في الشتاء: يطول الليل فيطيب قيام جزء منه، هو دأب الصالحين الذين عرفوا قيمة الآخرة وقيمة الدنيا، فقيام الليل مزارع للآخرة يشتري العبد بها رحمة الله في ركعة أو سجدة أو في تسبيحة أو استغفار، وما أجمل القيام في ثلث الليل الآخر، يقول الرَسُولِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَنْزِلُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتعالى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟" هذا ربنا -جل جلاله-، ينادي بودٍّ عبادَه فيقول: مَن يدعوني؟! من يسألني؟! من يستغفرني؟! أين نحن من هذه العروضِ الربانية الضخمة، والدعوةِ الكريمة السامية المتوددة؟! لِمَ لا نستثمرها ما دام لنا في ليل الشتاء فسحة..؟!...
أيها الإخوة: ويدور الدهر دورته، ويحل فينا فصل الشتاء.. فما الشتاء بالنسبة لنا..؟ إنه بالنسبة للمؤمن ربيع.. لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات.. ويسرح فيه في ميادين العبادات.. وينزه فيه قلبه في رياض الأعمال الميسرة.. وفي الشتاء يصلح دين المؤمن بما ييسر الله -تعالى- فيه من الطاعات.. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ «الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ». وفي لفظ «الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ قَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَهُ وَطَالَ لَيْلُهُ فَقَامَهُ».
فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم، ثم يقوم المؤمن للتهجد والأوراد بنشاط، فيجتمع له فيه نومُهُ المحتاج إليه، مع إدراكه وظائف العبادات، فيكمل له دينه وراحة بدنه، بخلاف ليل الصيف؛ فإنه لقصره وحرّه يغلب فيه النوم، فلا يتوفر فيه ذلك. وقد روي مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وضعفه الألباني.
في الشتاء: يطول الليل فيطيب قيام جزء منه هو دأب الصالحين الذين عرفوا قيمة الآخرة وقيمة الدنيا، فقيام الليل مزارع للآخرة يشتري العبد بها رحمة الله في ركعة أو سجدة أو في تسبيحة أو استغفار، وما أجمل القيام في ثلث الليل الآخر، يقول الرَسُولِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَنْزِلُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتعالى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟" متفق عليه.
هذا ربنا -جل جلاله-، الملك القدوس العزيز الجبار المتكبر، ينادي بودٍّ عبادَه فيقول: مَن يدعوني؟! من يسألني؟! من يستغفرني؟! أين نحن من هذه العروضِ الربانية الضخمة، والدعوةِ الكريمة السامية المتوددة؟! لِمَ لا نستثمرها ما دام لنا في ليل الشتاء فسحة..؟! لما نغفل عنها ونحن المحتاجون الضعفاءُ لمسألته وفضله وجوده؟! لماذا لا نعرض حاجتنا عليه، ونمرّغ أنوفنا بين يديه، وننيخ مطايانا ببابه؟! فمَن الذي دعاه بصدق فخيَّبه؟! بل مَن الذي انطرح بين يديه بصدق فأعرض عنه وتركه؟!
أيها الأحبة: ما أجمل ليل الشتاء الطويل إذا سكن الناس ونامت عيونهم وغطوا في سباتهم، فإذا رجل موفّق ينسلّ من تحت دفء غطائه، أو امرأة موفقة تنسل من تحت دفء غطائها ذاكراً أحدهما الله، طالباً ما عنده من الخير في صلاة الليل، فيقوم ويوقظ أحدهما زوجه ليصليا جماعة أو فرادى.. متطلعين لحلول الرحمة عليهما فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، ثُمَّ أَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، وَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، ثُمَّ أَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ» (رواه النسائي وأبو داود، وقال الألباني حسن صحيح).
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ اسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا مِنْ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ". (رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني).
أحبتي: وفي الشتاء يطول الليل ويبرد، فيستيقظ كثير من الناس فيه لحاجتهم، وهنا تسنح للمسلم فرصة ذهبية وتلوح منحة ربانية.. فعن عُبَادَة بْن الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ -يعني استيقظ يلهج بذكر الله- فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ" (رواه البخاري وغيره).
وفي الشتاء يقصر النهار ويسهل صيامه، فعَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ» (رواه الترمذي صححه الألباني).
ثم إن الصيام من أفضل العبادات، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يضاعَفُ: الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبعمائةِ ضِعْف، قال الله -عزَّ وجلَّ-: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يَدَع شهوتَهُ وطعامَه من أجْلي، للصائم فرحتان فرحة عند فِطْره وفرحة عند لقاءِ ربِّه، ولَخُلُوفُ فيه أطيب عند الله من ريح المسكِ».
أيها الإخوة: وفي الشتاء إذا طال الليل، وقصر النهار ضعف وهج الشمس.. واشتد البرد وفي هذا الجو يطيب سمر الواجدين، وتحلو لهم الحياة، فيطيب لهم الطعام ويستمتعوا فيه بلذيذ الدفء في المنام ويكتسون فيه وثير الملابس لاتقاء برده القارس.
وعلى من هذه حاله أن يعلم أنه في نواح أخرى من أرض الله تصعب الحياة على المعدمين والمشردين، فمنهم من سكنوا المخيمات التي لا تقي من مطر ولا تدفئ من برد.. قد فروا من القتل والتنكيل فوقعوا في ذل اللجوء وما فيه من شظف العيش وقلة ذات اليد مع انعدام أسباب الحياة المدنية بكل حاجياتها.. مرت عليهم فصول العام مرات وهم في نفس الحال والمصير الذي لا يعلم نهايته إلا الله -تعالى-..
كما في بعض المدن سكن أناس معدمون؛ لعدم قدرتهم على العمل والكسب لعجز أو صغر أو كبر أو لكونه أخرق لا يجيد صنعة.. ينتظر هؤلاء إحسان المحسنين وجود الأجودين فلا تغفلوا عن المحتاجين، وليكن مما أفاء الله عليكم من الخير برّاً للأقربين وبُلغة للبعيدين.. فالمؤمن في ظل صدقته يوم القيامة.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261] ويقول: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39] بارك الله لي ولكم....
أيها الإخوة: واعلموا -وفقكم الله- أن شدة البرد من فيح جهنم، تذكركم بأن تجتهدوا في طاعة ربكم، وتجتنبوا معصيته، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا. فَجَعَلَ لَهَا نَفَسَيْنِ نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ، فَشِدَّةُ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْبَرْدِ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا وَشِدَّةُ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ مِنْ سَمُومِهَا» (سنن ابن ماجه وصححه الألباني).
واحفظوا أنفسكم وصبيانكم وكبار السن منكم من البرد؛ فهو عدوهم اللدود، فقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إذا حضر الشتاء تعاهد الأمصار، وكتب لهم بالوصية: «إن الشتاء قد حضر، وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف، والخفاف، والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا -وهي ما يلي البدن- ودثارًا - الملابس الخارجية - فإن البرد عدو سريع دخوله بعيد خروجه».
أيها الإخوة: قد يفهم بعض الناس التوجيهات النبوية فهما غريباً ومما يفهم على غير مقتضى الشرع هذا الحديث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» (رواه مسلم).
فقوله: "إسباغ الوضوء على المكاره" المكاره جمع مَكْرَه، وهو ما يكرهه الإنسان ويشق عليه، والمعنى أن يتوضأ مع البرد الشديد والعلل التي يتأذى معها بمسّ الماء "فذلكم الرباط"، أي: الرباط المرغب فيه، وأصل الرباط الحبس على الشيء كأنه حبس نفسه على هذه الطاعة..
قال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: "ليس معنى ذلك أن الإنسان يطلب المشقة في العبادات التي يسرها الله، هذا من التنطع في الدين، لكن إذا كلفك الله بعبادة وشقت عليك صار هذا أعظم، أما أن تتطلب المشقة كما يفعل بعض الجهال في أيام الشتاء مثلاً يذهب فيتوضأ بالماء البارد، ويقول: لأن إسباغ الوضوء على المكاره مما يرفع الله به الدرجات ويمحو به الخطايا، نقول: يا أخي ما هذا أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، إنما أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الإنسان إذا توضأ بماء بارد في أيام الشتاء كان أعظم أجرًا.. ولكنه لم يقل: اقصد الماء البارد.. فإذا منَّ الله عليك بالماء الساخن تستطيع أن تسبغ الوضوء فيه إسباغًا كاملاً فهذا أفضل".
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي