فإنما يهزّ أمن نفسه قبل كلِ شيء ثم أمن أمه وأبيه وأخته وأخيه وصاحبته وبنيه قبل أن يهز أمن المجتمع برمته كل ذلكم قد يكون من خلال إلحادٍ فكري يعصفُ بالدين أو سفكِ دمٍ يعصفُ بالرقاب المعصومة أو بجرعةِ مُخدرٍ أو شربةِ مسكرٍ يُغيبان العقل أو بسرقة مالٍ أو أكله بالباطل لتطيش حقوق المجتمع الاقتصادية أو بهتك عرضٍ وفعلِ فاحشةٍ يضيعُ معها الشرف والكرامة، إن من شذّ مثل هذا الشذوذ فطال أهله ومجتمعه فإنما يُعرضُ نفسه لحتفه بالغاً ما بلغ من العنفوان والشجاعة والمكرِ والخديعة (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [آل عمران: 54].
لذلكم صار في قتلِ مجرم واحدٍ حياةٌ هنيئة لأُمةٍ بأكملها (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 179].
لقد جاءت شريعتنا الغراء بعقوباتٍ صارمةٍ من أجل الحفاظ على أمن المجتمع الذي لا يختصُ استحقاقه بأحدٍ دون أحد فقطعت كل حبلٍ يُفضي إلى التهاون بتلك العقوبات أياً كان هذا التهاون سواءٌ أكان في الاستحياء من تعيير حضارةِ الغرب لها أو في تنشيط الوُسَطَاء في إلغائها أو تهميشها لذلكم حسم النبي -صلى الله عليه وسلم- كل سبيلٍ للتخاذل أمام ضرورةُ الأمن بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وايُمُ الله لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعتُ يدها".
الذين يتلاعبون بأمن المجتمع المسلم إنما هم في الحقيقة يُهيلون التراب على ميراثهم الضروري، ويقطعون شرايين الحياة عن الأجيال الحاضرة والآمالِ المرتقبة، وهم يُمتَطون بوعيٍ أو بغيرِ وعي من عدوهم المُتربِصِ بهم ليزيد سُقمهم علّة وطينهم بلّة، ورُبما سوّلُوا لهم وزوّقوا ما يبررون به تلك الخطيئة فيخالونها حُلوةٌ وهي مُرة، وسهلةً وهي صعبة، ومليحة وهي دميمة، وأصحُّ ما فيها أنها غيرُ صحيحةٍ جملةً وتفصيلاً، (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) [يونس: 32].
عباد الله: إنّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره، ولأجلِ أن نعرف حقيقة الأمن وصورته فلا بد أن تكون هذه المعرفة مُتصفةً بالشمولية وأن لا يضيق عطنُها من خلالِ طرحٍ مستهجنٍ بقصر الأمن على الخلو من الجرائم الجنائية فحسب كلا ! كلا ! فإن مفهوم الأمن أعمّ من ذلكم بمراحل، كما أن رجل الأمن ليس هو المسؤول عن الأمن فحسب ! إذ كُلُ فردٍ من أفرادِ المجتمع المسلم يجبُ أن يكون رجل أمن لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ُلُّكُمْ رَاعٍ وَكلكم مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ راعٍ ومسئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ راعيةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا ومَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ راعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ومَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" (رواه البخاري ومسلم).
فإذا تصورنا ذلكم جيداً - عباد الله – فإنه ينبغي علينا جميعاً معرفة شموليةُ مفهوم الأمن وأنه يشملُ مراكز القوى في المجتمع المسلم الواحد، وعلى رأسها الأمن الديني، وذلك بالاستسلام لله بالدين، والعمل على تحقيق ما يُرضيه بالائتمار بما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن يُعبدَ الله إلا بما شرع لأن الله جلّ وعلا قد قال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63]، فما حلّت الفتن بمُجتمعٍ مسلم إلا وثمّة خللٌ في علاقتهم مع ربهم بذنوبٍ ارتكبوها أو واجباتٍ تهاونوا بها، فما نزل بلاءٌ إلا بذنب ولا رُفع إلا بتوبة.
إذا رُزِقَ الناس الأمان فإنما*** يطيبُ لهم عيشُ الحياةِ مع اليُمنِ
ولا يعمرُ الأرض المُخيفة عامرٌ *** لأن فسادَ الأرضِ من غيبة الأمنِ
عافانا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن ولا حول ولا قوة لنا إلا بالله العليّ العظيم.
قد قُلتُ ما قلت إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفورُ الرحيم.
الحمدُ لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِ وامتنانه. وبعد: فاتقوا الله – عباد الله – واعلموا أن من مراكز الأمن الشمولي الأمن الغذائي وما يُسمى بالأمن الصحي الوقائي، يُضافُ إلى ذلكم ما يتعلقُ بالضوابط الأمنية في مجالاتِ التكافل الاجتماعي والعمل التطوعي وتهيئة فُرصِ العمل والإنتاج المعيشي والقضاءِ على البطالة، المُثمرةِ الخلل والفوضى ودراسة الظواهر الأُسرية وما يعتريها من ثقوبٍ في بنائها؛ لأن الأمن بين الزوجين سببٌ لأمن الأولاد، ثمّ أمن العشيرة، ثم أمن الأمة المؤلفةِ منهم جميعاً.
فمن مثلِ ذلكم الأمن يتكونُ مِزاجُ الأمة شريطةَ عدم إغفال ما هو أهمُ من تلك العوامل الذي يُعدّ هاجساً ملِحاً لكلِ مُجتمع ألا وهو الأمنُ الفكري الذي يحمي عقول المُجتمعات ويحفظها جميعاً من الوقوع في الفوضى الفكرية بالعبِّ من فكرِ الشهواتِ كما الهِيم، أو الولوغ في أتون الانسلاخ الأخلاقي الذي يُمزقُ جلباب الحياء الفطري، ويحفظُ عقول المجتمعات كذلك من مزالق الغلو والإفراط والتخوّضِ في دين الله على غيرِ هدىً من الله ولا هدى من رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وخيّرُ من يُتوجُ به الأمن الفكري عُنصرانِ رئيسان:
أولهما: الفكر التعليمي.
وثانيهما: الأمن الإعلامي.
فكما أن للأموال لصوصاً، فكذلك للعقولِ لُصوص، بل إن لصوص العقول أشدُ فتكاً وأنكأُ جرحاً من لصوص الأموال، فلا أمن إلا بسلام، ولا سلام إلا بالاستسلام للواحدِ الأحد لا شريك له حيثُ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة: 208].
هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية محمد ابن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقدسه وأيه بكم أيها المؤمنون فقال جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأخذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين،
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين،
واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم. اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح أحوال المُسلمين في كل مكان اللهم أصلح أحوال المُسلمين في كل مكان، اللهم ألف بين قلوبهم، واجمع كلمتهم، اللهم شتت شمل عدوهم يا ذا الجلال والإكرام
اللهم ارحم إخواننا المستضعفين في دينهم في سائر الأوطان، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام.
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي