فليكرم جاره (2) كيف نكرم الجار؟

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. مكانة حقوق الخلق بعضهم على بعض في الشريعة .
  2. عظم حق الجار في الإسلام .
  3. إكرام الجار من كمال الإيمان .
  4. من صور إكرام الجار .
  5. خلق نبيل غاب عن كثير من الجيران في زمننا .
  6. الباعث على إكرام الجيران والإهداء لهم .
  7. فساد الجار لا يسقط حقه .
  8. أعظم إكرام يقوم به جار لجاره .
  9. إحسان أبي حنيفة إلى جاره العاصي. .

اقتباس

إِنَّ الْجَارَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَ جَارِهِ مُوَطَّأَ الْكَنَفِ، حَسَنَ الْعِشْرَةِ، لَطِيفَ المُعَامَلَةِ، دَائِمَ الْبِشْرِ، لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ بَيْتِهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.. لَقَدْ كَانَتِ الْجَارَةُ تَسْتَعِيرُ مِنْ جَارَتِهَا مَا تَحْتَاجُهُ مِنْ مَتَاعٍ، وَلَا تَأْنَفُ مِنْ إِرْسَالِ صَبِيِّهَا لِيَطْلُبَ مِنْ جَارَتِهَا قِدْرًا أَوْ مِلْحًا أَوْ بَصَلًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْقُلُوبُ مُتَقَارِبَةً، وَالنُّفُوسُ مُتَآلِفَةً، وَالْكُلْفَةُ بَيْنَ الْجِيرَانِ مَرْفُوعَةً، وَكَثِيرٌ مِنْ عَلَاقَاتِ الْجِيرَانِ فِي زَمِنَنَا هَذَا أَضْحَتْ بَاهِتَةً بَارِدَةً، فِيهَا مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّحَفُّظِ مَا يُؤَدِّي إِلَى التَّحَاشِي وَالْقَطِيعَةِ...

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ للَّـهِ الْكَرِيمِ المَنَّانِ، الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ؛ رَحِمَ الْعِبَادَ فَهَدَاهُمْ لِدِينِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ، وَأَدَّبَهُمْ بِشَرِيعَتِهِ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُمْ، فَمَنْ أَخَذَ بِآدَابِهَا كَانَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّـهِ -تَعَالَى-، مَحْبُوبًا إِلَى خَلْقِهِ؛ لِأَنَّ أَدَبَ الشَّرِيعَةِ جَاءَ عَلَى مَا غُرِسَ فِي فِطَرِ النَّاسِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا.

 وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ الْأَخْلَاقَ وَالْآدَابَ مِنْ صَمِيمِ الْعَقِيدَةِ، وَمِنْ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ؛ فَلَا إِحْسَانَ لِلنَّاسِ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ إِلَّا بِنِيَّةٍ، فَإِذَا صَلَحَتِ النِّيَّةُ صَلَحَ الْعَمَلُ، وَعَظُمَ الْأَجْرُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَلَا أَجْرَ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَزْكَى النَّاسِ نَفْسًا، وَأَكْرَمُهُمْ طَبْعًا، وَأَوْسَعُهُمْ حِلْمًا، وَأَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، أَدَّبَهُ رَبُّهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، فَوَسِعَ بِخُلُقِهِ النَّاسَ كُلَّهُمْ، مُسْلِمَهُمْ وَكَافِرَهُمْ، مُؤْمِنَهُمْ وَمُنَافِقَهُمْ، بَرَّهُمْ وَفَاجِرَهُمْ، ذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، كَبِيرَهُمْ وَصَغِيرَهُمْ، عَالِمَهُمْ وَجَاهِلَهُمْ؛ فَمَا عُرِفَتْ لَهُ كَبْوَةٌ فِي خُلُقٍ، وَلَا زَلَّ لِسَانُهُ بِلَفْظَةٍ أُخِذَتْ عَلَيْهِ (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّـهِ لِنْتَ لهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159] صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَيُّهَا النَّاسُ: تَحْتَلُّ حُقُوقُ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَسَاحَةً كَبِيرَةً مِنَ الشَّرِيعَةِ؛ فَبِهَذِهِ الْحُقُوقِ يَتَعَايَشُونَ، وَبِسَبَبِهَا يَتَوَادُّونَ وَيَتَحَابُّونَ، وَعَلَيْهَا يُؤْجَرُونَ؛ فَحُقُوقٌ لِلْوَالِدَيْنِ، وَحُقُوقٌ لِلْأَرْحَامِ، وَحُقُوقٌ لِلْجِيرَانِ، وَحُقُوقٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ، وَحُقُوقٌ لِلْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. 

وَمِنْ أَعْظَمِ الْحُقُوقِ الَّتِي أَكَّدَتْ عَلَيْهَا الشَّرِيعَةُ، وَكَثُرَتْ فِيهَا النُّصُوصُ: حُقُوقُ الْجِيرَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ:

فَأَوْصَى اللهُ -تَعَالَى- بِحَقِّ الْجَارِ فِي كِتَابِهِ (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ) [النساء: 36].

وَأَوْصَى بِهِ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 وَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبَي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْجَدْعَاءِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، يَقُولُ: «أُوصِيكُمْ بِالجَارِ» حَتَّى أَكْثَرَ، فَقُلْتُ: «إِنَّهُ لَيُوَرِّثُهُ» (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ).

وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِكْرَامَ الْجَارِ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَاليَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ»، وَلِأَحْمَدَ: «فَلْيَحْفَظْ جَارَهُ». وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا» (رَوَاهُ أَحْمَدُ). وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ حَقِّ الْجَارِ أَنْ تَبْسُطَ إلَيْهِ مَعْرُوفَكَ.

وَكُلُّ هَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى إِكْرَامِ الْجَارِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَحِفْظِهِ وَبَذْلِ المَعْرُوفِ لَهُ. وَجَاءَ إِكْرَامُ الْجَارِ فِي الْحَدِيثِ مُطْلَقًا، فَكُلُّ مَا يُعَدُّ إِكْرَامًا وَإِحْسَانًا فَيُبْذَلُ لَهُ، وَكُلُّ مَا يُنَافِي الْإِكْرَامَ وَالْإِحْسَانَ فَيُبْعَدُ عَنْهُ. وَالْإِكْرَامُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ، فَمِنْ إِكْرَامِ الْقَوْلِ: طِيبُ الْكَلَامِ، وَبَدْؤُهُ بِالسَّلَامِ، وَالسُّؤَالُ عَنْ حَالِهِ.

 وَمِنَ الْإِكْرَامِ: إِتْحَافُ الْجَارِ بِالْهَدَايَا طَعَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَقَبُولُ دَعْوَتِهِ، وَعِيَادَتُهُ فِي مَرَضِهِ، وَحِفْظُهُ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَتَفَقُّدُهُمْ حَالَ غَيْبَتِهِ. فَإِنْ كَانَ الْجَارُ فَقِيرًا كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ مُوَاسَاتُهُ بِالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالمَالِ، وَلَا يَخْلُو مَكَانٌ مِنْ جَارٍ فَقِيرٍ، حَتَّى فِي الْأَحْيَاءِ الثَّرِيَّةِ المَمْلُوءَةِ بِالْقُصُورِ؛ فَإِنَّ عُمَّالَ الْقُصُورِ مِنَ الْخَدَمِ وَالسَّائِقِينَ وَالمُزَارِعِينَ يَدْخُلُونَ فِي الْجِيرَةِ، وَهُمْ يُقِيمُونَ فِيهَا أَشْهُرًا وَسَنَوَاتٍ، وَغَالِبُهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَجِيرَانُهُمْ مِنَ المُوسِرِينَ يَغْفُلُونَ عَنْ مُوَاسَاتِهِمْ بِالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَبِهُونَ إِلَى أَنَّهُمْ مِنْ جِيرَانِهِمْ، وَأَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ لَيْسَ إِحْسَانًا لِفُقَرَاءَ فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا هُوَ إِحْسَانٌ لِلْجِيرَانِ. فَقَدْ أَلِفَ النَّاسُ أَنَّ الَّذِي يَمْلِكُ المَنْزِلَ هُوَ الْجَارُ دُونَ خَدَمِهِ وَعُمَّالِهِ وَحُرَّاسِهِ، وَهُوَ فَهْمٌ قَاصِرٌ فِي مَعْرِفَةِ مَنْ يَكُونُ الْجَارَ.

وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ يَخْدُمُ فِي قَصْرٍ أَنَّهُ يُطْعَمُ فِيهِ وَيُكْسَى؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعَمَلِ رُبَّمَا شَارَطَهُ عَلَى أَنَّ طَعَامَهُ وَكِسْوَتَهُ عَلَيْهِ لَا عَلَى صَاحِبِ الْعَمَلِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مُوَاسَاةٍ بِالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ إِنْ كَانَ فَقِيرًا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ أَجْرُهُ لَا يَسُدُّ حَاجَتَهُ وَحَاجَةَ أَهْلِهِ فِي بَلَدِهِ، فَيُؤْثِرُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ يَعْمَلُ عِنْدَ بُخَلَاءَ لَا يُنْفِقُونَ لَهُ إِلَّا أَجْرَهُ، أَوْ كَانُوا يَغْفُلُونَ عَنْ حَاجَتِهِ، فَتَرَكَهُ جِيرَانُهُ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ أَرْبَابَ عَمَلِهِ يُغْنُونَهُ فَيَضِيعُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ، وَمَا أَكْثَرَ الْغَفْلَةَ فِي هَذَا المَجَالِ! وَهُوَ بَابٌ مِنَ الْخَيْرِ عَظِيمٌ. وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَيْسَ المُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ» وَإِطْعَامُ هَؤُلَاءِ وَكِسْوَتُهُمْ تَرْبُو عَلَى الْإِحْسَانِ لِلْفَقِيرِ الْبَعِيدِ؛ لِأَنَّهَا إِكْرَامٌ لِجَارٍ فَقِيرٍ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَإِنْ كَانَ الْجَارُ غَنِيًّا كَانَ الْإِهْدَاءُ لَهُ مِنَ الْإِكْرَامِ وَزِيَادَةِ المَوَدَّةِ، وَكَانَ النَّاسُ إِلَى وَقْتٍ قَرِيبٍ يُهْدُونَ إِلَى جِيرَانِهِمْ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ أَرْزَاقٍ، وَمَا يَطْبُخُونَهُ مِنْ طَعَامٍ، وَهُوَ خُلُقٌ نَبِيلٌ غَابَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الجِيرَانِ فِي زَمَنِنَا.

وَلَا يَحْتَقِرُ قَلِيلَ الشَّيْءِ يُهْدِيهِ لِجَارِهِ؛ لِأَنَّ المَعْنَىَ هُوَ المُشَارَكَةُ، وَإِظْهَارُ المَوَدَّةِ وَالمَحَبَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَالْفِرْسِنُ: الْعَظْمُ قَلِيلُ اللَّحْمِ، وَهُوَ خُفُّ الْبَعِيرِ أَيْضًا كَالْحَافِرِ لِلدَّابَّةِ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِلشَّاةِ وَهُوَ الظِّلْفُ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ: «يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ إِحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا وَلَوْ كُرَاعُ شَاةٍ مُحَرَّقٌ»، وَأُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى المُبَالَغَةِ فِي إِهْدَاءِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ وَقَبُولِهِ؛ أَيْ: لَا تَمْنَعُ جَارَةٌ مِنَ الْهَدِيَّةِ لِجَارَتِهَا المَوْجُودَ عِنْدَهَا لِاسْتِقْلَالِهِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَجُودَ لَهَا بِمَا تَيَسَّرَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَهُوَ خَيْرٌ مِنَ الْعَدَمِ، والمُهْدَى إِلَيْهَا لَا تَحْتَقِرُ مَا يُهْدَى إِلَيْهَا وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا.

وَإِنْ كَانَ الْجَارُ غَيْرَ مُسْلِمٍ فَلَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، فَيَتَفَقَّدُ حَالَهُ، وَيُهْدِي لَهُ، جَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-مَا- أَنَّهُ ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ).

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَى إِكْرَامِ الْجِيرَانِ وَالْإِهْدَاءِ لَهُمْ طَلَبَ مَرْضَاةِ اللَّـهِ -تَعَالَى-، وَالنَّظَرَ إِلَى الْأَجْرِ الْعَظِيمِ المُرَتَّبِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يُعَامِلُ جِيرَانَهُ بِالمِثْلِ، فَإِنْ أَكْرَمُوهُ أَكْرَمَهُمْ، وَإِنْ أَعْرَضُوا عَنْهُ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، بَلْ يُكْرِمُهُمْ وَيُهْدِي لَهُمْ وَلَوْ لَمْ يَأْبَهُوا بِهِ أَوْ يَفْطَنُوا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ أَجْرَهُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَرْجُو مَثُوبَةَ اللَّـهِ -تَعَالَى-، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ: أَنَّ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ -رَحِمَهُ اللهُ -تَعَالَى- قَالَ لِأَهْلِهِ: اصْنَعُوا لِي خَبِيصًا- وَكَانَ لا يَكَادُ يَتَشَهَّى عَلَيْهِمْ شَيْئًا- قَال: فَصَنَعُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى جَارٍ لَهُ مُصَابٌ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَلُعَابُهُ يَسِيلُ، قَالَ أَهْلُهُ: مَا يَدْرِي مَا أَكَلَ. قَالَ الرَّبِيعُ: لَكِنَّ اللَّـهَ يَدْرِي.

والْأَمْرُ بِإِكْرَامِ الْجَارِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ؛ فَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَيُجْمِعُ الْجَمِيعَ أَنَّهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

وَالضَّابِطُ فِي إِكْرَامِ الْجَارِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ: إِيصَالُ الْخَيْرِ إِلَيْهِ، وَمَنْعُ الشَّرِّ عَنْهُ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «خَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّـهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.

إِنَّ الْجَارَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَ جَارِهِ مُوَطَّأَ الْكَنَفِ، حَسَنَ الْعِشْرَةِ، لَطِيفَ المُعَامَلَةِ، دَائِمَ الْبِشْرِ، لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ بَيْتِهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، مُسْتَهْدِيًا بِهَدْيِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ: «لاَ يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ»، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟! وَاللَّـهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَغْلَظَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ هَذِهِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِيرًا عَلَى المَدِينَةِ لمَّا قَالَ ذَلِكَ.

لَقَدْ كَانَتِ الْجَارَةُ تَسْتَعِيرُ مِنْ جَارَتِهَا مَا تَحْتَاجُهُ مِنْ مَتَاعٍ، وَلَا تَأْنَفُ مِنْ إِرْسَالِ صَبِيِّهَا لِيَطْلُبَ مِنْ جَارَتِهَا قِدْرًا أَوْ مِلْحًا أَوْ بَصَلًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْقُلُوبُ مُتَقَارِبَةً، وَالنُّفُوسُ مُتَآلِفَةً، وَالْكُلْفَةُ بَيْنَ الْجِيرَانِ مَرْفُوعَةً، وَكَثِيرٌ مِنْ عَلَاقَاتِ الْجِيرَانِ فِي زَمِنَنَا هَذَا أَضْحَتْ بَاهِتَةً بَارِدَةً، فِيهَا مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّحَفُّظِ مَا يُؤَدِّي إِلَى التَّحَاشِي وَالْقَطِيعَةِ.

وَغَابَ مَفْهُومُ إِكْرَامِ الْجَارِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ فِي أَمْوَاجِ المَادِّيَّةِ المُتَلَاطِمَةِ الَّتِي كَرَّسَتِ الْفَرْدِيَّةَ وَحُبَّ الذَّاتِ، وَالِانْقِطَاعَ عَنْ كُلِّ النَّاسِ؛ فَيَمْرَضُ الْجَارُ وَيَمُوتُ وَلَا يَعْلَمُ بِهِ جَارُهُ، وَيُسَاكِنُهُ فِي حَيِّهِ وَرُبَّمَا مُلَاصِقًا لِدَارِهِ عَقْدًا أَوْ عَقْدَيْنِ، وَيُفَارِقُهُ وَهُمَا لَمْ يَتَعَارَفَا.

نَعُوذُ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- مِنْ سُوءِ الْجِوَارِ، وَنَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَهْدِيَنَا لِآدَابِ الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَيْرَزُقَنَا الْعَمَلَ بِمَا عَلِمْنَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَتَأَدَّبُوا بِآدَابِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَدُّوا الْحُقُوقَ لِأَهْلِهَا؛ فَإِنَّ حُقُوقَ الْخَلْقِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى المُشَاحَّةِ، وَحُقُوقَ اللَّـهِ -تَعَالَى- مَبْنِيَّةٌ عَلَى المُسَامَحَةِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج: 77].

أَيُّهَا النَّاسُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي أَدَاءِ حَقِّ الْجَارِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، وَفَسَادُ الْجَارِ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ، كَمَا قَدْ وَجَبَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْجَارِ الْكَافِرِ. 

وَأَعْظَمُ إِكْرَامٍ يَقُومُ بِهِ جَارٌ لِجَارِهِ إِكْرَامُهُ بِشَرَائِعِ الدِّينِ؛ وَذَلِكَ بِدَعْوَتِهِ لِلْإِسْلَامِ إِنْ كَانَ كَافِرًا، أَوْ إِلَى التَّوْبَةِ إِنْ كَانَ فَاسِقًا، أَوْ دَلَالَتِهِ عَلَى فَرِيضَةٍ ضَيَّعَهَا، أَوْ سُنَّةٍ غَفَلَ عَنْهَا، أَوْ حُرْمَةٍ انْتَهَكَهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْأُسْلُوبِ الْأَمْثَلِ الَّذِي يَنْفَعُهُ وَيُرَغِّبُهُ وَلَا يُنَفِّرُهُ؛ فَإِنَّ هِدَايَتَهُ مِنْ إِكْرَامِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ. وَالتَّنَاصُحُ بَيْنَ الْجِيرَانِ يَكَادُ يَكُونُ غَائِبًا بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَنِ.

وَإِذَا كَانَ الْجَارُ يَعْلَمُ مِنْ جَارِهِ مَعْصِيَةً لَمْ يُجَاهِرْ بِهَا فَمِنْ إِكْرَامِهِ أَنْ يَسْتُرَهُ وَلَا يَفْضَحَهُ، حَتَّى لَوْ نَاصَحَهُ فَأَصَرَّ عَلَيْهَا وَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ، مَا لَمْ يُجَاهِرْ بِهَا، أَوْ يَدْعُو إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ ضَرَرَ مَعْصِيَتِهِ عَلِيهِ مَا دَامَ لَمْ يُشِعْهَا، وَأَمَّا ضَرَرُ فَضِيحَتِهِ فَيَطُولُ أَهْلَهُ وَعَشِيرَتَهُ.

 عَنْ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ رَجَاءٍ الْغُدَانِيِّ، قَالَ: كَانَ لِأَبِي حَنِيفَةَ جَارٌ بِالْكُوفَةِ إِسْكَافٌ يَعْمَلُ نَهَارَهُ أَجْمَعَ، حَتَّى إِذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَقَدَ حَمَلَ لَحْمًا فَطَبَخَهُ، أَوْ سَمَكَةً فَيَشْوِيهَا، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَشْرَبُ، حَتَّى إِذَا دَبَّ الشَّرَابُ فِيهِ غَنَّى بِصَوْتٍ، وَهُوَ يَقُولُ:

أَضَاعُونِي وَأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا
 

***

لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسَدَادِ ثَغْرِ
 

فَلَا يَزَالُ يَشْرَبُ وَيُرَدِّدُ هَذَا الْبَيْتَ حَتَّى يَأْخُذَهُ النَّوْمُ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَسْمَعُ جَلَبَتَهُ كُلَّ يَوْمٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُومُ يُصَلِّي اللَّيْلَ، فَفَقَدَ أَبُو حَنِيفَةَ صَوْتَهُ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ: أَخَذَهُ الْعَسَسُ مُنْذُ لَيَالٍ وَهُوَ مَحْبُوسٌ، فَصَلَّى أَبُو حَنِيفَةَ صَلَاةَ الْفَجْرِ مِنْ غَدٍ، وَرَكِبَ بَغْلَتَهُ، وَاسْتَأْذَنَ عَلَى الْأَمِيرِ.. فقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: لِي جَارٌ إِسْكَافٌ أَخَذَهُ الْعَسَسُ مُنْذُ لَيَالٍ، يَأْمُرُ الْأَمِيرَ بِتَخْلِيَتَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَكُلُّ مَنْ أُخِذَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَأَمَرَ بِتَخْلِيَتِهِمْ أَجْمَعِينَ، فَرَكِبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْإِسْكَافُ يَمْشِي وَرَاءَهُ، فَلَمَّا نَزَلَ أَبُو حَنِيفَةَ مَضَى إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا فَتًى، أَضَعْنَاكَ؟ فَقَالَ: لَا، بَلْ حَفِظْتَ وَرَعَيْتَ، جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا عَنْ حُرْمَةِ الْجِوَارِ وَرِعَايَةِ الْحَقِّ. وَتَابَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى مَا كَانَ.

فَإِحْسَانُ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- إِلَى جَارِهِ الْعَاصِي بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَصَبْرُهُ عَلَى أَذَاهُ، ثُمَّ السُّؤَالُ عَنْهُ لمَّا فَقَدَهُ، ثُمَّ الشَّفَاعَةُ لَهُ لِإِطْلَاقِهِ مِنْ حَبْسِهِ؛ كَانَ سَبَبًا فِي تَوْبَتِهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ. وَالْإِحْسَانُ يَسْتَعْبِدُ النُّفُوسَ، وَيُلِينُ الْقُلُوبَ؛ فَلْنُحْسِنْ إِلَى جِيرَانِنَا وَنُكْرِمْهُمْ لَعَلَّ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْنَا وَيُكْرِمَنَا بِأَعْظَمَ مِمَّا أَكْرَمْنَاهُمْ بِهِ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ..


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي