كم من أمرٍ قدره، فكرهه الإنسان في مبادئه، ويمضي الزمن، وإذا به تتجلى له الخيرة ظاهرة. ولا عجب فذاك تدبير الحكيم، وتقدير القدير، وتصريف اللطيف الخبير، هو الخالق، وأدرى بما يُصلِحُ خَلْقَه، ولقد أحسن القائل: "لو كشف الله القدر للناس لما اختار امرؤ إلا ما قدر الله عليه". ها هو محمد -صلى الله عليه وسلم- يـ...
في تدابير القدر العظة والعبر، وفي تصاريف القضاء آيةٌ ومدّكر، يُقَلِّبُ اللهُ العبدَ في أحواله، في صباحه وفي مسائه، بين أمور متفاوتة، ما بين شدة ورخاء، ويريد العبد لنفسه، فلا يكون إلا ما يريد له ربه، ولله في خلقه شؤون، وله في تصريفه أسرار.
والأصل العام، والأمر الهام، واليقين التام: أن الله لا يقدر شراً محضاً أبداً، ولا يقضي على المسلم المكروهَ مطلقاً، بل الخير في اختياره.
كم من أمرٍ قدره، فكرهه الإنسان في مبادئه، ويمضي الزمن، وإذا به تتجلى له الخيرة ظاهرة.
ولا عجب فذاك تدبير الحكيم، وتقدير القدير، وتصريف اللطيف الخبير، هو الخالق، وأدرى بما يُصلِحُ خَلْقَه، ولقد أحسن القائل: "لو كشف الله القدر للناس لما اختار امرؤ إلا ما قدر الله عليه".
ها هو محمد -صلى الله عليه وسلم- يخرج بأصحابه إلى بدر، ولقد ودّوا أن يظفروا بالقافلة، فيغنموا الأموال، وتَسلَمَ الأرواح، ولكن الله شاء غير ذلك، فقابلوا الجيش وحصلت المعركة، وحُمِدَتِ العاقبةُ، إذ انتصر الصحابة، وأنزل الله في القرآن آياتٍ تتلى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ)[الأنفال: 7].
فصارت الواقعة فرقاناً بين الباطل والحق، ورفعةً للمسلم الحق، بعد أن كان الهدف غنيمةً باردة، وإغارةً على قافلة.
وفي صلح الحديبية وقعت الهدنة مع أهل مكة؛ بشروط حسب المسلمون فيها ذلاً لهم وترجيح كفة المشركين، فحزن القوم لأجلها، وصعب عليهم أن يعودوا بلا عمرة، وبشروط يرون في بنودها دنية، وهم الذين جاؤوا من هناك يحدوهم الشوق للعمرة، فتلكؤوا في حلق الرؤوس، علّ النبي -صلى الله عليه سلم- يتراجع، وحتى قال عمر: يا رسول الله ألسنا على الحق؟ فقال النبي -صلى الله عليه سلم-، فقال: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ فقال: يا عمر أنا رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري، فنزل القوم على رأيه وفي نفوسهم من الحزن ما لا يعلمه إلا الله.
وما مرت الأيام إلا ورأى المسلمين خير ذلك الأمر الذي ظنوه شراً، وعِزَّ الهُدنة التي حسبوها مهانةً وذُلاً، حتى لقد قال سهل بن حنيف: أيها الناس اتهموا أنفسكم، فلقد رأيتنا في الحديبية ولو نرى قتالاً لقاتلنا، حتى نزلت سورة الفتح.
وربما كان مكروه النفوس إلى *** محبوبها سبباً ما مثله سبب
وفي السنة الرابعة: اتُهِمَ عرضُ النبي -صلى الله عليه سلم- وقُذفت عائشة بالزنا، فحزن المصطفى لذلك، ولا عجب، فمن الذي لا يحزن وعِرضُهُ تلوكهُ ألسنةُ المنافقين.
يالله! لك أن تتصور كيف يهنأ محمد -صلى الله عليه وسلم- بنوم وهو لا يدري أحقٌ ما يقالُ عن زوجه أو هو افتراء، بل كيف يهنأ أبو بكر وزوجه وهما يريان ابنتَهُما حديثَ الركبان.
بل كيف تهنأ عائشة بحياة، وهي العفيفة الشريفة، الحصان الرزان لم تُقارِف ريبةً، وهي ترى القومَ قد استقر في أنفسهم، حتى شكّوا في أمرها، ومع كل الأمر، وتلك المرارات التي عاناها أشرف الخلق محمد، وأبو بكرٍ، وعائشةُ؟
ولكن ذلك كُلَّه يهون، فالأمر قد قدره الله في السماء خيراً، وأمضاه في الأرض: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النور: 11].
يالله أكلُ هذا خير؟!
أجل، فكم من خير وقع بسبب ذلك، لبيت النبوة، وللمسلمين من بعده، وأما عائشة فنزلت في القرآن آيات تتلى براءتها، حتى لو أن إنساناً قذفها بعد ذلك صار كافراً.
إنه تصرف سماوي وكفى *** فاطمئن لتدبير الله يا فتى
وها هو الإمام ابن تيمية تشتد عليه الأحوال، وتكثر عليه الوشايات، وتتنوع عليه العداوات، فيؤول أمره إلى أن يُدْخَلَ السجن، فيكونُ ذلك خيراً له في عاجله وآجله، إذ فتح عليه ربه من الفتوح والمعارف، حتى قال حين رأى الخير فيما قُدِّرَ عليه: "لو بذلتُ مِلء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكرَ هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير".
وأما في آجله، فلقد نشر الله علمه من بعده بعدما كانت كتبه تحرق وتحارب، حتى قال أحد تلاميذه: "والله إن شاء الله ليقيمنّ الله سبحانه لنصر هذا الكلام، ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده، واستحسان عجائبه وغرائبه رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم، وهذه سنة الحياة الجارية في عباده وبلاده" أ. ه.
وهذا ما وقع الآن، نراه رأي العيان.
يا مسلمون: ونحن نرى تكالب الأعداء على المسلمين، واشتداد الأمر على إخواننا المستضعفين في أماكن عدة، فمهمٌّ أن نستذكر تلك المسلّمة: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم)[النور: 11].
أجل! فبرغم الجراح، برغم الصعاب، برغم القتل والأسر، إلا أن من وراء الشر خيراً، وعجباً لأمر المؤمن إن أمره كُلَّه له خير، فلا يخالْجكم الشكُ من نصر الله، ولا اليأسُ من غِيَر الله، فكم من محنه تعقبها منحه وشرور أعقبه سروراً، والخير ربما رأيته بعينك قريباً، وربما تأخر قليلاً.
بل وقلِّب الطرف في أحوالك أنت، أَوَ ما أتاك يومٌ و سعيت فيه لأمر فصرفت، أو أقدمت على أمر فمنعته، أو ما أحجمت عن أمر فأُقحِمته، فصار في الأمر خير لك مما أخترته.
كان رجل بالبصرة من بني سعد، وكان قائداً من قواد عبيد الله بن زياد فسقط على السطح، فانكسرت رجلاه. فدخل عليه أبو قلابة يعوده، فقال له: "أرجو أن تكون لك خيرة، فقال: يا أبا قلابة وأي خير في كسر رجلي جميعاً؟ فقال: ما ستر الله عليك أكثر، فلما كان بعد ثلاثٍ ورد عليه كتاب ابن زياد أن يخرج فيقاتل الحسين، فقال للرسول -صلى الله عليه وسلم-: قد أصابني ما ترى فما كان إلا سبعاً، حتى وصل الخبر بقتل الحسين، فقال الرجل: رحم الله أبا قلابة لقد صدق، إنه كان خيرة لي"[صفة الصفوة (2/ 141)].
وحدثني أحدهم: أن حادث سيارة وقع له كان سبب خير له، إذ لأجله أجريت له الفحوصات، فاكتشفوا مرضاً في مبادئه، ولو تأخر عن كشفه لما تهيأت مداواته.
وأعرف من أُدخِل السجن، فحمد الله أن كان ذلك سبباً لتخلفه عن رفقة له قد تهيأ معهم لرحلة، فذهبوا وفي تلك الرحلة ماتوا من جراء حادث.
إن هذا الباب يعرفه المسلمون، ويسمونه القضاء والقدر، هو بابٌ أراحهم من حزن على فائت، وغمّ من واقع,
أغلقوا باليقين به أبواب الهموم، وأوصدوا الباب على تحزين الشيطان، لسان مقالهم: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[الحديد: 23].
لا يبحثون عن المكروه بل يفعلون الأسباب لنيل المحبوب، فإذا جرت الأقدار على أمرٍ يخالف الهوى، فلا سخط، ولا حزن لأنه من الله وهذا من الله، وهذا مراده الكوني، آمنوا بالله فهدى قلوبهم: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[التغابن: 11].
فاللهم رضنا بقضائك وصبرنا على بلائك وبارك لنا في قدرك، حتى لا نحب تأخير ما قدمته ولا تقديم ما أخرته.
الحمد لله وحده ...
عباد الله: المسلم ليس في قاموسه: ليت هذا لم يقع، ليس في مفرداته: لِمَ قدّر ربي علي كذا، كلا، بل هو يتميز عن غيره بأنه حين تأتيه المقادير على خلاف الرغبات تجاه القدر بثلاث عبادات:
إنه راضٍ؛ لأنه يعلم أن المدبر هو الله، والله حكيم، والحكيم سيختار له خير الأمور، حداؤه بلسان الحال:
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر *** والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع في ما اختار خالقنا *** وفي اختيار سواه اللوم والشوم
إنه صابرٌ، وإن صعب الأمر؛ لأنه يعلم أن الأجر يأتي مع الشدة، وله في كل كربةٍ، بل في كل شوكةٍ، بل في كل همٍ أجراً، يضع نصب العين قول نبيه -صلى الله عليه سلم-: "مَا يُصيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ، إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سيئَاتِهِ".
إنه على ربه متوكل، ولمولاه مفوض، ولتقديره مسِّلم، لعلمه أن اختيار الله له خيرٌ من اختياره لنفسه، قال ربيع بن سبرة لعمر بن عبد العزيز وقد هلك ابنه وأخوه ومولاه مزاحم في أيام: "يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلاً أصيب في أيام متوالية بأعظم من مصيبتك، ما رأيت مثل ابنك ابناً، ولا مثل أخيك أخاً، ولا مثل مولاك مولى، فنكس عمر رأسه ساعة ثم قال: كيف قلت يا ربيع؟ فأعاد عليه، فقال عمر: لا والذي قضى عليهم الموت ما أحب أن شيئاً من ذلك كان لم يكن، مِن الذي أرجو من الله فيهم" المعرفة والتاريخ للفسوي (1/ 610)].
إن هذه الكلمات -أيها الكرام- لَتُهدى لِمن تراه يتبرمُ من الأقدار، فإذا مسّهُ طائفٌ من الكَدَر، أو نالهُ بعضُ المصائبِ تسخّط وتبرّم، إنها رسالةٌ لمن أُحبِطَ من واقع المسلمين، وأقض مضجعه تسلط الأعداء، وعجز الثقة، وجَلَد الكافر، وتخون الأمين، وتأمين الخائن، وتناطق الرويبضة، وارتفاع الأسافل، ولربما أثر فيه ذلك تراجعاً في استقامة، أو تنازلاً عن ديانة.
إنها رسالةٌ لِمَن، لِمن أوصدت أمامه أبواب الرزق، فظل يندب حظه، ويقول: ليتني فعلت وفعلت، وما درى أن الله اختار له خيراً.
إنها رسالة لمن لم يُرزق الذرية، وقد طلب أسبابه، أو لمن أضناه المرض، وأقض مضجعه، فتراه يتقلب في الألم والنصب، وما درى أن الأجر له أمثال الجبال.
وفي الحديث عند الترمذي بسندٍ فيه ضعف: "يودُ أهلُ العافية يوم القيامة، حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض" [سنن الترمذي ت شاكر (4/ 603)].
معشر الكرام: الإيمان بالقدر حياة، يفتح لك في كل ظلمةٍ شعاع ضياء، وفي كل عُسرة باب رجاء، ولولا الرجاء لمات المريض من الهم، ولولا الإيمان بالقدر لما ركب الإنسان سيارة؛ لأنه يخشى أن يصدم بها، ولا صعد بناء؛ لأنه يخشى أن يسقط، ولا طلب الولد لأنه يخشى أن يموت.
الإيمان بالقدر راحة، فبه إن وُفقت فالفضل لربك، وإن أخفقت فقد بذلت وُسعَك، ولن تبكي على فائت، ولن تأسى على واقع؛ لأنك سعيت للأسباب، فقدر الله غير ما أردت، لا حزن مع القدر، حتى وإن حرمت باب دنيا، فإن من عباد الله من لا يُصلح دينه إلا الفقر، ولو اغتنى لطغى، فالله يحميه الغنى، ويحول بينه وبينه.
لا حزن على قدر حتى، وإن منعت من دعوة، فلربما فتح الله لك للخير أبواباً، وعوضك عما فاتك اضعافاً.
لا حزن مع القدر، حتى وإن حرمت باب عبادة، فما تدري كيف سيكون حالك لو نلتها، وإن العبد ليطلب باباً من أبواب العبادة فيُصرفُ عنه، ولربما لو ناله لأفسده ذلك.
الإيمان بالقدر عزاء، فإنك إن أصبت بمصيبة فسترى من هو أشد منك، وإن مات لك ولد فسترى في قدر الله من مات كل ولده، وإن خسرت بعض مالك فسترى من وُتِرَ كل ماله
وجماع القول: أن الإيمان بالقدر أنس المؤمن، وراحة القلب، ولو قيل لك إن الذي يقود مركبةً قائدٌ ماهرٌ لاطمأن قلبك، فكيف وأنت توقن أن الذي يدير الكون ربٌ حكيم، لطيف خبير، لا تخفى عليه الأمور، ويدبر المؤمنين على خير الأمور؟
وإذا رأيت ثمار الإيمان بالقدر، فلا عجب بعد هذا أن يذكر المصطفى -صلى الله عليه سلم- أن سادس أركان الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره.
اللهم صل وسلم على محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي