إنّه خلق الحياء! الحياء من الله، ومن النفس، ومن الناس؛ إنّه الخلق الذي اتصف به الأنبياء، فـ "إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) [الأحزاب:70].
خلُقٌ من أخلاق الإسلام، هو قرين الإيمان، وأمارة صادقة على طبيعة الإنسان، يكشف عن قيمة إيمانه ومقدار أدبه، هو خير كله، وكله خير، ولا يأتي إلا بخير.
خلُق من أخلاق الملائكة، وسمة من سمات الأنبياء وأتباع الأنبياء. خلق من أسمى الصفات الإنسانية، وأنبل الأخلاق الفاضلة.
خلق أصبح اليوم خصمه وسائل الإعلام، وهو الخلُق المفقود في المسلسلات والأفلام والبرامج الحوارية المفتوحة، وحين تختلط المذيعة بالمذيع، ويتكلمون المكالمات السامجة!.
خلق داسته بعض نسائنا في الأسواق والأفراح والمنتزهات، ووطئته ثلة من شبابنا في الحدائق والطرقات.
إنّه خلق الحياء! الحياء من الله، ومن النفس، ومن الناس؛ إنّه الخلق الذي اتصف به الأنبياء، فـ "إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
إنه خلق قدوتنا محمد -صلى الله عليه وسلم- والذي كان أشد حياء من العذراء في خدرها، وإذا كره شيئا عرف في وجهه.
إنّه الحياء والخلق الذي يبعث على فعل الحسن، وترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق.
إنّه الحياء، ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، ولو تجسم الحياء لكان رمز الصلاح والإصلاح.
عندما ترى الرجل يتحرج من فعل ما لا ينبغي، أو ترى حمرة الخجل تصبغ وجهه إذا بدر منه ما لا يليق، فاعلم أنّه حيّ الضمير، نقيّ المعدن، زكي العنصر.
وإذا رأيت الشخص ضعيفا بليد الشعور، لا يبالي بما يأخذ أو يترك، فهو امرؤ لا خير فيه، وليس له من الحياء وازع يعصمه عن اقتراف الآثام، وارتكاب الدنايا، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت!.
الحياء والإيمان قرينان، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر، وحينما يفقد المرء حياءه يتدرج من سيء إلى أسوأ، ويهبط من رذيلة إلى أرذل، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل.
وفي حديث يكشف مراحل السقوط الذي يبتدئ بضياع الحياء، وينتهي بشر العواقب، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا، فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا، فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا، فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعونا نزعت منه ربقة الإسلام" رواه ابن ماجه.
إنه وصف دقيق في وصف أمراض النفوس، وتتبع أطوارها، إنّ الرجل إذا مزق الحجاب عن وجهه ولم يتهيب على عمله حسابا، ولم يخش في سلوكه لومة لائم، مدّ يد الأذى للناس، وطغى على كلّ من يقع في سلطانه، وإذا لم تستح فاصنع ما تشاء!.
أيها المسلمون: إنّ الحياء ما كان في الكلام، وهو يتطلب من المسلم أن يطهر لسانه من الفحش، وينزهه عن العيب، وأن يخجل من ذكر العورات؛ وإنّ من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عان بمواقعها وآثارها، وفي الحديث: "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاءة من الجفاء، والجفاء في النار".
وإن من الحياء أن يخجل الإنسان من أن يؤثر عنه سوء، وأن يحرص على بقاء سمعته نقية من الشوائب، بعيدة عن الإشاعات السيئة.
ومن حياء الإنسان من الناس أن يعرف لأصحاب الحقوق منازلهم، وأن يؤتي كل ذي فضل فضله، فللغلام مع من يكبرونه، وللتلميذ مع من يعلمونه، مسلك يقوم على التأدب والتقدير، فلا يسوغ أن يرفع فوقهم صوته، ولا أن يجعل أمامهم خطوه.
وعن عبد الله بن بسر قال: لقد سمعت حديثا منذ زمان: "إذا كنت في قوم فتصفحت وجوههم، فلم تر فيهم رجلا يهاب في الله -عز وجل-، فاعلم أنّ الأمر قد رق".
الرجل الحيي يحتقن وجهه، وتحمر وجنتاه إذا صدر منه أو من غيره ما ينافي الحياء، ومن سمت الحياء ما يتميز به الحيي من مظاهر الوقار والسكينة، ومكتوب في الحكمة: إن من الحياء وقارا، وإن من الحياء سكينة.
والحياء المحمود يحجز النفس عن كثير من خوارم المروءة وقوادح الدين، وينأى بالمرء عن الرذائل، ويحجزه عن السقوط في سفاسف الأخلاق وحمأة الذنوب.
إنّ مَن لا حياء له فهو ميت في الدنيا، شقيّ في الآخرة، وبين الذنوب وبين قلة الحياء وعدم الغيرة تلازم من الطرفين، إنّ هناك تلازما بين ستر ما أوجب الله ستره وبين التقوى، فكلاهما لباس، هذا يستر عورات القلب ويزينه، وذاك يستر عورات الجسم ويزينه.
إنّ مسارعة أدم وحواء إلى ستر عوراتهما بأوراق الشجر، دليل على أنّ الحياء عنصر أصيل، مركوز في فطرة الإنسان، فعليه أن يهتمّ به، ويحافظ عليه، ويصونه من أن يثلم، وإذا لم يستح المرء فليصنع ما يشاء!.
إذا لم تخش عاقبة الليالي *** ولم تستحي فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير *** ويبقى العود ما بقى اللحاء
ليس عجيبا ما نراه من منكرات الأخلاق إذا علمنا أنّ وازع الحياء قد مات، حينما قلّ الحياء عند بعض نسائنا حادثت المرأة الرجل، ومازحت البائع، وركبت وحدها مع السائق، وضاحكت الأجانب، وتساهلت في الهاتف!.
حينما قل الحياء عند بعض شبابنا، رفعوا صوت الغناء، وعاكسوا النساء، وتشبهوا بالأعداء، في وسط الطريق يرقصون، وبقصات مضحكة يظهرون، وبالحركات السافلة يجاهرون!.
حينما قل الحياء، واستعلن البعض بالمنكر، فنصبت الأطباق الهابطة، وجاهر البعض بأخطائه، فهذا يصيّف في رحلة مع عائلته إلى خارج البلاد، وذاك يحدّث بكل جرأة وثقة عما شاهده في القنوات، وإذا لم تستح فاصنع ما تشاء!.
وحينما قل الحياء قلبت الحقائق، واستغفل الناس، وأُلبس الحق بالباطل، فأصبح التدين تطرفا، والجهاد إرهابا، والإرهاب دفاعا عن النفس، وأضحي الذل سلاما.
أيّها المسلمون: إن أسمى صور الحياء ومنازله هو ما كان مع الخالق -جل جلاله-، فنحن نطعم من خيره، ونتنفس في جوده، وندرج على أرضه، ونستظل بسمائه، والإنسان بإزاء النعمة الصغيرة من مثله يخشى أن يقدم إلى صاحبها إساءة، فكيف لا يوجل الناس من الإساءة إلى ربهم الذي تغمرهم آلاؤه في كل حين وأن؟!.
هب البعث لم تأتنا رسله *** وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحقّ *** حياء العباد من المنعم؟!
قال بعض السلف: خاف الله على قدر قدرته عليك، واستح على قدر قربه منك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "استحيوا من الله حق الحياء"، قلنا: إنا نستحي والله يا رسول الله، الحمد لله، قال: "ليس ذلك، الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء".
إنّ على المستحي من الله تنزيه لسانه أن يخوض في باطل، وبصره أن يرمق عورة وينظر شهوة، وأن يحفظ أذنه من أن تسترق سرا أو تسمع زورا، وعليه أن يفطم بطنه عن الحرام، ويقنع بالحلال الميسور، ثم عليه أن يصرف أوقاته في مرضاة الله وإيثار ما لديه من ثواب، فلا تستخف به نزوات العيش ومتعه الخادعة، فإن فعل ذلك عن شعور بأن الله يرقبه، ونفور من اقتراف تفريط في جنب الله، فقد استحيا من الله حق الحياء.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى العصيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها *** إنّ الذي خلق الظلام يراني
والحياء من الناس خلق حسن جميل، يمنع المعايب، ويشيع الخير والعفاف، قال حذيفة: "لا خير فيمن لا يستحي من الناس"، وقال بعضهم: "أحيـي حياءك بمجالسة من يستحيا منه".
ومن استحيا من الناس ولم يستحي من نفسه فنفسه أحسن عنده من غيره، لأنّه يراها أحقر من أن يستحيي منها، ومن كبرت عليه نفسه، كان استحياؤه منها أكثر من استحيائه من غيره، ومن ثّمّ قال بعض السلف: "من عمل في السرّ عملا يستحيي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدر، وما كرهت أن يطلع عليه الناس فلا تفعله إذا خلوت"، وفي الأثر: "استحي من الله كما تستحي من أولي الهيبة من قومك".
أيها المسلمون: قد كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يأخذ نفسه بالحياء، ويأمر به، ويحث عليه، ومع ذلك فلا يمنعه الحياء من حقّ يقوله، أو أمر ديني يفعله، تمسكا بقوله -تعالى-: (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) [الأحزاب:53].
وهذا هو نهاية الحياء وكماله وحسنه واعتداله، فإنّ من فرط عليه الحياء حتى منعه من الحق فقد ترك الحياء من الخالق واستحيا من الخلق، ومن كان هكذا حرم منافع الحياء، واتصف بالنفاق والرياء: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النساء:108].
... والله لا يستحيي من الحق، والذي يتهيب تقريع المبطلين لا يعتبر حييا في موقف الانتصار للحق، وفضح العقائد الفاسدة، والتهوين من شأن الباطل، ويعتبر الحياء فيها ضعفا وخورا ومهانة.
لا ينبغي الحياء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا في المطالبة بالحقوق، ولا في تعليم الجاهل، ولا في السؤال عمّا لا نعلم، ولا يتعلم العلم مستحيي ولا مستكبر، وقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: "نعم النساء نساء الأنصار! لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقهن في الدين"، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يمنعنّ رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه أو شهده أو سمعه".
إخوة الإسلام: إنّ اهتزاز الإنسان، وتمعر وجهه في بعض المواقف، دليلُ سموٍّ كامن، وطبع كريم، والحياء خير كله.
أما إذا سقطت صبغة الحياء عن الوجه كما تسقط القشرة الخضراء عن العود الغصن، فقد أذنت الحياة الفاضلة بالضمور، وتهيأ الحطام الباقي أن يكون حطبا للنار، وذلك الذي يقال له: إذا لم تستح فاصنع ما شئت!.
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه *** فلا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياءك فاحفظه عليك فإنما *** يدل على وجه الكريم حياؤه
أقول هذا القول.
أما بعد: فقفوا قليلا أيها المسلمون، أرعوا سمعكم، وعيشوا مع النموذجية والمثالية، وتفيؤوا ظلال شجرة الحياء الحق، وارتشفوا من رحيق سلفكم ماء زلالا، وعسلا مصفى.
قال أبو عبد الله محمد بن سيرين: ما غشيتُ امرأةً قط، لا في يقظة ولا في نوم، غير أم عبد الله، وإني لأرى المرأة في المنام فـأعلم أنّها لا تحل لي فأصرف بصري.
مرّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلا فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واخضل جانبه *** وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فو الله لولا الله لا ربّ غيره *** لحركت من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يصونني *** وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
وهاك مثالا في الحياء والطهر للمرأة المسلمة، إنّها ابنة الرجل الصالح، تنحدر من بيت قريب ينضح بالعفاف والطهر والصيانة وحسن التربية، (فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء) [القصص:25]. قال عمر -رضي الله عنه-: "ليست السلفع من النساء" أخرجه ابن ماجه. ولكن جاءت مستترة قد وضعت كمّ درعها على وجهها استحياء، تمشي على استحياء مشية الفتاة الطاهرة، الفاضلة العفيفة، حين تلقي الرجال، على استحياء في غيرما تبذل ولا تبرج، ولا تبجج ولا إغوار، جاءته لتنهي إليه دعوة في أقصر لفظ وأخصره وأدله: (إنّ أبي يدْعوك).
وهذا مثال من بيت النبوة، فعن عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي -رضي الله عنه-، واضعة ثوبي وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلمّا دفن عمر -رضي الله عنه- ما دخلته إلا مشدودة علي ثيابي، حياء من عمر -رضي الله عنه-.
والحادثة التالية -إن صحت- تجسد قيمة الحياء: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقال لها: أم خلاد، وهي منتقبة تسأل عن ابنها، وهو مقتول، فقيل لها: جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟ فقالت: إن أرزأ ابني فلن أرزأ حيائي.
وفي زمننا هذا، هاكم هذا الموقف العجيب: قال أحد الدعاة: كنت في رحلة دعوية إلى بنجلاديش مع فريق طبي، أقام مخيما لعلاج أمراض العيون، فتقدم إلى الطبيب شيخ وقور ومعه زوجته، بتردد وارتباك، ولما أراد الطبيب المعالج أن يقترب منها، فإذا بها تبكي وترتجف من الخوف، فظن الطبيب أنّها تتألم من المرض، فسأل زوجها عن ذلك فقال وهو يغالب دموعه: إنّها لا تبكي من الألم، بل تبكي لأنّها ستضطر إلى أن تكشف وجهها لرجل أجنبي، لم تنم ليلة البارحة من القلق والارتباك، وكانت تعاتبني كثيرا: أوترضى لي أن أكشف وجهي؟ وما قبلت أن تأتي للعلاج إلّا بعد أن أقسمت لها أيمانا مغلظة بأن الله -تعالى- أباح لها ذلك عند الاضطرار...
فلما اقترب منها الطبيب نفرت منه، ثم قالت: هل أنت مسلم؟ قال نعم، والحمد لله، قالت: إن كنت مسلما فأسألك بالله ألا تهتك ستري إلا إذا كنت تعلم يقينا أن الله أباح لك ذلك.
أجريت لها العملية بنجاح، وعاد إليها بصرها بفضل الله -تعالى-، حدث عنها زوجها أنّها قالت: لولا اثنتان لأحببت أن أصبر على حالي ولا يمسني رجل أجنبي: قراءة القرآن، وخدمتي لك ولأولادك.
ما أعظم شموخ المرأة المسلمة بعزتها وعفافها! وما أجمل أن ترى المرأة مصونة فخورة بحشمتها! أكرِمْ به من إيمان يتجلى في صورة عملية صادقة، بعيدة عن التكلف أو التنطع، سالمة من الرياء وشوائب الهوى!.
كنت أريد أن أنهي حديثي عن هذه الصور الوردية، والمواقف الإيجابية، لكنني وجدت نفسي تنسل من جنة الصور الرائعة، لتعيش في واقع المواقف الماتعة، وبتّ أتساءل في قرارة نفسي: يا ترى، أين هذه المواقف من حال بعض نسائنا اليوم، وما يحدث في الأسواق والحدائق والمدن الترفيهية؟ تبرج وسفور، تكسر في الكلام، خضوع في القول، ممازحة ومضاحكة للرجال.
إنها أفعال نسائنا في افتتاح أسواق لا ناقة لهنّ فيها ولا جمل! هناك تجمعن، لا لشيء إلا فضولا وعبثا، هناك زاحمن الرجال، وتعرضن لكلّ لامس، وصافحن آخرين، وكشفن عن الوجوه، وانطلقت حناجرهنّ بالصخب والضجيج، هناك تزلزل جبل الحياء، وانفرط حبل الفضيلة، لأنّ من أتى بهنّ أشباه رجال ولا رجال! فيا ليتهم -إذ لا غيرة إسلامية- أن يكون عندهم حمية عربية جاهلية!.
إين هذه الصور الرائعة لنساء سلفنا وخلفنا، من أولئك النساء اللواتي كسرن طوق الحياء، وأسلمن أنفسهن لدعاة الرذيلة وأدعياء المدنية، وأصبحن يلهثن وراء شهوتهنّ، ويتبارين في التفسخ والانحلال، من خلال أزياء تسلب كلّ معالم الحياء؟.
ولكن؛ يتفطر القلب أسى وحزنا على أولئك الفتيات الظاهرات، اللاتي طاشت بهنّ الأهواء، وأسلمن أنفسهنّ بكلّ غفلة وبلاهة لكل ناعق.
أسئلة أطرحها لكم يا معشر الأولياء، يا أهل القوامة، وعليكم أن تتحملوا مسؤولية الجواب عنها عملا لا قولا.
إنّ المرأة سترها رمز حيائها، وحجابها دليل كرامتها، وإذا اختلّ حياء المرأة تزلزلت قدماها، وعصفت بها الفتن، وليس لمن سُلب الحياء مانع عن قبيح، ولا زاجر عن محظور، فهو يقوم على ما يشاء، ويأتي ما يهوى.
إن من الواجب علينا -أيّها المسلمون- أن نربي أبناءنا وبناتنا منذ الصغر على هذا الخلق الأصيل، فـــ
إنّ الغصون إذا قوّمتها اعتدلت *** ولا تلين إذا كانت من الخشب
في مستهل حياة الطفل الصغير، يبرز خلق الحياء، ويأخذ طريقه إلى النمو، وهنا تظهر أهمية المربي في تنمية واستثمار الحياء.
قال الإمام الغزالي: ومهما رأى المربي في الصغير مخايل التمييز، فينبغي أن يحسن مراقبته، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء، فإنّه إذا كان يحتشم ويستحي، ويترك بعض الأفعال، فليس ذلك إلّا لإشراق نور العقل عليه، حتى يرى بعض الأشياء قبيحا ومخالفا للبعض، فصار يستحي من شيء دون شيء، وهذه هداية من الله -تعالى- إليه، وإشارة تدل على اعتدال الأخلاق، وصفاء القلب، وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ، فالصبيّ المستحي لا ينبغي أن يهمل، بل يستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه.
إنّه لا يمكن للحياء أن يتأصل في نفس الصغير إلا بمراقبته عن مخالطة السفهاء، أو سماع لغو الكلام، ثمّ أخذه بسير الصالحين ومجالستهم، تثبيتا لدعائم هذه الفضيلة بحلول الصحبة المباركة، قال الغزالي: ويحفظ الصبي الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله، ويحفظ من مخالطة الأدباء الذين يزعمون أنّ ذلك من الظرف ورقة الطبع، فإن ذلك يغرس في قلوب الصبيان بذر الفساد.
كم يخطئ الأب حين يدفع بولده باسم الحرية ليجالس من شاء، ويترك البنت تلبس ما تشاء، ويسمع من الأغاني الهابطة ما شاء، اعتمادا على قوة خلقهم وثقتهم بأنفسهم!.
وتمر الأيام، وإذا بصور الخلاعة والمجون والتفسخ، تترك آثارها في نفوسهم ليواجهوا الحياة بعد ذلك بإرادة خدمتها تلك الصور، وهذه الأغاني، وذاك اللباس!.
ورب قبيحة ما حال بيني *** وبين ركوبها إلا الحياء
فكان هو الدواء لها ولكن *** إذا ذهب الحياء فلا دواء
إن أخذ الناشئة من بنين وبنات بالفضيلة في مستهل حياتهم، تقوية لهم عليها، بحيث تصدر عنهم بلا تكلف، ... (ويزداد) خلق الحياء قوة مع الأيام، وبقدر ما يكون التهاون، وإرخاء حبل الهزل، تضعف هذه القوة، فيسير الناشئ من ضعف إلى ضعف، تنحل به شخصيته... فإذا حققت الأسرة في هذا المضمار نجاحا خفّ حملها في المستقبل؛ لأنّها قدمت من أمسها لغدها، ومن حاضرها لمستقبلها.
وإنما الحياة بالحياء، والتوفيق من ربّ الأرض والسماء.
اللهم صل على من بلغ الرسالة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي