عندما تذوق لذة العبادة تكون أشواقك وأفراحك بالله، عندما يفرح الناس بالأموال والمناصب، عندما يفرحون بالقصور والدور تفرح أنت بسجدة خاشعة في ليلة ساكنة، وتفرح بدمعة حراء في وقت سحر تناجي فيها ربك، وتسكب دمعك، وتتذلل بين يدي خالقك.. سبحان الله! ما هذا الشوق الذي يستولي على القلب عندما يذوق لذة العبادة وحلاوة الإيمان،.. عندما تذوق طعم العبادة ترى الله في كل شيء في السراء والضراء، ترى في السراء فضله، وترى في الضراء حكمته.. إنها نعمة لا تضاهيها نعمة، ولا توازيها منّة عندما ينشغل الناس بجمع الأموال والثروات وينشغل العبد المؤمن بجمع الأعمال الصالحات والحسنات يلتمس أجرًا هنا، ويلتمس حسنة هناك...
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: مما هو معلوم في عصر كثرت فيه الفتن وعصفت فيه المادة، وطغت فيه الشهوة وتكاثرت فيه المعاصي، ولا بد لكل مسلم في ظل هذه الأحوال من تسليح بما يضادّ صفات هذا العصر الماجنة، فلم تعد المقالات ولا الخطب ولا المواعظ كافية لمواجهة هذا السيل العاتي من طغيان المادة والشهوة وكثرة الفتن والمحن.
لا بد لكل مسلم أن يعيد بناء نفسه وفق منهج خالص يحتوي على جوانب علمية وعملية وبيئية ونفسية وخلقية، منهج يستطيع أن يحافظ على دين المتدين، ويعين السائرين في الطريق إلى الله في سيرهم، منهج يتربى من خلاله المسلم فيتقوى قلبه ويتطهر وتزكو نفسه وتسمو روحه فيصلب في الشدائد ويواجه أعاصير هذا الزمان مواجهة المؤمن القوي صحيح العقيدة سليم القلب.
لقد وُجهت للمسلمين في هذا الزمان سهام كثيرة من كل جانب، من كل جهة؛ من الخارج ومن الداخل، هدفها فصله عن الدين، وتنوعت هذه السهام ما بين سهام شهوات، من صور ذلك إخراج المرأة من حجابها وعفتها، ونشر ثقافة العري والانحلال عبر أفلام ماجنة محطّمة للأخلاق مدمرة للمبادئ ومسلسلات لا تحمل إلا التهتك والتفسخ، وجاءت سهام أخرى في صورة تشويه للدين، ووسمه بالإرهاب ووصف أهله بالتطرف.
تولى كِبَر ذلك أعداء الإسلام الظاهر عدائهم، مستعينين بخدام لهم يتحركون بأمرهم، وينظرون بمنظارهم، فنتج عن ذلك جيل مشتت الفكر لا يعرف أين يضع أقدامه، فهو إما في شهوة تصرفه أو مباراة تشغله، أو فتنة تذهله.
بل تولد عن ذلك أمر في غاية الخطورة، وهو فقدان لذة العبادة عند كثير من الناس إلا من رحم الله، وهذه نتيجة طبيعية للفتن والمحن إذا استولت على القلوب وتملكت النفوس، إن من أعظم المصائب وأشد الرزايا أن تتحول العبادات إلى مجرد طقوس تؤدى دون شعور بمتعة أو إحساس بلذة.
وهذا ما يشتكي منه الكثير من المسلمين اليوم يصلون بلا روح ويصومون بلا إحساس بالمتعة ويحجون دون فهم لأسرار الحج ولا إدراك لمعانيه.
إن المسلم في طريق سيره إلى الله يحتاج أن يحب العبادة ليصبر عليها، ويكثر منها، ويحتاج أن يشعر بلذتها ليتوق إليها، ويتشوق إليها، والمسلم الذي لم يشعر بحب العبادة ولم يذق طعم حلاوتها لن يصبر عليها، ولن يثابر في الثبات عليها، ولقد كان عمله -صلى الله عليه وسلم- كما وصفت عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان عمله ديمة" يعني دائمًا ثابتًا.
وكان عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيح "إذا فعل شيء أثبته"، وقد نصح عبد الله بن عمرو فقال له كما جاء في الصحيحين: "لا تكن كفلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل"؛ إذًا فالمثابرة على العبادة والثبات عليها هو نهج الشريعة وطريق الإسلام، وهذا الثبات لا يمكن تحقيقه ولا الوصول إليه إلا بحب الطاعة والشعور بمعنى العبادة وأثرها.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم أصحابه أن ترتبط العبادة بقلوبهم قبل جوارحهم، فلقد كان -عليه الصلاة والسلام- يقول لبلال -رضي الله عنه-: "أرحنا بالصلاة يا بلال" فليست الصلاة عبادة بدنية أو قولية فحسب، وإنما هي راحة للقلب وإزالة للهم ولذة للروح، بل لقد كان يوجه الناس في الصلاة توجيهات أخرى فيوجه المقبل عليها باستحضار كيانه وقلبه وشعوره ليجعلها ويحسها، وكأنها آخر صلاة له كما قال: "وصلّ صلاة مودع".
ثم ينبهه في داخل صلاته أنها ليس حركات بدنية عبادية فحسب، بل أنها أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد يريد منه أن يستشعر هذا القرب، فصارت الصلاة في توجيهه -صلى الله عليه وسلم- عبادة أخرى غير تلك التي ننقرها اليوم نقرًا أو نؤديها دون استشعار لحلاوتها.. وقل مثل ذلك في سائر الأعمال.
إننا أيها الأحباب في حاجة إلى جيل مؤمن مُحِبّ للطاعة والعبادة شاعر بحاجته لعبادة ربه متلذذ بطاعة مولاه حتى إذا خلى بمحارم الله لم ينتهكها بل أطاع ربه وحيدًا وبين الناس.
وللأسف الشديد نحن أمام جيل قد أهمل أكثره تزكية نفسه، وجهل تطبيق معنى العبودية الحقة، ولم يشعر بمراقبة ربه، فهو جيل يعاني كل المعاناة، فنحن نعلم خطر الذنب وأثره، ومدى سخط الله على مقترفه، ومع ذلك نضعف ونقترف الذنب، ثم نندم ثم نعود إلى الذنب، ثم نندم..
ولا عجب أيها الأحباب أن نعاني ما نعانيه من ضعف أمام الشهوات وسيطرة الغفلة والتنافس، لأننا لم نهتم بسلامة قلوبنا، ولم نسعَ في تذكية نفوسنا، واقتصرنا على ظاهر العبادات دون الغوص في أسرارها، والبحث عن أنوارها، فتكون عندنا نوع من الفصام والازدواجية، تجد الرجل مثلاً يبيع الخمور وتجده في الصف والحج والعمرة، والرجل يتعامل بالربا التي هي حرب على الله ورسوله، ويمر على آية تحريم الربا وتتلى عليه فلا يلقي لها بالاً، وكأن المعنيّ بها غيره.
والسبب أننا لم نصل إلى لذة العبادة التي لو شعرنا بها لضحينا بكل شيء في سبيل مرضاة ربنا جل في علاه.
هذه اللذة التي لما ذاقها سلفنا الأكارم قدموا أرواحهم وأموالهم وقدموا كل ما يملكون من أجل مرضاة ربهم، فكان أن أعلى الله شأنهم، ورفع ذِكرهم وخلّد في الكتاب مدحهم (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 88- 89].
وقولوا لي بربكم: ماذا يكون جواب كل واحد منا إذا عرضنا أنفسنا على قوله تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24].
آية فارقة فاصلة تضع المسلم في مواجهة مع نفسه لقياس درجة إيمانه وحبه لله -عز وجل- فهل الذي ينمّي أمواله من الربا فضَّل هوى نفسه أم مراد ربه؟! وهل الذي يغشّ في تجارته كذبًا وتزويرًا قدَّم مراضي ربه أم قدم هوى نفسه؟! وهل الذي يعصي ربه من أجل إرضاء زوجته وأبناءه هل هذا قدّم مراضي ربه أم قدم هوى نفسه؟!
فالمرابي مثلاً محارب لله ورسوله بنص القرآن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ..)[البقرة: 278- 279].
فكيف لهذا المرابي أن يقول: إنه يحب الله ورسوله، كيف تحارب من تحب؟! يقول الطاهر بن عاشور عند تفسيره لهذه الآية كلامًا نفيسًا يقول: "فإذا حصل التعارض والتدافع بين ما أراده الله من المؤمنين وبين ما تجرّ إليه تلك العلائق وجب على المؤمن دحضها وإرضاء ربه".
ثم يقول رحمه الله: "وقد أفاد هذا المعنى التعبير بكلمة "أحب"؛ لأن التفضيل في المحبة يقتضي إرضاء الأقوى من المحبوبين، ففي هذا التعبير تحذير من التهاون بواجبات الدين مع الكناية عن جعل ذلك التهاون مسببًا على تقديم محبة تلك العلائق على محبة الله، ففيه إيقاظ إلى ما يؤول إليه ذلك من مهواة في الدين وهذا من أبلغ التعبير". انتهى كلامه رحمه الله.
جعلني الله وإياكم ممن ذُكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًّا وجهرًا آمين، آمين والحمد لله رب العالمين..
الحمد لله الذي أذاق من شاء كأس وداده، ووفق من شاء من عباده، فقاموا بين يديه يتلذذون بمناجاته، والصلاة والسلام على إمام المحبين وسيد المرسلين القائل: "وجعلت قُرة عيني في الصلاة" صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين فازوا بحبه وقربه ووداده ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين : عن أي شيء يبحث الناس في هذه الحياة؟ أليس يبحثون عن السعادة؟ أليس يجدون أثر الطمأنينة والراحة المستمرة؟ هل عرفوا طريقها؟ هل وجدوا مفاتيحها؟ هل هي في المال والمناصب والقوة والجاه والسلطة؟ أمر تكذبه الوقائع وتدحضه الأحداث.
إن أعظم المنن وأكمل النعم أن تكون الحياة كلها لله -سبحانه وتعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162].
ما أعظم أن يكون الضعيف مرتبطًا بالقوي! ما أعظم أن يكون العاجز مرتبطًا بالله الذي لا منتهى لكماله ولا حدّ لجلاله! ما أجمل أن يخضع الفقير المعدم للغني القاهر! ما أجمل طعم العبودية إذا سبقت وتجردت لله -سبحانه وتعالى-!
إنه الإيمان الحقيقي الذي أشار إليه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولاً".
ما أعظمه من استقرار! وما أجملها من سكينة عندما ترتبط بالله، عندما تخضع لإلهٍ واحد، عندما ترى الناس يتخبطون ويخضعون للبشر ويعبدون المال، ويتسارعون على الفتات، وأنت حر طليق لا عبودية لك إلا لله -سبحانه وتعالى-.
ترى الناس يلتمسون مناهج الشرق والغرب وأنت عندك منهج الإسلام، ترى الناس يبحثون عن قدوات فارغة تافهة، وأنت قدوتك وأسوتك سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- خير الخلق وحبيب الحق: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
ما أعظم هذه الوحدة التي توحّد وجهتك وقصدك لله -سبحانه وتعالى- خضوعًا وذلة، وعلى الإسلام منهج تحاكم وشريعة حياة، ومع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة تُحتذَى وأسوة تتبع.
ما أعظم هذه الطمأنينة التي تنسكب في القلب (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]، ما أعظمها من لذة لو تفاعل معها الإنسان انفعالاً سابقًا وتشربها تشربًا كاملاً وعاشها، وبقي معها لتحقق له ما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "ثلاث من كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار".
كل هذه المشاعر إنما يغذيها الإيمان، ويجعلها متعة ولذة في هذه الحياة، ولذا قال سلف هذه الأمة عندما تذوقوا هذه الحلاوة قالوا: "والله إننا لفي لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجلدونا عليها بالسيوف".
ذاقوا طعمها، ذاقوا حلاوة الطاعة، ذاقوا حلاوة الصلة بالله، ذاقوا الحلاوة التي لو ذقناها اليوم لخرجنا من هذا الصخب، ومن هذا اللغط الذي يعيشه الناس اليوم، ولتعلقنا بالله وما رضينا بسواه.
هل ذقت أيها المسلم يومًا لذة الخلوة مع الله؟ محرومٌ محروم من لم يذق تلك اللذة، وإن لم يجد ذلك الطعم وإن ملك الدنيا بأجمعها.
سئل الحسن البصري رحمه الله: "ما بال أهل الليل على وجوههم نور؟" المقصود بأهل الليل أهل قيام الليل؛ لأن أهل الليل نوعان.
"ما بال أهل الليل على وجوههم نور؟ قال: لأنهم خلوا بربهم فألبسهم من نوره" سبحانه وتعالى.
فالذي ذاق هذا الطعم ووجد تلكم اللذة لا تزعزعه المحن، ولا تؤثر فيه الفتن، بل يبقى ساكنًا مطمئنًا بوعد الله راضيًا بقضاء الله، يعلمنا ذلك في أجلى صوره سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حدث الهجرة حين أحاط المشركون بالغار فخاف الصدّيق، وقال: "لو نظر أحدهم إلى قدميه لرآنا"، فيجيبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغة الواثق الموصول بالله "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما"؟!
عندما تذوق لذة العبادة تكون أشواقك وأفراحك بالله، عندما يفرح الناس بالأموال والمناصب عندما يفرحون بالقصور والدور تفرح أنت بسجدة خاشعة في ليلة ساكنة، وتفرح بدمعة حراء في وقت سحر تناجي فيها ربك وتسكب دمعك، وتتذلل بين يدي خالقك (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 16- 17]
سبحان الله! ما هذا الشوق الذي يستولي على القلب عندما يذوق لذة العبادة وحلاوة الإيمان فهذا بلال -رضي الله عنه- عندما تحين وفاته تصيح زوجته وتقول واحزناه فيقول "بل يا فرحتاه غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه".
عندما تذوق طعم العبادة ترى الله في كل شيء في السراء والضراء، ترى في السراء فضله، وترى في الضراء حكمته.
يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن".
إنها نعمة لا تضاهيها نعمة، ولا توازيها منّة عندما ينشغل الناس بجمع الأموال والثروات وينشغل العبد المؤمن بجمع الأعمال الصالحات والحسنات يلتمس أجرًا هنا، ويلتمس حسنة هناك، كما كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا لا يتنافسون على الدنيا وحطامها، وإنما كما في حديث أبي ذر -رضي الله عنه- عندما جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ -أهل الدثور يعني أصحاب الأموال- يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ..."، جاءت الحسرة في قلوب الصحابة على ذلك الأجر والثواب الذي لا يستطيعونه؛ لأنهم لا يجدون ما يتصدقون به.
فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مسليًّا لهم وفاتحًا لهم آفاق أبواب من الخير: "قَالَ أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؛ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ..".
فرجع القوم مرة أخرى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله! سمع إخواننا ما قلت ففعلوا مثل ما فعلنا! فقال عليه الصلاة والسلام: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".
مجتمع يتنافس فيه الفقراء والأغنياء على الخيرات، ويتسابقون فيه إلى المكرمات.
أي مجتمع هذا الذي رباه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان القوم إنما كان همهم أن يجمعوا رصيدًا يحظون فيه برحمة الله، ويتأهبون به للقاء الله، ويتأهلون به لنيل رضوانه جلّ في علاه.
إنها السعادة عندما تجد لذة العبادة، عندما تفرّج كربة أخيك المسلم، عندما تنشغل بذكر الله، وتتلذذ بتلاوة آيات الله، إذا انشغل الناس بسفاسف الأمور والأقوال كذبًا وزورًا وغيبة ونميمة.. ما أعظمها من لذة عندما تلهج بذِكْر الله متبعًا وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله"..
وترطب لسانك بتلاوة القرآن والناس ساهون لاهون، وفي غيهم يعمهون، وأنت تثلج صدرك وتطمئن قلبك، وترطب لسانك بتلك الآيات العطرة في صخب هذه الحياة الداوية، في هذه الأعصر التي كثر فيها الباطل.
يقول أحد السلف الكرام، وهو كلام يستحق أن يُكتب بماء العين لنفاسته يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" أتدرون ما هذه الجنة؟ إنها جنة الأنس بالله، إنها جنة التلذذ بعبادة، إنها جنة التمتع بكتاب الله، فهل دخلت هذه الجنة؟ هل وجدت هذه اللذة؟ هل أحسست يومًا بأن سجدة واحدة بين يدي الله خيرًا من الدنيا وما فيها؟ هل أحسست يومًا إحساسًا صادقًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إليك من نفسك ومن كل شيء حولك؟!
فإذا دخلت هذه الجنة فيا سعدك! وإن لم تدخلها فابحث عنها وبادر قبل أن تُبَادَر، وبادر قبل أن تغادر، وابحث عن مفاتيحها.
سنواصل الله إن شاء الله عن مفاتيح تلك اللذة وتلك السعادة.
اللهم أصلح أحوالنا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي