لقد عمِل ذلك المنهج على تزكية العقول والقلوب والأجسام، بتلاوة النبي الكريم لآيات الله على المؤمنين، وبتزكية قلوبهم، وتغذية عقولهم, والقلوبُ الزاكية عندما تتشرَّب الحكمة والكتاب، تصنع العجب العجاب...
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اصْطَفَى الْإِسْلَامَ عَلَى الْأَدْيَانِ، وَزَيَّنَ أَهْلَهُ بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَجَعَلَ التربية النبوية عِصْمَةَ أَهْلِ الْهِدَايَةِ، وَمُجَانَبَتَهَا أَمَارَةَ أَهْلِ الْغِوَايَةِ، وَأَعَزَّ أَهْلَهَا بِالِاسْتِقَامَةِ، وَوَصَلَ عِزَّهُمْ بِالْقِيَامَةِ، وَصَلَّى اللَّهُ وبارك عَلَى نبينا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبه وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ.
وَبَعْدُ:
أيها المسلمون: لقد كانت أمة العرب فُتاتاً متناثراً، لا يجمعها جامع، ولا يزجرها رادع، فلملم النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ذلك الفتات حتى صار جبلاً شامخاً, ثم إن تلك الأمة علَّمت بقية الأمم الخير، وأذاعته بينهم، وأشاعته فيهم، فما تراه من مكارم أخلاقٍ في أيِّ مكان هو نتاج تربية الرسول الكريم، -صلى الله عليه وسلم- لأمة المسلمين, حتى اعترف علماء الغرب وقساوستهم بذلك.
يقول أحدهم: "إنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التعامل، وفضائل حسن المعاملة، وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم، كل ذلك بفضل تعاليم نبيهم محمد" [سياحة دينية في الشرق، ص (31 )]. ويقول آخر: "إن اختياري لمحمد -صلى الله عليه وسلم- ليأتي في المرتبة الأولى من قائمة أكثر أشخاص العالم تأثيراً في البشرية، قد يدهش بعض القراء، وقد يعترض عليه البعض، ولكنه كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي حقق نجاحاً بارزاً على كل من المستوى الديني والمستوى الدنيوي" [الخالدون المائة، مايكل هارت، (ص 33)].
شهِد الأنام بفضله، حتى العِدا *** والفضل ما شهِدت به الأعداءُ
إنَّ ما صنعه المصلحون مجتمعين، منذ مُبْتَدأ الخليقة إلى منتهاها، لا يساوي شيئاً أمام ما أجراه الله تعالى، على يد نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وصدق الله العظيم الذي قال له: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء : 113].
أنت الذي نظَـم البريـةَ ديـنُـه *** مـاذا يقـول وينـظم الشـعراءُ؟
المصـلحون أصابعٌ جُـمِعَت يَداً *** هي أنت بل أنت اليد البيضاء
ولكي نعلم النتائج التي حققتها تربية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه الكرام، ثم للعالم أجمع، فعلينا أن ننظر إلى العالم قبل الإسلام، فقد كان أحطَّ أدوار التاريخ بلا خلاف.
لقد تفكك الدين الحق إلى مجموعة من الأديان، لا تتفق في اعتقاد، ولا تحتمل أدنى انتقاد، فكانت في شِقاق وشقاء، لا تتورع عن سفك الدماء، فأفسدوا دينهم وديناهم بسبب فساد نفوسهم، وظلام قلوبهم، وسفاهة عقولهم، حتى أصبحت الأرض مَسْرَحاً للشيطان، يتبوَّأ منها أيَّ مكان، فلا يكادُ أحدٌ يذكر اللهَ تعالى، أو يقدره حق قدره.
ولقد كان الأحبار والرهبان والكهان يكنزون الذهب والفضة، فقد اتخذوا من الدين سبيل تجارة وتكسُّب، مما استلزم مجاراة ومماراة الحكام بتزيين الباطل، والأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، والصد عن سبيل الله، متخذين النفاق سبيلاً، والرياء لباسا, حتى صار الشرُّ هو الشرع، والظلم هو القانون، وإبليس هو المُشَرِّع، والحكام ورجال الدين هم القضاة، والشعوب هي المتهم المذنب، لا مكان لشريف، ولا حقَّ لضعيف، ولا نصرةَ لمظلوم، ولا مواساة لمكلوم، ولا لقمة لمحروم.
كانت الإنسانية تتدرج من سيء إلى أسوأ، وفقد المصلحون الأمل، لقد كانت المرأة في فارسَ كلأً مباحاً لسوام الناس، حتى إن الواحد صار لا يعرف ولده ولا والده.
وكان الأكاسرة يؤلَّهون، فهم فوق البشر، يُنعِمون على من يشاءون بالرتب العليَّة، فاستحكمت الطبقية، وساد الجُهَّال، ونُهبت الأموال، وذُلَّ الرجال، فعمَّ اليأس والخمول، وتحجَّرت العقول.
أما الروم، فقد تقوَّضت فيها دعائم الأخلاق، وغرق أهل الدين في أوحال الجدال التي تنامت إلى أن أشعلت بينهم القتال، وحلت بين الناس روح الأنانية والاتكال، فطالت التجارةَ والزراعةَ والعمرانَ يدُ الإهمال، فلا تجد الدولة غير الناس مصدرا للمال، فكثرت الضرائب والمظالم والوشايات، وكسدت سوق العلوم والمهارات، وخمدت العبقريات، وصار أكبر هم المرء أن يحمي نفسه ويقتات.
في تلك الأجواء القاتمة، والأهواء الظالمة، والأهوال القائمة، والحياة الكدِرة المتَّسخة، والناس ما بين ظالم لاهٍ عابث، ومظلوم واهٍ عابس، في تلك الأجواء، وُلِد نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، بالهدى ودين الحق، أشرقت شمسه بعد طول ظلام، ليتنفَّس صباحٌ مفعمٌ بالأنسام، فافترَّ ثغر الزمان عن أجمل ابتسام، إذ رجع إلى مَخبئه الشيطان ولصوص الظلام.
وُلِد الهُدى فالكـائـنـات ضياءُ *** وفم الزَّمان تـبـسُّـم وثناءُ
لقد أُرسِل نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء : 107]، فهو نعمة مسداة للبشر، كل البشر، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس! إنما أنا رحمة مسداة" [ السلسلة الصحيحة، (490)]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وأجزه خيراً عنا وعن كل المسلمين.
(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران : 164].
الحمد لله رب العالمين، (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران : 164]. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
وبعد:
لقد كانت التربية النبوية تربية شاملة، قام بها أفضل البشر -صلى الله عليه وسلم-، اصطفاه الله واصطنعه لنفسه، وأدَّبه فأحسن تأديبه، وأنزل عليه كلامه مَنْهَجاً، فتخلَّق به كله، فــ "كان خلقه القرآن" [ صحيح الجامع (481 )]، فأعظِمْ به من معلِّم! وأعْظِمْ به من منهج!.
لقد عمِل ذلك المنهج على تزكية العقول والقلوب والأجسام، بتلاوة النبي الكريم لآيات الله على المؤمنين، وبتزكية قلوبهم، وتغذية عقولهم, والقلوبُ الزاكية عندما تتشرَّب الحكمة والكتاب، تصنع العجب العجاب.
نعم! هذا نتاج التربية النبوية، فلقد أذهب الله -جل جلاله- بيد نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- عن الأرواح الأتراح، وعن العقول الخمول، وعن القلوب العيوب، وعن الأجسام الأسقام، فانطلقت حاملةً رسالة السماء، ناشرةً الخير والحقَّ والهدى في سائر الأرجاء.
لقد غيَّر نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- مجرى التاريخ، فقد أقام الدين، وحطّم الأوثان، فتُلي القرآن، وارتفع الأذان، ليشقّ الفضاء في كل مكان, وأزال عن الأمم الظلم والطغيان، فتنعَّمت بالرخاء والأمان, يقول أحد الغربيين: "ما عرف التاريخ فاتحا أرحم ولا أعدل من العرب.. إن ما لا ريب فيه أن محمدا أصاب في بلاد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الأديان.. ولذلك لا نرى حدَّاً لفضل محمد على العرب" [كتاب جوستاف لوبون(حضارة العرب)].
الحرب في حقٍّ لديك شريعةٌ *** ومن السموم الناقعاتِ دواءُ
الخَيلُ تَأبى غَيرَ أَحمَدَ حامِيًا *** وَبِها إِذا ذُكِرَ اسمُهُ خُيَلاءُ
وَإِذا رَمى عَن قَوسِهِ فَيَمينُهُ *** قَدَرٌ وَما تُرمى اليَمينُ قَضاءُ
ساقي الجَريحِ وَمُطعِمُ الأَسرى وَمَن *** أَمِنَت سَنابِكَ خَيلِهِ الأَشلاءُ
إِنَّ الشَجاعَةَ في الرِجالِ غَلاظَةٌ *** ما لَم تَزِنها رَأفَةٌ وَسَخاءُ
وَالحَربُ مِن شَرَفِ الشُعوبِ فَإِن بَغَوا *** فَالمَجدُ مِمّا يَدَّعونَ بَراءُ
كَم مِنْ غَزاةٍ لِلرَسولِ كَريمَة *** فيها رِضىً لِلحَقِّ أَو إِعلاءُ
كانَت لِجُندِ اللهِ فيها شِدَّةٌ *** في إِثرِها لِلعالَمينَ رَخاءُ
ضَرَبوا الضَلالَةَ ضَربَةٌ ذَهَبَت بِها *** فَعَلى الجَهالَةِ وَالضَلالِ عَفاءُ
لقد تأثر أهل بلاد العالم المفتوح بأخلاق المسلمين الباهرة، وصفاتهم النادرة، نتيجة التربية النبوية المُحْكَمَة، فدخلوا في دين الله أفواجاً، وظل المسلمون يحرزون التقدم، حتى ملأوا الأرضَ علماً ورحمة ورخاء.
أيها المؤمنون: هكذا كان حالنا، وهكذا كان خلفاء الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- على البلدان, وهكذا كانت نتائج التربية النبوية التي لا تزال تنتظر منا من يُقبل عليها، بالاقتداء بالرسول -صلى الله عليه وسلم- واتباع سنته، فالعالم ينتظرنا ونحن نعاني التفرُّق واتباع الأهواء.
أَدَرى رَسولُ اللهِ أَنَّ نُفوسَنا *** رَكِبَت هَواها وَالقُلوبُ هَواءُ
أُخبركَ عَن قَومي الضِعافِ لِأَزمَةٍ *** في مِثلِها يُلقى عَلَيكَ رَجاءُ
مُتَفَكِّكونَ فَما تَضُمُّ نُفوسَهُمْ *** ثِقَةٌ وَلاجَمَعَ القُلوبَ صَفاءُ
رَقَدوا وَغَرَّهُمُ نَعيمٌ باطِلٌ *** وَنَعيمُ قَومٍ في القُيودِ بَلاءُ
ظَلَموا شَريعَتَكَ الَّتي نِلنا بِها *** ما لَم يَنَل في رومَةَ الفُقَهاءُ
مَشَتِ الحَضارَةُ في سَناها وَاهتَدى *** في الدينِ وَالدُنيا بِها السُعَداءُ
صَلّى عَلَيكَ اللهُ ما صَحِبَ الدُجى *** حادٍ وَحَنَّت بِالفَلا وَجناءُ
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ, كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ, وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ, كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي