.. وهم أشد على أنفسهم منهم على غيرهم، فينهونها عن أهوائها، ويمنعونها من ظلمها وأخطائها، فهم معها في جهاد؛ خوفاً من رب العباد، وطمعاً في عفوه ومغفرته ورحمته وجوده في الدنيا ويوم المعاد، فإذا تبين لهم أنهم قد فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم فيما دون ذلك ذكروا الله، فخافوا من عواقب مجاهرته بالمعصية، والإصرار أمامه على الخطيئة، فاستغفروا لذنوبهم ..
الحمد لله الذي بلَّغنا رمضان، ويسَّر لنا ما شرع فيه من خصال الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل رمضان موسماً من مواسم الخير، تفتح فيه أبواب الرحمة والجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتصفد فيه الشياطين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الصائمين، وأشرف القائمين، وإمام المتقين المحسنين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا ربكم العظيم، واشكروه إذ بلَّغكم هذا الشهر الكريم، وسلوه -سبحانه- أن يحبب إليكم فعل الخيرات، وأن يعينكم على أداء ما شرع لكم من الطاعات الواجبات، والمستحبات، وعلى ترك المحرمات والمشتبهات؛ لتكونوا من المؤمنين حقًّا، والمتقين صدقاً، قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال:2-4].
وقال -تعالى- في صفة المتقين الذين أعد لهم الجنة: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران:134-136].
فالمقبلون على كتاب الله، المشتغلون بذكره، المطمئنون إليه، المتوكلون عليه، المحافظون على الصلوات في المساجد مع الجماعات، المنفقون ابتغاء وجه الله في سائر الأوقات - هم المحققون للإيمان، الفائزون عند الله بالمغفرة والرزق الكريم، في أعلى درجات الجنان، قد أحسنوا في عبادة الله في فعل أمهات الطاعات؛ الواجبات والمستحبات، وأحسنوا إلى عباد الله في بذل المعروف، وكظم الغيظ، وكف الأذى، وتحمل الأذى ممن يبدر منه الأذى، طمعاً في أن يكونوا من المحسنين المحبوبين عند رب العالمين أرحم الراحمين.
وهم أشد على أنفسهم منهم على غيرهم، فينهونها عن أهوائها، ويمنعونها من ظلمها وأخطائها، فهم معها في جهاد؛ خوفاً من رب العباد، وطمعاً في عفوه ومغفرته ورحمته وجوده في الدنيا ويوم المعاد، فإذا تبين لهم أنهم قد فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم فيما دون ذلك ذكروا الله، فخافوا من عواقب مجاهرته بالمعصية، والإصرار أمامه على الخطيئة، فاستغفروا لذنوبهم؛ لعلمهم أنه لا يغفر الذنوب إلا الله، ولا مفر منه إلا إليه، فانكفوا عن المعصية، وأظهروا لله الندم عليها، وعزموا على عدم العودة إليها، يعلم الله ذلك من قلوبهم، فحلوا عقدة الإصرار، ولزموا الاستغفار، وأتبعوا السيئات بالحسنات؛ طمعاً أن يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً رحيماً؛ فحقق سبحانه لهم المغفرة وأثابهم الجنة.
أيها المسلمون: إن الصيام يحقق للعبد التقوى، ويجعله من ذوي الإحسان؛ فإنه يجتمع للصائم فيه الإقبال على الطاعات، والبعد عن المعاصي والسيئات، والإحسان إلى الناس بتحمل الأذى وكف الأذى، وبذل الندى، فيفوز بجميل العقبى.
أيها الصائمون: اعمروا أوقاتكم بالأعمال الصالحة، فإنها هي التجارة الرابحة، وفرصتها اليوم لكم سانحة، فقد أعطاكم الله المهلة من الزمان، ومكنكم من العمل، وبلغكم رمضان، ورغبكم في خصال الإيمان، فلا تضيعوا هذا الشهر بالسهر في غير طائل، أو فيما يمكن استدراكه في غيره، وتفويت خير النهار بالنوم والكسل، والغفلة عن صالح العمل.
أيها الصائمون: احفظوا صيامكم، فلا تعرضوه لما يفسده أو يخل به، أو يذهب أجره من الأعمال المحرمة والأقوال الآثمة؛ فإن كثيرين من الناس يضيعون أوقاته وشريف لحظاته بمشاهدة سيء الأفلام، وسماع الأغاني وغيرها من محرم الكلام، ومع ذلك يباشرون الغيبة، ولا يتورعون من السعي في النميمة، ومنهم الذين يشهدون الزور، ويرتكبون –والله يراهم- عظائم الأمور، وما أكثر الذين يقبضون أيديهم عن بذلك المعروف (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر:19].
فاتقوا الله -عباد الله- في صيامكم، واشغلوا أوقاته فيما ينفعكم (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89]. اجعلوا هذا الشهر الكريم منطلقاً لكم من أسر الشهوات، ولجاماً لكم عن الوقوع في المحرمات والمشتبهات، وانتصاراً لكم عن النفس الأمارة بالسوء والشياطين الذين يزينون لكم سيء العمل لأجل أن تعصوا الله عز وجل، واعلموا أن الأعمار بمضي الأوقات تطوى، والآجال تدنى، ورب ذي أمل بعيد ومباشر للمعصية عنيد، وملك الموت قد طوى صحيفته، ونظر في وجهه وتهيأ لقبض روحه؛ فليس لكم من أعماركم إلا ما مضى في طاعة الله، وما سواه فهو حسرة وندامة يوم القيامة، فاشكروا الله إذ فسح في الآجال، ومكنكم من صالح الأعمال، ولا تضيعوا الأوقات بالغفلة والتفريط والإهمال، وزينوا صيامكم وقيامكم وتلاوتكم للقرآن بالجود والمال ابتغاء وجه الله، فإن المال عارية مستردة، وليس لكم منها إلا ما أكلتم فأفنيتم، أو لبستم فأبليتم، أو تصدقتم فأمضيتم، وما سوى ذلك فماضٍ عنكم، أو أنتم ماضون، فإن لم يترككم ستتركونه، فانتفعوا منه ما دام بين أيديكم (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي