هل هناك فتنة أشد من سفك الدماء، وهتك الأعراض، وسلب الأموال، تجد الرجل يخوض في الفتن وهو لا يدري لماذا جُرَّ إلى هذه المعارك، وكيف زُجَّ به في غمارها، لا يعرف لأيّ شيء يَقتل، بل حتى المقتول لا يدري لماذا قُتل.. فمن يتحمل هذا العذاب؟! ومن يصبر عليه؟! ومن يخاطر بنفسه؟! ومن يجازف بآخرته؟! ومن يقدم على ذلك من أجل فتوى لا يعلم مصدرها ولا أهلية مُصدِرها، ولماذا يزج العاقل بنفسه في أمور لا يفهم منشأها، ولا عواقبها، ولا كيف تُدار..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: رفعت الفتن أجيادها، وجمعت للشر أجنادها، وأطالت سواعدها، وأعلت قواعدها، نيران الفتنة تشتعل اشتعالا ورايات الهرج تخفق يمينا وشمالا، في كل دولة من دول الإسلام صرخة وفي كل بلد نعرة، كم فشا في المسلمين من قتل ذريع، وضرّ وجيع، ونار مضرمة، وفتن محتدمة، وظهرت فئات قد شهروا سيوف الفتن، وشبوا ضرام الخلاف والفُرقة.
نعم أيها الأحباب: قد كشفت الفتنة قناعها، وخلعت عذارها، وظهر الظلم، بل أفصح عن نفسه في صورة لا تخفى على العيان ظلم صريح وجور فسيح، واعتداء قبيح، ظلم تراكمت مظالمه وظُلمه، واتصلت غمائمه وغُممه، وظهرت الأهواء فاتُبعت وتباينت الآراء واختلفت..
وكلاً يدّعي وصلاً بليلى***وليلى لا تقر لهم بذاك
فما المخرج إذاً من هذه الأمواج العاتية، وكيف النجاة من هذه الغاشية؟
إنها وبدون تردد بالرجوع إلى الكتاب والسنة وفهمهما كما فهمهما سلف الأمة، فبذالكم تزول الغمة وتنجلي الظلمة.
أما الأهواء والآراء والشبهات والاختلاف فلا يزيد الجرح إلا عمقًا.
لقد وصف الله رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وقال عنه: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)، وقال كذلك: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي: عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور: 63] فها هي الفتنة قد ظهرت، والآراء قد اختلفت، بل حتى الفتاوى قد تعارضت أدى ذلك إلى هيج الرعاع وتحزب الأشياع.
إن الفتن -أيها الكرام- إذا حلت بأرض قوم لا تصيب الظالم وحده، وإنما تصيب الجميع، ويصلى بنارها الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والحاضر والبادي، والغني والفقير، وقد قال جل وعلا محذرًا ومنبهًا: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال:25].
وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لأصحابه -رضي الله عنهم-: "تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن"، فقالوا: "نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن".
وسنقف اليوم -إن شاء الله- عند حديث مبارك من أحاديث سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه سيكون مدار الحديث، قال -صلى الله عليه وسلم- " إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ" (رواه مسلم وأبو داود وغيرهما من حديث المقداد، رضي الله عنه).
ونلاحظ أنه -صلى الله عليه وسلم- كررها ثلاثا، والتكرار له اعتبار، وفيه إشارات وأسرار " إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ" ما من شك -أيها الأحباب- أن السعادة مطلب كل إنسان غاية تنشد، وهدف يطلب، وكلنا بلا شك يطلب السعادة ويتمناها، ومن شأن الفتن عندما تنزل بالناس أنها تذهب بسعادتهم، وتشتت أذهانهم، وتقلق قلوبهم، وكلاً يتعاطى معها –أي: مع الفتن- بحسب علمه وإيمانه، وقبل ذلك كله بتوفيق الله له.
ولهذا تأمل -رعاك الله- هذا الحديث: "إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ" أي: جنَّبه الله الفتن، ولا نقول: فعل مبني للمجهول؛ لأن الفاعل من هو؟ إنه الله، وقد كان النحاة قديما يتأدبون مع الله حتى في النحو فيقولون: "باب ما لم يسمَّ فاعله".
" إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ" أي: جنَّبه الله الفتن، هنا لا بد من استشعار عظيم افتقارنا إلى الله -جل وعلا-، وشديد احتياجنا إليه في أن يسلّمنا من الفتن، ويقينا شررها وشرها، ومعنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "جُنِّب الفتن" أي: جنَّبه الله إياها، وسلَّمه منها ووقاه شرها، فإن التوفيق بيده -سبحانه وتعالى-.
ومما يتضمنه هذا الحديث من معاني أن المسلم لا ينبغي له أن يطلب الفتن، وأن يبرز نفسه لها، وأن يقحم نفسه فيها، وأن يورّط نفسه في إشكالاتها وتبعاتها، وأن يذيق نفسه شرها وحرها، بل المطلوب منه أن يتجنبها وأن يبتعد منها، وأن يسعى في السلامة من شرورها.
فتجنُّب الفتن مقصد عظيم من مقاصد الدين، أما التورط في الفتن، سواء باللسان أو باليد، فأمارة جهل وخزي، وقد يكون وقع اللسان في الفتن أشد من وقع اليد، وهو الذي يتولى كبره اليوم بعض أهل الإعلام وأصحاب الكتابات.
إن الأمر اليوم في عالمنا ملتبس، وهذه هي الحقيقة، ملتبس غاية الالتباس حتى مجرد التوصيف -وصف الحالة- لا يمكن أن يحصل على وجه الدقة.
ألوان من الحيرة، حقائق الأمور لا يعلمها إلا الله، يبدو لك اليوم أمر، فيظهر لك في الغد خلافه، لذلك فإن العاقل يتعوذ بالله من الفتن، ويسأله العافية والسلامة ولا يتعرض للفتن.
معاشر الأحباب الكرام: من يسمع هذا الحديث المبارك: "إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ" يدور في خلده سؤال عظيم كيف ينال المسلم هذا الموعود العظيم والفضل العميم المشار إليه في الحديث أي السعادة، وكيف يظفر بهذه السعادة، فأنت عندما تسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ" لابد وأن يتحرك في قلبك طمع في أن تكون من أهل السعادة، فكيف تنال هذه السعادة؟ كيف ينالها المرء لنفسه؟ وكيف أيضًا يكون سببًا في وجودها بين أفراد أمته؟
إنه سؤال عظيم يحتاج إلى وقفة صادقة، وسننبه على نقاط عظيمة وضوابط مهمة، وأسس مباركة كلها مستمدَة من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
وبهذه الضوابط -بإذن الله- يظفر المرء بالسعادة ويكون من أهلها، ويحفظه الله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، أما الضابط الأول لتجنب الفتنة والسلامة منها، فهو تحقيق تقوى الله -جل وعلا-، وأن يجاهد المرء نفسه على أن يكون من المتقين، وأن يسلك بنفسه مسالك التقوى مع المجاهدة والمكابدة والصبر واليقين، فإنه لا تُنال الإمامة في الدين إلا بالصبر واليقين قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].
وتأملوا -رعاكم الله- في هذا المعنى في قوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) [الطلاق: 2]، تأملوا قول الله تعالى: (يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) أي: من كل بلاء وفتنة وشر، والآية ظاهرة الدلالة على أن تحقيق التقوى سبيل النجاة من الفتن، (يجعل له مخرجًا) أي: من كل بلية وفتنة وشر، وكذلك من نتائج التقوى أنها تُورث صاحبها فراسة صادقة، ورؤية صائبة للأحداث من حوله، قال تعالى وهو أصدق القائلين: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً)[الفرقان: 29].
الله أكبر! يا لها من منحة عظيمة وهبة كريمة! قال شيخ المفسرين الإمام الطبري -رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية بعد أن ساق أقوالاً كثيرة في المقصود بقوله تعالى: (يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) قال: "حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) أي فصلاً بين الحق والباطل" تكون عند المتقي رؤية يفصل بها بين الحق والباطل.
وَالْفُرْقَانُ فِي كَلامِ الْعَرَبِ مَصْدَرٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَّقْتُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَالشَّيْءِ, أُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وفروقًا، وَفُرْقَانًا، وفسر الفرقان كذلك بالمخرج، فقد ذكر الإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن عن ابن وهب قال سألت مالكًا –أي: الإمام مالك رحمه الله- عن قوله سبحانه وتعالى: (إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً)؟ قال: مخرجا" ثم قرأ الإمام مالك (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا)[الطلاق: 2].
وهذا معنى الفرقان يعني معناه المخرج، له شواهد من شعر العرب منها قول الشاعر:
ما لك من طول الأسى فرقان (يعني مخرج) *** بعد قطين رحلوا وبانوا
وقال آخر:
وكيف أرجّي الخلد والموت طالبي *** ومالي من كأس المنيّة فرقان
(أي: مخرج ولا مهرب)
والمعاني متحدة فالفصل بين الحق والباطل به يكون المخرج والفرج، وأما الإشكال في الالتباس وهذه الآية (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) لها مثيلتها في سورة الحديد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الحديد:28].
فالتقوى تمنح صاحبها الفرق بين الحق والباطل، وتعطيه النور الذي ينجو به من ظلام الفتن هنا، وينجو به فوق الصراط هناك.
جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًّا وجهرا، آمين، آمين والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي أوضح لنا الطريق وأقام أمامنا شواهد التحقيق، حذرنا من الفتن، ودلّنا على المخرج، وأنزل إلينا كتابًا بيّن فيه المسلك والمنهج، وصلاة ربي وسلامه على نبي الهدى ونبع الندى، مَن فتح القلوب والضمائر بالبينات والبصائر، ولم يفتحها بالعنف والخناجر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وهديه إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: والضابط الثاني من الضوابط التي يكون بها تجنب الفتن: لزوم كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والاعتصام بهما، والتعويل عليهما، والتمسك بهما، والنهل من معينهما ،وذلك بأن يكون المسلم دائم الارتباط بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، دائم الارتباط بكتاب الله تلاوةً وتدبرًا بدل أن يخوض بلسانه فيما لا يعلم مدحًا أو قدحًا أو تخويلا أو تجريحا أو تفسيقا أو تكفيرا، أو يخوض بالفتن بيده ترويعا أو تفجيرا بدل ذلك ليقبل على كتاب الله ،فإنه المخرج والنجاة ففيه البيان والأمان والهدى والاطمئنان (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
فالإدمان على تلاوة كتاب الله له أثر عظيم جدًّا في تقويم السلوك، وفي وضع المؤمن على طريق النجاة والسلوك، وأغلب الذين يخوضون في فتن اليوم ويستبيحون دماء المسلمين تجدهم قليلي الاتصال بكتاب الله لا حفظا ولا تلاوة ولا فهما، وحتى إن قرءوه فإنما هي قراءة سطحية كما قال -صلى الله عليه وسلم- "يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم".
فالانشغال بالقرآن من أعظم أسباب النجاة، ولله در الإمام الشاطبي يوم يقول:
ومن شغل القرآن عنه لسانه *** ينل خير أجر الذّاكرين مكمّلا
وما أفضل الأعمال إلّا افتتاحه *** مع الختم حلّا وارتحالا موصّلا
وكذلك من أسباب النجاة: الاستمساك بسنة نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، وتعلمها، والوقوف عندها، والرجوع إلى أقوال الصحابة الذين كانوا يمثلون هذه السنة على الوجه الأكمل والأنقى والأرقى؛ إذ معرفتهم بها أكمل، وفهمهم لها أسلم، والخروج عليها من أسباب الانحراف والانصراف والانجراف، قال تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ –أي: الصحابة- نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا) [النساء:115].
السُّنّة من أعظم أسباب النجاة، وهي سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، ولنجعل دوما نصب أعيننا قول الله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63].
وهل هناك فتنة أشد من سفك الدماء، وهتك الأعراض، وسلب الأموال تجد الرجل يخوض في الفتن وهو لا يدري لماذا جُرَّ إلى هذه المعارك، وكيف زُجَّ به في غمارها، لا يعرف لأيّ شيء يَقتل، بل حتى المقتول لا يدري لماذا قُتل، ولقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل، ولا يدري المقتول على أي شيء قُتل" صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا نراه ونشاهده اليوم، ماذا يحسب هؤلاء؟! أيحسبون دماء المسلمون هينة عند خالقها؟! أيحسبونها يسيرة رخيصة حقيرة؟! كلا والله، إنها عند الله لكبيرة عظيمة جليلة، قال -صلى الله عليه وسلم- "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم".
وإن العبد لا يزال العبد في فُسحة من دينه واسعة ما لم يتورط في القتل، قال -صلى الله عليه وسلم-: " لا يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا" (رواه البخاري).
وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حله"، وأعظم من ذلك وأشد (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93].
فمن يتحمل هذا العذاب؟! ومن يصبر عليه؟! ومن يخاطر بنفسه؟! ومن يجازف بآخرته؟! ومن يقدم على ذلك من أجل فتوى لا يعلم مصدرها ولا أهلية مُصدِرها، ولماذا يزج العاقل بنفسه في أمور لا يفهم منشأها، ولا عواقبها، ولا كيف تُدار ولا مَن يديرها ولا من يحرك خيوطها!!
إن المطلوب من المؤمن المنتسب للجناب النبوي أن يسعى إلى إخماد الفتن، لا إلى إزكائها، وأن يعمل بكل ما يستطيع من أجل وقف نزيف الدماء والاضطرابات، والدعوة إلى تحكيم القرآن والسنة فيما يجري بين الحاكم والمحكومين.
إن العلماء -أيها الكرام- مجمعون ومتفقون على أن السُّنة في أزمنة الفتن وأوقات القتل هي كفّ اليد واللسان، تأملوا هذا الكلام، السنة في أزمنة الفتن والقتل هي: كف اليد واللسان إلا من خير.
يقول الإمام الكرماني -رحمه الله- في رسالته المشهورة في السنة "هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها، المقتدَى بهم فيها من لدن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها. فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، فكان قولهم الإمساك في الفتنة سُنة ماضية، واجب لزومها، فإن ابتُليت فقدم نفسك دون دينك، ولا تعن على الفتنة بيد ولا لسان، ولكن اكفف يدك ولسانك وهواك، والله المعين" ا هـ رحمه الله.
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اكْسَرُوا قَسِيَّكُمْ" قسي: جمع قوس من آلات الحرب يعني في الفتنة "وَاقْطَعُوا الْأَوْتَارَ، وَالْزَمُوا أَجْوَافَ الْبُيُوتِ, وَكُونُوا فِيهَا –أي في الفتن- كَالْخَيِّرِ مِنَ ابْنَيْ آدَمَ" أي: من ابن آدم الذي حكى الله قصتهما في المائدة (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [المائدة:28] (رواه الإمام أحمد وغيره).
وأخرج الإمامان البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ".
وعن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتن يرقّق بعضها بعضا"، تأتي الفتنة فيقول الرجل هذه فتنة عظيمة، ثم تأتي التي بعدها، فإذا بها أشد من سابقتها، هذا هو معنى "يرقق بعضها بعضا".
وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: "هذه مهلكتي ثم تنكشف، ثم تجيء الفتنة فيقول هذه هذه، فمن أحب أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأتي إلى الناس الذي يحب أن يُؤتى إليه" (رواه مسلم)، يعامل الناس كما يحب أن يعاملونه بالرفق والأناة وتجنب الإيذاء.
قال الإمام أحمد -رحمه الله- في خضم فتنة خلق القرآن وهذه القصة معروفة، قال: "عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح برٌّ، أو يُستراح من فاجر".
أيها الأحباب الكرام: إذا ظهرت الفتن، وراجت الأمور، واضطربت الأحوال، فالواجب على المسلم ألا يغتر بالظواهر المجردة، والصور الظاهرة، بل الواجب التعمق في فهم الأمور والتدقيق في وقائعها، وعدم التسرع في حكم أو علاج، إلا بعد التبصر الدقيق، والتمحيص البالغ، لكنه الحقائق، فإن لم يظهر له شيء فليصمت وليعتزل، فذلك أسلم وألزم وأحكم، فمن الأصول الجامعة المانعة في الإسلام أن العبرة للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
وقاعدة العقلاء المعتبرة في شريعة الإسلام: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وربنا -جل وعلا- يقول: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)[الإسراء: 36].
الضابط الثالث: لزوم الجماعة والبعد عن الفرقة؛ لأن الجماعة -كما قال صلى الله عليه وسلم- رحمة والفُرقة عذاب، قال -صلى الله عليه وسلم-: "الجماعة رحمة والفُرقة عذاب" والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
من الضوابط كذلك النافعة: الرجوع إلى العلماء المحققين والفقهاء المدققين المشهود لهم بالإمامة والفضل والخيرية، فالنوازل -أيها الأحباب- لا تعرض على كل متحدث، وإنما تعرض على العلماء المحققين، قال -صلى الله عليه وسلم- "البركة مع أكابركم"، والمراد بالأكابر أي: الأكابر تعلمًا وتعليمًا وتفقيهًا، الذين يتميزون بالعلم والحلم والرزانة والشفقة على الأمة، وهناك ضوابط أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها.
وللحديث بقية بإذن الله .. اللهم اغفر لنا ذنوبنا..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي