هل هناك لذةٌ أعظم من الوقوف بين يدي الملك الكريم الرحيم؟ تقوم بين يديه والناس غارقون في نومهم, وأنت بينهم وحيدًا غريبًا مُتيقظًا, والله ينظر إلى حالك وهمّتك وصدقك, أفتراه يُخيّبك؟ أتظنّ بالكريم الذي له خزائن السماوات والأرض, أنْ يردّك صفر اليدين؟ لا والله, إنه سيُعطيَك ما سألت, بل وسيزيدك سروراً وأُنسًا وجمالاً, قيل للحسن البصريِّ رحمه الله : "ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن, فألبسهم مِن نوره نورا"...
الحمدُ لِلَّهِ الذَّي منَّ على الصالحين بذِكره وطاعَتِه، فَرَتَعوا في رياض الجنَّة لشُغْلِهم بمحبّته وعِبَادَتِه.
وَأشْهَدُ أنْ لا إِله إِلا اللهُ وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه, في ربوبيَّته وإلهيَّته وأسمائِهِ وصفاتِهِ، وأَشْهَدُ أَنَّ سيَّدَنَا محمَّدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه من مخلوقاتِه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ, أهلِ دينِه ووُلاته, وسلَّم تسليمًا.
أما بعد, فاتقوا الله عباد الله, فالتقوى أعظم مُكتَسب, وأفضل ما وُهب.
معاشر المسلمين: ها هو فصل الشتاء قد دخل, وقد فرح به الكثير من الناس, لما فيه من هطول الأمطار, التي بسببها يُحيي الله -تعالى- الأرض وتَخْضَرّ, فتنشرح الصدورُ لرؤيتها وتُسرّ, وتَسيل فيه الشعابُ والوديان, فيتنزه عنده الرجال والنساءُ والولدان.
لكنَّ أقوامًا من الناس يفرحون بحلول الشتاء, لا لهذا الأمر وحده, بل يفرحون ويستبشرون, لأمرٍ آخر غفلنا عنه إلا من شاء الله, إنه فرحهم بطول ليله, لِيُحيوه صلاةً ودُعاءً وقِيَامًا.
يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "مرحبًا بالشتاء؛ تنزِلُ فيه البركة، ويطولُ فيه الليلُ للقيام، ويقصُرُ فيه النهارُ للصيام".
ويقول عمر -رضي الله عنه-: "الشتاءُ غنيمةُ العابِدين".
نعم, غنيمةٌ بارِدةٌ حصلَت من غير قتالٍ، ولا تعبٍ ولا مشقَّةٍ، بل والله تجلبُ المتعةَ والسرور واللذة.
في ليل الشِّتاء الطويلِ, ينالُ الْمُؤمنُ حظَّه من النوم والراحَة، كما ينالُ حظَّه من القيام والعبادة.
يُقطِّعُ الصالِحون القانِتون ليلَهم بالذِّكر والصلاة، ويتلذَّذُ العابِدون القائِمون بطُول المُناجاة، يعرِضون حوائِجَهم لخالقهم ورازقِهم، ويُبدُون فقرَهم بين يدَي مولاهم.
شتَّان بين من يتلذَّذُون بالتلاوة والذِّكر، والْمُناجاة والقيام، وبين من يَبيتُ ليله كلّه غارقًا في نومه، (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر: 9].
هل هناك لذةٌ أعظم من الوقوف بين يدي الملك الكريم الرحيم؟ تقوم بين يديه والناس غارقون في نومهم, وأنت بينهم وحيدًا غريبًا مُتيقظًا, والله ينظر إلى حالك وهمّتك وصدقك, أفتراه يُخيّبك؟ أتظنّ بالكريم الذي له خزائن السماوات والأرض, أنْ يردّك صفر اليدين؟
لا والله, إنه سيُعطيَك ما سألت, بل وسيزيدك سروراً وأُنسًا وجمالاً, قيل للحسن البصريِّ رحمه الله : "ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن, فألبسهم مِن نوره نورا".
ما ألذّ حالهم في الأسحار, وهو يلهجون بالاستغفار: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17- 18].
ما أكثر مدح الله لهم وثناءَه عليهم, ويكفي في ذلك قوله -تعالى-: (تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)[السجدة: 16] فما هي مُكافأتهم وجزاؤهم: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّا أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17].
يكفيهم شرفًا وفخرًا, أنه -تعالى- ينزل إلى السماء الدنيا لِيُعطيهم ما سألوا, قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ، أَوْ ثُلُثَاهُ، يَنْزِلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتعالى- إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ "(رواه مسلم)
أليس من الخسارة أنْ يُفرط المؤمن بهذه العبادة العظيمة؟ ولذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "بحسب الرجل من الخيبة, أن يبيت ليلته لا يذكر الله حتى يصبح, فيصبح وقد بال الشيطان في أذنه".
وتعظم الخسارةُ ويشتدّ الذم, في حقّ مَنْ ترك قيام الليل بعد أنْ كان يقومُه ويُكابدُه, قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْروٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ».
إن آخر الليل وقتٌ مُباركٌ, ولذا ينزل ربنا -تبارك وتعالى- فيه, ويُعطي فيه السائلين, ويُجيب فيه دعاءَ الدّاعين.
فهينئًا لكم أيّها المتهجدون قرب الله -تعالى- منكم, وإجابته لدعواتكم.
تَرَكْتُمْ لذيذ الرقاد ذُخرًا لِيَوْمِ المعاد, تجشَّمْتُمْ القيام عن المنام ابتغاءَ الوقوف بين يدي الملك العلاّم:
إذا ما الليل أظلم كابــدوه ***فيسفر عنهم وهم ركــوع
أطار الخوف نومهم وقاموا *** وأهل الأمن في الدنيا هجوع
واعلموا - معاشر المسلمين-, أنَّ هناك أسبابًا مُعينةً لقيام الليل منها:
أولاً: دعاءُ الله والإلحاحُ عليه بأن يُعينك على القيام.
ثانيًا: تبييتُ النية قبل النوم للقيام آخر الليل, والله -تعالى- إذا علم صدق العبد أعانه ووفقه.
ثالثًا: عدمُ الإكثار من العشاء, وعدمُ النوم بعده مُباشرة.
رابعًا: النوم المبكر, فكيف يرجو قيامَ الليل من ينام مُتأخرًا, وهو يعلم أنّه سيصعب عليه القيام؛ لإرهاقه وعدمِ اكتفائه بنومه؟
وقد ذكر أهل الخبرة والطبّ, بأنّ "كلّ ساعةِ نومٍ, من بعد العشاء إلى منتصف الليل, تُوازي ثلاثَ ساعاتٍ من النوم العميق, وأما النوم مِن بعدِ مُنْتَصَفِ الليل, إلى قُبيل الفجر بساعتين تقريبًا, فيوجد فيها عشرون بالمائة من النوم العميق النافع, والباقي لا فائدة منه, والساعةُ منه بساعةِ نومٍ فقط.
وأما النومُ مِنْ بعد الفجر, فهو نومٌ غيرُ مفيدٍ أبدًا, وإنك تُلاحظ مَن ينام بعد الفجر, يقوم ولم يشبع من نومه, ولا يزيدُه هذا النومُ إلا خمولاً وكسلاً, وقد ثبت أنه سببٌ في انعدام البركة, وسببٌ في تشويش التفكير وانعدام التركيز".
وذكر الموقعُ الرسميُّ للموسوعة الصحية -وهو موقعٌ عالميّ مُتخصصٌ في الطبّ- الفوائدَ الصحيةَ, التي يجنيها مَنْ يستيقظ مُبكرًا قَبْلَ الفجر, منها أنه يحصلُ على أَعْلَى نسبةٍ لغاز الأوزون في الجو, وهو يَقِلُّ تدريجياً حتى تضمحلَّ عند طلوع الشمس.
وقد تعجّب الأطباء من آثاره العلاجية العجيبة, فهو يشفي من كثيرٍ من الأمراض النفسية والجسدية.
ولهذا الغازِ تأثيرٌ مفيدٌ للجهاز العصبي, ومنشطٌ للعمل الفكري والعضلي, ولهذا يستشعر الإنسان عندما يستنشق نسيم الفجر, الْمعروفَ بريح الصَّبَا لذةً ونشوةً, لا شبيه لها في أيِّ ساعةٍ من ساعات النهار أو الليل.
ومن الفوائد التي ذكرها الأطباءُ أيضًا: أنّ الاستيقاظ الباكر يقطع النوم الطويل, وقد تبيّن أنّ الإنسان الذي ينام ساعات طويلة, وعلى وتيرةٍ واحدةٍ يتعرض للإصابة بأمراض القلب.
وما ذكره هؤلاء الأطباءُ الْمُتخصّصون, هو ما جاءتْ شريعتُنا العظيمة الخالدةُ بتقريره, قال ابن القيم رحمه الله: مَنْ تَدَبَّرَ نَوْمَهُ وَيَقَظَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَدَهُ أَعْدَلَ نَوْمٍ، وَأَنْفَعَهُ لِلْبَدَنِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى، فَإِنَّهُ كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيَسْتَيْقِظُ فِي أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي، فَيَقُومُ وَيَسْتَاكُ، وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، فَيَأْخُذُ الْبَدَنُ وَالْأَعْضَاءُ وَالْقُوَى, حَظَّهَا مِنَ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ، وَحَظَّهَا مِنَ الرِّيَاضَةِ مَعَ وُفُورِ الْأَجْرِ، وَهَذَا غَايَةُ صَلَاحِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ، وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَنَوْمُ النَّهَارِ رَدِيءٌ يُورِثُ الْأَمْرَاضَ الرُّطُوبِيَّةَ وَالنَّوَازِلَ، وَيُفْسِدُ اللَّوْنَ، وَيُورِثُ الطِّحَالَ، وَيُرْخِي الْعَصَبَ وَيُكْسِلُ، وَيُضْعِفُ الشَّهْوَةَ, إِلَّا فِي الصَّيْفِ وَقْتَ الْهَاجِرَةِ، وَأَرْدَؤُهُ نَوْمُ أَوَّلِ النَّهَارِ- أي من بعد صلاة الفجر-، وَأَرْدَأُ مِنْهُ النَّوْمُ آخِرَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ.. ا.ه
نسأل الله -تعالى- أنْ يُعيننا على قيام الليل, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..
أما بعد: معاشر المسلمين: إنّ قيامَ الليل له فوائدُ وثمارٌ كثيرةٌ, منها غيرُ ما تقدّم:
أنّه دليلٌ على البعد مِن الرياء والنفاق؛ لأنه لن يراه ويسمعه إلا علام الغيوب, قال قتادة رحمه الله: "كان يقال: قلما ساهرٌ بالليل منافق".
ومن ذلك: أنّ فيه لذةً وأُنسًا لا يعلمه إلا الله -تعالى-, قال يحيى بن أبي كثير -رحمه الله- : "والله ما رجل خَلَى بأهله عروساً, أقرَّ ما كانتْ نفسُه وآنسَ ما كان, بأشدَّ سروراً منهم بمناجاته إذا خلوا به".
وكان ثابت البناني -رحمه الله- يقوم الليل ويقول: "ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل".
وعن عطاء الخرساني -رحمه الله- أنه قال: "كان يقال: قيام الليل محياةٌ للبدن, ونورٌ في القلب, وضياءٌ في البصر, وقوةٌ في الجوارح, وإنَّ الرجلَ إذا قام من الليل متهجداً: أصبح فَرِحاً يجد لذلك فرحاً في قلبه".
ومن ذلك: ما ذكره ابن رجب رحمه الله: "ومما يُجزَى به المتهجِّد في الليل: كثرةُ الأزواج من الحور العِيْن في الجنة, فإن المتهجد قد ترك لذة النوم بالليل, ولذة التمتع بأزواجه طلباً لما عند الله عز وجل, فعوّضه الله -تعالى- خيراً مما تركه, وهو الحور العين في الجنة". ا.ه
ومن ذلك أيضًا: أنّ قيام الليل يُهون على العبد الوقوف يوم القيامة, قال الأوزاعي رحمه الله: "من أطال قيام الليل، هوَّن الله عليه وقوفَ يوم القيامَة".
ومن ذلك أيضًا: أنّه من أفضل العبادات, قيل للحسن رحمه الله: "ما أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله -تعالى- من الأعمال؟ قال: ما أعلم شيئاً يتقرب به المتقربون إلى الله, أفضلَ من قيام العبد في جوف الليل إلى الصلاة".
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "ركعةٌ بالليل خيرٌ من عشرين بالنهار".
ومن ذلك: أنْ يُراجع فيه المؤمنُ حفظه للقرآن في صلاته, فإذا قرأ فيه ما تيسر حسب هِمّتِه, رَسَخَ حفظُه وقَوِيَ فهمُه.
وقد ذكر -تعالى- الحكمةَ في أمره بقيام الليل فقال: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) أي: الصلاةَ فيه بعد النوم (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا) [المزمل: 5]، قال العلامةُ السعديّ -رحمه الله-: "أي: أقرب إلى تحصيل مقصود القرآن، يتواطأ على القرآن القلبُ واللسان، وتَقِلُّ الشواغل، ويَفْهَمُ ما يقول، ويَسْتَقيم له أمرُه، وهذا بخلاف النهار فإنه لا يحصل به هذا المقصود". اهـ كلامه
أمة الإسلام: هذا شيءٌ يسيرٌ من فوائد وبركات قيام الليل, والعاقل يبحث عمّا ينتفع به في دينِه ودُنياه, وقد ثبت أنّ النومَ المبكر, والاستيقاظَ قبل الفجر بساعةٍ, وقيامَه وإحياءَه صلاةً ودُعاءً وقراءةً للقرآن, يَنْتَفِعُ به المؤمنُ أيَّما انتفاعٍ في صحته وإيمانه ونشاطه, فيُصبح مسرور البال, طَيِّبّ النفس, يشعر بالنشاط والهمّةِ التي تقوده إلى معالِيْ الأمور, وتُحفّزُه على تنظيمِ واسْتغلالِ وقتِه.
نسأل الله -تعالى- أنْ يجعلنا من السبّاقين للخيرات, الْمُدركين أعلى الدرجات, إنه على كلّ شيءٍ قدير.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي