ما أحوجنا -أحبتي في الله- أن ندرك معنى الكرم، ونتعرف على مفهومه، وأسلوب تحقيقه، والاتصاف به، فقد يَفهم الكرم من يريد الإكرام على غير حقيقته، ويسعى من يسعى لتنفيذ الكرم على غير طريقته. إن الكرم علامة من علامات الإيمان، وركيزة من ركائز التقوى، فلا كرم بلا إيمان، ولا...
الحمد لله الكريم الجواد، الموفِّق لطريق الخير والرشاد، والهادي إلى ما فيه الحق والسداد، أحمده سبحانه على كرمه الذي ما له من نفاد، وجُودِه الذي لا ينقطع، وكلما شُكر -سبحانه- ضاعف عطاءه وزاد، فسبحانه من إله كريم منان يداه مبسوطتان، بل هو الرب الأكرم، أكرم من كل كريم، وأجود من كل جواد.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ومصطفاه وخليله، ما سبقه أحد في جود أو كرم، صلة للرحم، وإقراءًا للضيف، وحملاً للكَلّ، وإكساباً للمعدوم، وإعانةً على نوائب الحق.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
اتقوا الله -عباد الله-، فإن التقوى عز وكرم، وجود وعطاء، وشرف يُلتزَم.
بها تستجلب النعم، وتدفع النقم، بل ويبسط الرزق، ويوسع على الخلق: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2 - 3].
إخوة الإيمان: لقد جاء هذا الدين الإسلامي العظيم مقرا لما كان عليه أهل الجاهلية من صفات حميدة، وأخلاق مجيدة، وتصرفات سديدة رشيدة.
ومن ذلك صفة من صفاتهم النبيلة، وعاداتهم الجميلة، وسماتهم الجليلة القليلة؛ إنها صفة: الكرم والجود.
ذلكم الخلق المحمود، والحوض المورود، وطبعٌ به يشرف صاحبه ويسود، بل يكفي الكرم شرفاً أنه وصف من صفات الرب المعبود.
فمن أسماء الله: "الكريم" وهو سبحانه مصدر الجود، والعطاء العظيم: (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا)[إبراهيم: 34].
ومن أوائل ما وصف الله به نفسه في أول آيات أنزلها على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، حينما قال له: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)[العلق: 3].
فهو أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، وأرحم الراحمين، ذو الجلال والإكرام، والفضل والإنعام.
لو أن أول الخلق وآخرهم، وإنسهم وجنهم، قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكه إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر.
فلا كرم لأحد إلا من كرمه، ولا جود إلا من جوده، ولا عطاء إلا من عطائه.
ويكفي من كرمه سبحانه: "أنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها".
فحتى الكافر والعاصي لهم حق في كرم الله وجوده.
أنت الكريم فلولا رحمة سبقت *** لم يُعطَ شربةَ ماءٍ جاحدٌ عاصي
تُعطي بغير حساب لا تَظُنّ ولا *** يَغيبُ جودك عن دانٍ ولا قاصِ
إخوة الإيمان: ومن دلائل كرم الله -جل وعلا-: ما أعطاه ومنحه مِن كرمِ أنبيائه، وجود أصفيائه وأوليائه، وأجودهم على الإطلاق، وأكرمهم بالاتفاق، مَن جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه، قائلاً لهم: "يا قوم أسلموا، فإن محمدا يُعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر".
بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
كرمٌ كريمُ الأمهات مهذب *** تدفق يمناه الندى وشمائله
جوادٌ بسيطُ الكف حتى لو أنه *** دعاها لقبض لم تُجبه أنامله
لو لم يكن في كفه إلا روحه *** لجاد بها فليتق الله سائله
إنه مَن أخبر صلى الله عليه وسلم أن السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد عن النار، بل جعل الكرم علامة من علامات الإيمان، وشرطاً من شروط تحقيقه، فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".
لذا، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أخبر جابر -رضي الله عنه-: "ما سئل عن شيء، فقال: لا".
كأنك في الكتاب وجدت "لاءًا" *** محرمة عليك فلا تحل
إذا حضر الشتاء فأنت دفء *** وإذا حضر المصيف فأنت ظل
والحديث -إخوة الإيمان- عن كرمِ الله -جل وعلا-، أو كرمِ أنبيائه، وكرمِ نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بخاصة، أو حتى كرمِ أصحابه -رضي الله عنهم-، وأتباعه يطول ويطول.
وكذلك يطول الحديث عن فضل الكرم والكرماء، وضرر الشح، وسوء البخلاء.
وقد يستغرب من يستغرب الحديث عن الكرم بين الكرماء أمثالكم، لكن الله -جلا وعلا- قال لأفضل المتقين : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ)[الأحزاب: 1].
وقال للمؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ)[النساء: 136].
ونحن نقول: يا أيها الكرماء: على كرمكم حافظوا واستمروا، ولا يخرجنكم الشيطان عن صفاتكم السديدة، وأخلاقكم الحميدة، والتي منها الجود والكرم.
يقال هذا -إخوة الإيمان- ونحن نتفيأ هذه الأيام نعمة الاجتماع واللقاء، وكرم الضيافة والندى، في أيام هذا العيد المبارك.
ولكن ما أحوجنا -أحبتي في الله- أن ندرك معنى الكرم، ونتعرف على مفهومه، وأسلوب تحقيقه، والاتصاف به، فقد يَفهم الكرم من يريد الإكرام على غير حقيقته، ويسعى من يسعى لتنفيذ الكرم على غير طريقته.
أيها الإخوة المؤمنون: إن الكرم علامة من علامات الإيمان، وركيزة من ركائز التقوى، فلا كرم بلا إيمان، ولا جود ولا مراجل بلا تقوى؛ لذلك لم ولن ينفع أهل الجاهلية كرمهم.
ولما سألت عائشة -رضي الله عنها- النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كرم عبد الله بن جدعان في الجاهلية، وأنه كان يطعم الفقير، ويعين على نوائب الحق، هل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "لا، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"[أخرجه مسلم].
فلا بد إذاً للكرم المحمود من آداب، وحدود وضوابط وشروط؛ أولها وأساسها وأهمها: تقوى الله -سبحانه-، كما قال الله -سبحانه-: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13].
وسئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: من أكرم الناس؟ فقال: "أتقاهم"[أخرجه البخاري].
يقول ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث: "لا يقال للرجل كريم حتى يظهر ذلك منه، ولمّا كان أكرم الأفعال ما يقصد به أشرف الوجوه، وهو وجه الله –سبحانه- كان ذلك لا يحصل إلا من المتقي".
والمتأمل لقول الله -تعالى-: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى)[الليل: 5] تتجلى له هذه المسألة الهامة، وهي: ربط العطاء بالتقوى، وأن ذلك هو المحمود فعلا: أن يكون الكريم متقياً لله، صادقا في توكله عليه، شاكرا له بالتزام طاعته، والحذر من معصيته.
فالكرم عبادة تحتاج إلى أسباب القبول من الله، و(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة:27].
ومن آداب الكرم وضوابطه: أن يكون في طاعة الله، وطلبا لمرضاته، وخالصا لوجهه، لا سمعةً ولا رياءً، ولا فخر ولا خيلاء، ولا مباهاة ومجاراة للأغنياء، إنما تَعَبّدٌ لله، وقصدٌ لوجه الله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا)[الإنسان: 9].
فلا مصالح دنيوية تُرتجى، ولا تعويضات مالية تُرتقب.
ومن كان كرمه لله؛ فإنه يشمل به القريب والبعيد، والغني والفقير، والوجهاء والعامة، فليس الكريم حقا من لا يكرم إلا الكبراء والوجهاء والأغنياء، ثم يطرد الفقير عن سفرته، ويحرم المسكين من عطيته.
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن شر الطعام طعام الوليمة؛ يُدعى إليها من يأباها، ويُحرم منها من يحتاج إليها.
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)[الإنسان:8].
كما أن من ضوابط الكرم وشروطه: أن يطعم الناس حلالاً، ويكرم الناس طيبا مباحا، لا مَن يجمع ثروته من حرام، وينمي أمواله بالحرام، ثم ينفق نفقة الكرام.
والله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً.
والكريم من يأخذ المال من حِلّه، وينفقه في محله، لا من يدعي الفقر والحاجة، والدين والعوز، ويتكفف الناس، ويسألهم، ثم يباهي بكرمه، ويفاخر بولائمه، ويكون كما قيل:
يجود علينا الخيرون بمالهم *** ونحن بمال الخيرين نجود
فاتقوا الله -رحمكم الله- وتفهموا معنى الجود والكرم، وأحسنوا القصد، وأخلصوا النية في جودكم وكرمكم، يبارك لكم ربكم فيما آتاكم، ويخلف عليكم، ويكتب لكم أجركم وثوابكم، والله: (لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 90].
بارك الله لي ولكم ...
أيها الإخوة الكرماء: اتقوا الله -رحمكم الله- واعلموا أن من ضوابط الكرم وآداب: الجود أن يكون من الموجود، وأن لا يتكلف فيه المفقود، فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك في حديث سلمان -رضي الله عنه- قال: "نهانا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نتكلّف للضيف ما ليس عندنا"[أخرجه أحمد].
وهذا من الظواهر التي تحارب الكرم، وتَحرِم البعض من الحصول على ثواب الكرم، حينما يتحاشاه الضيوف، ولا يستجيب لدعوته محبوه، ويقلل من زيارته أقاربه وأصدقاؤه، والسبب خوفا أن يتكلف لهم مفقودا، ويتحمل من أجلهم ما يشق عليه تحمله، ويرهق كاهله تكلفته.
وقديما قيل: الجود من الموجود، والكلفة تذهب الألفة، بل ربما تكون الكلفة مجاملة، أو طمعاً في تحقيق مصلحة، أو على الأقل ستراً لماء الوجه.
بينما التبسط في تقديم الموجود، والمناسب للحال، يدل على زيادة المحبة، وقوة القربة والصحبة.
أما ما نختم به في توضيح مفهوم الكرم، وتصحيح مدلوله، فهو التحذير من مرض يسري، وخطر يفتك ويفري؛ إنه ما نتفق جميعا على ذمه، ونجتمع قاطبة على قبحه، وإن عجزنا عن التخلص من الكثير منه، وتهاون بعضنا في التلبس به.
ففرق كبير -إخوة الإيمان- بين الكرم والجود، وبين ما هو في الحقيقة كفر للنعمة وجحود.
فرق كبير، وبون شاسع، بين الرجولة والشهامة، وبين الإسراف والتبذير، وما يكون سببا للذم والملامة.
ليس -والله- من الجود والكرم: أن ترفع رايات الظهور على الصواني التي تقصم الظهور.
نعم، تقصم الظهور بحملها كما تقصم الظهور بتكلفتها، وأهم من ذلك تقصم الظهور وتكسر القلوب عندما يَحُول دون الاستفادة منها طبقات الشحوم، وتراكم الدسوم، التي لا طاقة للضيوف باختراقها للأكل منها، ولا طاقة لصحتهم بهضمها.
ويزداد ذلك بُعداً عن الكرم، بل ويتحول إلى إثم وجرم عندما يصحبها في القلب، ويبعثها في النفس حبٌّ للظهور، ومجاراة الآخرين، أو -نسأل الله السلامة والعافية- فخرٌ وخيلاء.
وأقبح من ذلك وأشد، إذا أتبعه بإهانة للنعمة وازدراء، فتُلقى في الفضاء إن لم تُلق في الصناديق الحمراء أو الصفراء.
فأين الكرم -إخوة الإيمان- عن تلك التصرفات الرعناء، والسلوكيات الهوجاء، أو التأثر بمشورات السفهاء، أو ناقصات العقل من النساء، فيوضع في الولائم ما لا يؤكل، ويجلب إليها ما لا يتحمل، فيبقى الهم الأول ما يظهر أمام الناس، ولو أدى إلى الديون والإفلاس.
فاتقوا الله -رحمكم الله- فالإسراف لا يجوز، والتبذير محرم، ولو من غني قادر، فكيف بمن عجزه بيّن وفقره ظاهر؟.
(وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ)[الأعراف: 31].
(وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)[الإسراء: 26 - 27].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي