تستقيم النفس بالتربية، والتربية مصدرها الأول الوالدان، وهما موضوع حديثنا. والحديث عن الوالدين حديثٌ عن حق لا ينسى، وأنى للعبارات عن الوالدين أن توفيهما حقهما؟.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
أمة الإسلام: في عصرنا الحاضر جحود للفضل، ونكران للجميل، وانغماس في الشهوات، وقمع بالباطل، وفرار من معاني الروح، وتسابق إلى أحضان المادة.
في مجتمعنا الحالي عقوق للآباء، وبغض للأقرباء، وحسد بين الجيران، وغدر بالأصحاب، وخيانة للأمانة، وغش في المعاملات، فإلى أين تسير؟! قف -أيها الغافل- قليلاً كي نبين الطريق، ونحدّد الغاية، وإلا فالنهاية الخاسرة تنتظرنا إن لم نعمد إلى نفوسنا فنقومها، وأخلاقنا فنحسنها، وطباعنا فنهذبها، ومعاملاتنا فنصلحها.
ولنبدأ بالنفس، فننير لها السبيل، ونحدّد ما لها من حقوق وما عليها من واجبات، فإذا استقامت رسخت دعائم المجتمع قوية متماسكة.
تستقيم النفس بالتربية، والتربية مصدرها الأول الوالدان، وهما موضوع حديثنا. والحديث عن الوالدين حديثٌ عن حق لا ينسى، وأنى للعبارات عن الوالدين أن توفيهما حقهما؟.
إنه حديث عن الأمّ التي تحملت ما يفوق الوصف عن آلام الحمل والولادة وهموم الرضاع، سهر بالليل ونصب بالنهار في سبيل الرعاية والحماية لوليدها.
إنها الأم التي تذبل لذبول وليدها، وتغيب بسمتها إن غابت ضحكته، وتذرف دموعها إن اشتد توعكه، وتحرم نفسها الطعام والشراب من أجله، وتلقي نفسها في النار لتنقذه، وتتحمل من الذل والشقاء أمثال الجبال كي يحيا ويسعد.
إنها الأم التي يرقص قلبها إذا ضحك الوليد، ولا تسعها الدنيا نشوة إذا حبا أو مشى، وتسمع نغم الدنيا في كلمته، وترى الحياة كلها نورًا وجمالاً وهي تراه مع الصبيان يلعب، أو إلى المدرسة يذهب.
إنها الأم التي طعامك درها، وبيتك حجرها، ومركبك يداها وصدرها وظهرها، تحيطك وترعاك، وتجوع لتشبعك أنت، وتسهر لتنام أنت، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة.
إنها الأم التي تعيش لولدها ومعه، وهي تنتظر الأيام الحاسمة في حياتها وحياته حين ينجح ويكسب ويتزوج، هل يكون لها في ولدها نصيب، أم كل جهودها وتضحياتها وآمالها تذهب أدراج الرياح؟!.
وهو حديث عن الأب الذي من أجلك يكدّ، ويشقى لراحتك، يروح ويسعى ويدفع عنك صنوف الأذى، ينتقل في الأسفار، يجوب الفيافي والقفار، ويتحمّل الأخطار، بحثًا عن لقمة العيش.
يا شباب الإسلام: إن البرّ بالوالدين والإحسان إليهما عام مطلق ينضوي تحته ما يرضى الابن وما لا يرضى من غير امتناع ولا جدل ولا مناقشة ولا ضجر، ذلك أن كثيرًا من الأبناء يحسبون أن البر فيما يروق لهم ويحقق رغباتهم وفيما تهواه نفوسهم، والحق أن البر لا يكون إلا فيما يخالف أهواءهم وميولهم، ولو كان فيما يوافقها لما سمي برًا.
أيها المسلمون: إن العار والشنار والويل والثبور أن يفاجأ الوالدان بإنكار للجميل، كانا يتطلعان إلى الإحسان، ويؤملان الصلة بالمعروف، فإذا بهذا المخذول قد تناسى ضعفه وطفولته، وأعجب بشبابه وفتوته، وغره تعليمه وثقافته، وترفع بجاهه ومرتبته، يؤذيهما بالتأفف والذم، ويجاهرهما بالسوء وسيّئ القول، يقهرهما وينهرهما.
فيا أيها المخذول، هل حينما كبرا فاحتاجا إليك جعلتهما أهون الأشياء عليك؟! قدمت غيرهما بالإحسان، وقابلت جميلهما بالنسيان، شق عليك أمرهما، وطال عمرهما، أما علمت أن من برَّ بوالديه برّ به بنوه، ومن عقهما عقوه؟ ولسوف تكون محتاجًا إلى بر أبنائك، وسوف يفعلون معك كما فعلت مع والديك، وكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "ما من ذنب أجدر أن تعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدَّخَر له في الآخرة، من البغي، وقطيعة الرحم"، وإن من أكبر الكبائر عقوق الوالدين بعد الشرك.
يا أبناء الإسلام: بِرُّ الوالدين خلق الأنبياء، وشيمة الأوفياء، فقد قال ربنا عن عيسى -عليه السلام- أنه قال: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [مريم:32]، وقال عن يحيى -عليه السلام-: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) [مريم:14].
وإسماعيل -عليه السلام- ضرب المثل الأعلى في البر حينما استسلم لأمر الله، ثم لأمر أبيه، ولم تقف به نفسه العالية عند هذا الحد، بل أعان أباه على الطاعة، وشجعه على تنفيذ أمر ربه فقال: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) [الصافات:102]، فأين هذا من أبناء هذا الزمان الذين فسدت أذواقهم، وماتت مشاعرهم، واضمحلت عزتهم؟! لا ينفذ أحدهم أمر أمّه إلا إذا دعت عليه وبلغت صيحاتها ودعواتها أقصى الحي، ولا يلبي طلب أبيه إلا إذا عبس في وجهه وقطب وانهال عليه سبًا، وقلما تجد ولدًا يكتفي بإشارة، ويفهم بنظرة، ويتعظ بتأديب حسن.
يا شباب الإسلام: لقد قال ربكم في شأن الوالدين: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:23-24]. فبهذه العبارات الندية والصور الموحية يستحث القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء.
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات، وكما تمتص النبتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين، فإذا هما في شيخوخة -إن أمهلهما الأجل- وهما مع ذلك سعيدان!.
فأما الأولاد فسرعان ما ينسَون هذا كله، ويندفعون بدورهم إلى الأمام، إلى الزوجات والذرية، وهكذا تندفع الحياة، ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء، إنما يحتاج الأبناء إلى استجاشة وجدانهم بقوة، ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف، وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله -سبحانه-، يحمل معنى الأمر المؤكد، بعد الأمر بعبادة البر الرحيم سبحانه.
يا أبناء الإسلام: رضا الوالدين وبرهما سبب في حلول الفَرَج إذا بلغت الشدة غايتها، وتسهيل العسير، وتحقق الأماني، وقصة أصحاب الغار برهان على ذلك.
الولد البار -يا أبناء الإسلام- يهنأ بعمره، ويطمئن في عمله، وتحفه السعادة من كل جانب، وفي الحديث: "من بر والديه طوبى له، زاد الله في عمره" ضعفه الألباني، فما أحلى الحياة إذا طال فيها العمر، وانبسط فيها المال، وغمرتها السعادة! وما أهنأ العيش إذا رافقته طمأنينة النفس، وراحة الضمير، ومحبة الناس!.
أيها المسلمون: ولنتفيأ وأنتم ظلال المواقف المشوقة والصور الرائعة للبر عند سلفنا الصالح، لكي نأخذ منها العبر، ونجعل منها لنا مثلاً، قال...: "دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كذلك البر، كذلك البر"، وكان برًا بأبيه.
وعن محمد بن سيرين قال: بلغت النخلة في عهد عثمان -رضي الله عنه- ألف درهم، فعهد أسامة بن زيد إلى نخلة فَعَرَقَها، فأخرج جُمّارَها فأطعمه، فقالوا: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم والجُمّار لا يساوي درهما؟! قال: إن أمي سألتنيه، ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها.
وكان حَيوة بن شُريح -وهو أحد أئمة المسلمين- يقعد في حلقته يعلم الناس، فتقول له أمه: قم يا حيوة، فألقِ الشعير للدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
قال المأمون: لم أرَ أحدا أبرّ من الفضل بن يحيى بأبيه، بلغ من بره أن يحيى كان لا يتوضأ إلا بماء مسخن وهما في السّجن، فمنع السجان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فقام الفضل حين أخذ يحيى مضجعه إلى إناء كان يسخّن فيه الماء فملأه ثم أدناه من نار المصباح، فلم يزل قائما وهو في يده حتى أصبح، فمنعه السجان من تسخين الماء بالمصباح، فعمد الفضل إلى الإناء فأخذه في فراشه وألصقه بأحشائه حتى أصبح وقد فتر الماء.
يا شباب الإسلام: أوجّه لكم هذا النداء الذي وجهه أحد الدعاة، فهو يقول: يا معشر الأولاد من بنين وبنات، ويا فلذة الأكباد، يا من أصبحتم أو ستصبحون بإذن الله آباء وأمهات، منذ سنين خلت كنت ابنًا مثلكم، وكان لي أم وأب يحنوان عليّ ويريان الدنيا جميلة بي حلوة بوجودي، وكنت سعيدًا بقربهما، فلما فقدت أبي فقدت شطرًا من السعادة وجزءًا كبيرًا من النعيم، وجرح قلبي موته، فبقيت سنين أبكي، ثم انحصر بعده نعيم الحياة ولذاتها في أمي، وكانت والله أمًا طيبة، بقيت ترعاني بدموع عينيها، والتمست سعادتي بشقائها وراحتي بتعبها، وكنت أجد منها حنانها وعطفَ أبي، وأعدّها رأس مالي في الدنيا وزادي إلى الآخرة، ثم حلّ بها الأجل، فلحقت بأبي، فتصدع شرخ شبابي وهو على أشده، وتضعضعت أرجاء حياتي وهي بالغة قوتها.
ووهب الله لي البنين والبنات، فلم ألمس فيهم لذة الأبوة ومحبتها؛ لأني كنت أسعد بشقاء والديّ ويسعد اليوم أولادي بشقائي، وأستريح بتعبهما ويستريحون بتعبي، وكانا يبكيان لألمي وأبكي اليوم لألمهم، فشتان بين تجارتين! لقد كنت بارًا بهما في حياتهما، أؤثرهما على نفسي، وأعمل ما يرضيهما، وأقبل أيديهما صباحًا ومساءً، احترامًا لهما واعترافًا بفضلهما، ولا والله ما وجدت ألين منها!.
وكم من الأنوف رغمت ودسّت في التراب عندما تدنست بالعقوق، فهل من آذان صاغية وقلوب واعية تعي هذا الحديث؟! ويا ليت أهل العقوق يقفون على أحوال من سبقهم ليطلعوا على النكال الذي حلَّ بهم، والعذاب الذي نزل بهم، والضيق الذي ألمّ بهم، فلم يجدوا في ذلك ردعًا لهم، ووقاية لهم، وإيقاظًا لغفلتهم.
إنه، في خضم هذا الزمن الذي قست فيه القلوب، وطغت فيه المادة، وضعف فيه الوازع الديني، وتلاشت فيه معاني المروءة ومكارم الأخلاق، فإننا نخشى من نشوء جيل القطيعة الذي لا يعرف للآباء حقًا، ولا يحفظ لهم معروفًا، ولا يقدر لهم جهدًا.
وما لم نتدارك ذلك بالتربية الحسنة، وزرع بذرة الدين في قلوب أبنائنا، وتنشئتهم على معالي الأمور، وما لم تَقُمْ محاضن التربية بدورها في ذلك، فإن جيل القطيعة قادم لا محالة، والله يتولى الصالحين، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا شباب الصحوة المباركة، أيها الشباب الملتزم، إن النقطة السوداء لا تظهر إلاّ على الثياب البيضاء، وإنكم لستم كغيركم، فإن كان الناس لا يستغربون صور العقوق ومظاهره من المنحرفين الذين يفتقدون الوازع الديني والرادع الإيماني فإنهم -ولهم الحق- يستنكرون أدنى صورة من صور العقوق أن تصور فيكم.
يا أيها الشباب، إنه إن رضينا من غيركم بأدنى درجات البر فلا نرضى منكم إلا بالصور العالية والمظاهر المشرفة والمواقف المشرقة من مواقف البر والوفاء.
عجبًا لشابّ ملتزم يحفظ كتاب الله ثم هو مع هذا أبعد الناس عن والديه، وكثيرًا ما يتباطأ عن القيام بحقوقهما، ويسافر بغير إذنهما، ويغضب عليهما إذا لم ينفذا له طلبًا أو يحققا له رغبة، وربما تجد من يرفع صوته عليهما أو يسخر من هيئتهما! فأين حقيقة الالتزام؟!.
يا شباب الصّحوة: لا نرضى منكم إلا أن تكونوا ملازمين لوالديكم، ومراعين لمشاعرهم، فهذا من مقتضيات الدين، ومستلزمات الالتزام.
إنه حديث عن حقّهما مقرون بعبادة الله، (أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِولِدَيْكَ) [لقمان:14]، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِلْولِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء:23].
أيها المسلمون: من أرضى الوالدين فقد أرضى الله، ومن أسخطهما فقد أسخطه، ومن برّ بهما وأحسن إليهما فقد شكر ربّه، ومن أساء إليهما فقد كفَر بنعمته، وهما الباب الموصل إلى الجنة، فمن برّ بهما وصل، ومن عقّهما مُنع، ولم يذكر الإسلام أنواع البر بهما ليحددها ويفصلها، فإن ذلك أمر لا يخضع للتفصيل والتعيين، إنما يخضع للظروف والأحوال والحاجة والقدرة، والذوق الإنساني، والعرف الاجتماعي، والشعور الحيّ لدى الأبناء.
يا أبناء الإسلام: إن حقّ والديك ليس كحقّ أحد من الناس، فإن أيّ كلمة أو إشارة تفيد تضجرًا منهما أو من أحدهما تعتبر معصية ولو كانت كلمة (أف)، وإنّ الله لا يرضى عن الأبناء إلاّ أن يذلّوا أنفسهم لآبائهم وأمهاتهم، خصوصًا عند الكبر، (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:24]، وهو ذل للوالدين ليس سببه القهر والغلبة، ولكن سببه الحبّ والرحمة.
يا فتى الإسلام: مهما أذللت نفسك لأبويك فإن الله يحبك ويرضى عنك، والناس يكبرونك ويمدحونك ويجعلونك بينهم مثلاً طيبًا، وهذا عكس من يذل نفسه للناس، فإن كرام الناس ينفرون منه.
قيل لبعض السلف، رحمه الله: كيف كان بر ابنك بك؟ قال: ما مشينا نهارًا قط إلا مشى خلفي، ولا مشى أمامي ولا رقَا سطحًا وأنا تحته.
وعن ابن عون أن أمه نادته فأجابها، فَعَلا صوته صوتَها، فأعتق رقبتين. وقيل لعلي بن الحسين -رضي الله عنهما-: أنت من أبر الناس ولا تأكل مع أمك؟! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها.
وهكذا، فإن البر لا يكون في الكلام، وإنما هو اطمئنان في النفس، واعتراف بالفضل، ونكران للذات، عرف -رحمه الله- أن البر بالأم أن يشعر الولد بشعورها، ويدرك بحَدسِه ما يجول في نفسها، ويفهم من نظراتها مرادها، فإذا فقد هذه المعاني فقد حقيقة البر.
مرّ ابن عمر -رضي الله عنهما- وهو يطوف برجل يماني يطوف بالبيت، وتَرَحَّلَ أمه على ظهره وهو يقول:
إني لها بعيرها المذلّل *** إن ذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر، أتراني جازيتها؟! قال: لا، ولا بزفرة واحدة!.
ولما ماتت أم إياس بن معاوية جعل يبكي، فقيل: ما يبكيك؟ قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، وغلق أحدهما.
أما بعد موتهما فلا أنساهما يوميًا من صدقة، ولا من الدعاء كل صلاة، وأحب من كان يحبان، وأصل أهل ودهما.
وأنتم -أيها الأبناء- من كان له أبوان فليهنأ بهما، وليحرص عليهما، وليسعَ جهده في إرضائهما، لأنه أوتي سعادة الدنيا والآخرة، والوالدان تاج لا يراه إلا الأيتام، ومن فقد أحدهما فقد خسر نصف السعادة، فليحرص على نصفها الآخر قبل أن يزول، ومن فجعه الدهر بهما كما فجعني فلا ينساهما من صلاته ودعواته، ومن أصبح منكم أبًا يدرك هذا، ومن لم يصبح فعمَّا قريب، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم، والحياة دين ووفاء، ونعوذ بالله من العقوق والجفاء.
ويوم تبلى السرائر ويبعثر ما في القبور ويحصّل ما في الصدور، حينها سيرى أهل العقوق غِبَّ عقوقهم، وسيرى أهل البر حسن العاقبة، وطوبى لمن لقي الله ووالداه عنه راضيان!.
هذا وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي