إن أغلى ما يملك ابن آدم عقيدته، التي فيها نجاته وفلاحه، والمؤمن حريص على كل ما فيه نجاته، ومتجنّب لكل ما فيه عطبه وهلاكه.. وإن من القوادح في العقيدة ما يسمى بالتشاؤم أو التطير، وهي من أعمال الجاهلية، ومن الأمور التي جاء الإسلام بالتحذير منها، ولازالت تلك الصفات موجودة عند البعض من المسلمين للأسف، ولذا سنبين في هذه الخطبة بعضًا من صور التشاؤم التي يقع فيها البعض وهم لا يشعرون...
أما بعد فيا أيها الناس: إن أغلى ما يملك ابن آدم عقيدته، التي فيها نجاته وفلاحه، والمؤمن حريص على كل ما فيه نجاته، ومتجنّب لكل ما فيه عطبه وهلاكه، وإن ثمة أمور تخرم تلك العقيدة وتنقص منها، وإنما يحرص المسلم على عقيدته؛ لأنه كلما كملت له عقيدته، كلما زاد أمنه يوم القيامة (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].
معاشر المؤمنين: إن من القوادح في العقيدة ما يسمى بالتشاؤم أو التطير، وهي من أعمال الجاهلية، ومن الأمور التي جاء الإسلام بالتحذير منها، ولازالت تلك الصفات موجودة عند البعض من المسلمين للأسف، ولذا سنبين في هذه الخطبة بعضًا من صور التشاؤم التي يقع فيها البعض وهم لا يشعرون
فأقول مستعينا بالله تعالى: "التطير هو التشاؤم بمرئي أو مسموع". (مفتاح دار السعادة 3/311، فتح المجيد 2/525).
قال النووي رحمه الله تعالى: "التطير هو التشاؤم وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح، فينفّرون الظباء والطيور، فإن أخذت ذات اليمين تبرّكوا به ومضوا في سفرهم وحوائجهم، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم وتشاءموا بها، فكانت تصدهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم فنفى الشرع ذلك، وأبطله، ونهى عنه وأخبر أنه ليس له تأثير ينفع ولا يضر" ا.هـ (الديباج على مسلم 5/241).
أيها الناس: إن التطير من أعمال الجاهلية التي كانت عمدة في حياتهم، فيستخدمونها يوميًّا
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "لم يَحكِ الله التطير إلا عن أعداء الرسل كما قالوا لرسلهم (إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) [يس:18- 19]، وكذلك حكى سبحانه عن قوم فرعون: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) [الأعراف: 131]" ا.هـ (مفتاح دار السعادة 3/273).
وقال قوم صالح -عليه السلام-: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) [النمل:47].
معاشر المؤمنين: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبه الفأل، وهو مخالف للتطير والتشاؤم كما أخرج البخاري (5440) ومسلم (2224) من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل" قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الطيبة".
قال الكرماني -رحمه الله تعالى-: "وقد جعل الله –تعالى- في الفطرة محبة ذلك، كما جعل فيها الارتياح بالمنظر الأنيق والماء الصافي، وإن لم يشرب منه ويستعمله". (عون المعبود 10/293).
و"لأن الفأل تقوية لما فعله بإذن الله والتوكل عليه، أما الطيرة فمعارضة ذلك". (مجموع الفتاوى 4/81).
و"يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والفأل حسن ظن بالله تعالى، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال". (انظر: فتح المجيد 2/519 والمنهاج 2/25).
عباد الله: إن الطيرة باب من أبواب الشرك: أخرج رواه أحمد (3687) وأبو يعلى (5219) والبخاري في الأدب (909) وأبو داود (10/405) والترمذي (1614) وقال: حسن صحيح . وصححه ابن حبان (6122) والحاكم 1/65 من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ"، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل.
قال ابن رجب في العلل (1/266): "وما مِنَّا إلا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ" من كلام ابن مسعود أدرج في الخبر، وقد بيَّنه سليمان بن حرب شيخ البخاري فيما حكاه الترمذي عن البخاري عنه.
وإنما جعل ذلك شركًا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعًا أو يدفع ضرًّا فكأنهم أشركوه مع الله تعالى.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "ومن امتنع بها عما عزم عليه –أي: بسبب التشاؤم والتطير-، فقد قرع باب الشرك، بل ولجه وبرئ من التوكل على الله، وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله" ا.هـ (مفتاح دار السعادة 3/311).
وقال المناوي -رحمه الله تعالى-: "إن العرب كانت تعتقد تأثيرها -أي: الطيرة-، وتقصد بها دفع المقادير المكتوبة عليهم، فطلبوا دفع الأذى من غير الله تعالى، وهكذا كان اعتقاد الجاهلية " ا.هـ (فيض القدير 2/342).
والقاعدة في هذا كما قرره شيخنا العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: "أن كل من اعتمد على سبب لم يجعله الشارع سببًا لا بوحيه ولا بقدَره فإنه مشرك". (القول المفيد 2/93).
فكيف وقد نهى الشارع عنه ونص على أنه شرك.
أيها المؤمنون: قد ينقدح في قلب المسلم شيء من التطير أو التشاؤم، فمن مضى في عمله ولم يرده، فلا يضره ما كان في قلبه، فالطيرة ما أمضاك أو ردك، وأما أهل الكمال فهم مَن لا يتطير ولا يستجيب لداعي التطير: فهؤلاء أفضل الأقسام وأكملهم وأرفعهم درجة عند الله –تعالى- كما أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ من أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ"، قالوا: من هُمْ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: "هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ ولا يَتَطَيَّرُونَ ولا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ".
اللهم اجعلنا من أهل التوكل عليك، ونعوذ بك من الشرك صغيره وكبيره، أقول قولي ....
الخطبة الثانية
أما بعد فيا عباد الله: إن التطير والتشاؤم لا يقتصر على تلك الصورة في تنفير الطير، بل له صور عدة وتتجدد في كل زمن، والجامع بينهم، هو ضعف التوكل على الله –تعالى-، ولنذكر بعضًا من صور ما يتشاءم الناس به في هذه الأزمان:
- بعض الناس يتشاءم برؤية الأعور، والأعرج، والأعمى، والأبكم، فتجد البعض يفتتح محله التجاري، فإذا جاءه بعض هؤلاء تشاءم به، قال ابن القيم (في كتابه مفتاح دار السعادة 3/272): "خرج أحد الولاة لبعض مهماته فاستقبله رجل أعور فتطير به، وأمر به إلى الحبس، فلما رجع أمر بإطلاقه, فقال: سألتك بالله ما كان جرمي الذي حبستني لأجله؟ فقال: تطيرت بك. فقال: فما أصبت في يومك برؤيتي؟ فقال: لم ألق إلا خيرًا. فقال: أيها الأمير أنا خرجت من منزلي فرأيتك فلقيت في يومي الشر والحبس, وأنت رأيتني فلقيت الخير والسرور فمن أشأمنا؟ والطيرة بمن كانت؟ فاستحيا منه الوالي ووصله".
- وآخرون يتشاءمون بيوم الأربعاء أو بشهر شوال، أخرج مسلم في صحيحه من حديث عَائِشَةَ قالت: "تَزَوَّجَنِي رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي في شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَاءِ رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كان أَحْظَى عِنْدَهُ مني؟!". قال: "وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَسْتَحِبُّ أَنْ تُدْخِلَ نِسَاءَهَا في شَوَّالٍ".
قال النووي -رحمه الله تعالى-: "فيه استحباب التزويج والتزوج والدخول في شوال، وقد نص أصحابنا على استحبابه، واستدلوا بهذا الحديث، وقصدت عائشة بهذا الكلام رد ما كانت الجاهلية عليه، وما يتخيله بعض العوام اليوم من كراهة التزوج والتزويج والدخول في شوال، وهذا باطل لا أصل له، وهو من آثار الجاهلية كانوا يتطيرون بذلك، لما في اسم شوال من الإشالة والرفع " ا.هـ (شرح النووي على صحيح مسلم 9/209).
- قال ابن تيمية -رحمه الله- (في منهاج السنة النبوية 1/38): "الرافضة يكرهون التكلم بلفظ العشرة، أو فعل شيء يكون عشرة؛ لكونهم يبغضون خيار الصحابة وهم العشرة المشهود لهم بالجنة".
- وآخرون يتشاءمون بشهر صفر، وقابلهم آخرون فصاروا يسمونه صفر الخير، وذكر العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- "أن هذا من باب مداواة البدعة بالبدعة والجهل بالجهل فهو ليس شهر خير ولا شهر شر".
- وآخرون يتشاءمون ببعض منازل القمر والأبراج، وهذا منتشر وتتبناه كثير من المجلات قال ابن عبد الحكم: "خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة والقمر في الدبران، فكرهت أن أخرج به، فقلت: ما أحسن استواء القمر في هذه الليلة، فنظر فقال: كأنك أردت أن تخبرني أن القمر في الدبران، إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر، ولكنا نخرج بالله الواحد القهار".
- وكذا آخرون يتشاءمون برؤية بعض الطيور كالغربان والبومة وغيرها، وأخرج مالك في موطئه قال: روينا عن عكرمة أنه قال: كنا عند ابن عمر وعنده ابن عباس -رضي الله عنهم- ومر غراب يصيح فقال رجل من القوم: خيرٌ خير. فقال ابن عباس: "لا خير ولا شر".
- وآخرون قد يتشاءمون ببعض الآيات بحيث يقوم بفتح المصحف للتفاؤل، فإذا رأى ذكر النار تشاءم، وإذا رأى ذكر الجنة تفاءل، قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: "وهذا مثل عمل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام" ا.هـ (القول المفيد 1/86).
- تشاؤم بعض الناس بمن يشبك أصابعه أو يكسر عودًا في مجلس عقد النكاح، وهذا مما لا أصل له شرعًا.
أيها الناس: من كان مبتلى بالتشاؤم فعلاجه، أن يتوكل على الله، وأنه متى انقدح ذلك في قلبه أن يقول الدعاء الوارد، أخرج أبو داود (3919) والبيهقي 18/139 من حديث عروة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "ذُكِرتِ الطِيرةُ عندَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أحْسَنُها الفألُ ولا تردَّ مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهمَّ لا يأتي بالحسناتِ إِلا أنتَ ولا يدفعُ السيِّئاتِ إِلا أنت، ولا حولَ ولا قوَّةَ إِلا بالله".
اللهم اعمر قلوبنا بالتوكل عليك يا رب العالمين، اللهم اغفر للمسلمين ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي