.. به يعرف حق الله تعالى على عباده، وما للمرء عند ربه يوم معاده، وبه تعرف الأحكام، ويفرق بين الحلال والحرام، وتوصل الأرحام، وهو الباعث على الإخلاص في العمل والإحسان، وهو لكل عمل صالح وكلم طيب أصل وحافظ لاستقامة البنيان، وأفضل مكتسب، وأشرف منتسب، وأنفس ذخيرة تقتنى، وأطيب ثمرة تجنى، ووسيلة لكل الفضائل، وسبب يلحق به المتأخرون بالسابقين الأوائل ..
الحمد لله الذي يفقه من أراد به خيراً في الدين، ويرفع بالعلم درجات العلماء العاملين، فيجعلهم أئمة للمتقين، وهداة للعَاَلَمِين، لما صبروا وكانوا بآياته موقنين، أحمده سبحانه هو الكريم الأكرم، (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:4-5]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الرحيم الرحمن، الذي (عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن:2-4].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أنزل الله عليه الكتاب والحكمة، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيماً (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة:2-4]. صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة المهديين والسادة المقربين، الذين (آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف:157].
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى في جميع أموركم، وتعلموا ما أنزل إليكم من ربكم من الكتاب والحكمة، وتفقهوا فيهما، واعملوا بهما يعلمكم الله ويجعل لكم نوراً تمشون به، ويجعل لكم من أمركم فرقاناً، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم، والله ذو الفضل العظيم؛ فإنهما قد اشتملا على العلم النافع المبارك المثمر لكل عمل صالح، والدال على كل المصالح في الحال والمآل، والموصل إلى رضوان الله وجنته فضلاً من ذي الكرم والجلال (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16].
أيها المسلمون: هَلُمُّوا إلى العلم الموروث عن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- من الكتاب والسنة، فتعلموه واعملوا به، وعلموه أهليكم وذويكم، وادعوا كل من ذهبتم إليه أو جاء إليكم، فإن حاجتكم إليه شديدة، وضرورتكم إليه عظيمة، فأنتم أحوج إليه منكم إلى الشراب والغذاء والدواء والهواء والضياء، فإن به حياة القلوب وانشراح الصدور، وزكاة النفوس ونور البصائر، وبه النجاة من فتن الدنيا وفي البرزخ ويوم تبلى السرائر..
إنه نور يهتدي به في الظلمات، وسبب يتوصل به إلى أنواع الخيرات وجليل القربات، وعون للعبد من ربه على لزوم الطاعات، وترك السيئات وهجر المحرمات والمشتبهات.
به يعرف حق الله تعالى على عباده، وما للمرء عند ربه يوم معاده، وبه تعرف الأحكام، ويفرق بين الحلال والحرام، وتوصل الأرحام، وهو الباعث على الإخلاص في العمل والإحسان، وهو لكل عمل صالح وكلم طيب أصل وحافظ لاستقامة البنيان، وأفضل مكتسب، وأشرف منتسب، وأنفس ذخيرة تقتنى، وأطيب ثمرة تجنى، ووسيلة لكل الفضائل، وسبب يلحق به المتأخرون بالسابقين الأوائل.
أيها المسلمون: تعلموا هذا العلم وأخلصوا لله في طلبه والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه، تنالوا بركته وتجنوا ثمرته، تكونوا لربكم متقين، ولنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وارثين، وبأشرف الحظوظ آخذين، ولطريق الجنة سالكين، فإن من كان كذلك رفعه الله درجات في الدنيا ويوم الدين؛ فجعله من الأئمة الهداة المهديين، وألحقه بمن سلف من الصالحين، وجعل له لسان صدق في الآخرين، وإنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، فمن علم الله في قلبه خيراً أسمعه، ومن اتقى الله في علمه وعمله كان معه، فإنه سبحانه يسمع من يشاء ويهدي من يشاء ويؤتي الحكمة من يشاء (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة:269].
أيها المسلمون: إنما يراد من العلم خشية الله والتقرب إليه بما فيه رضاه، واتقاء سخطه في الدنيا ويوم نلقاه، فكل علم لا يورث صاحبه الخشية ولا يحدث له صالح عمل ومزيد تقوى –فهو تعب على صاحبه في تحصيله وجمعه، وضرره عليه أكبر من نفعه، وحجة من الله تعالى عليه، فالعلم علمان: فعلم في القلب وهو النافع، وعلم على اللسان وذلك حجة الله على ابن آدم، فاطلبوا من العلم ما يورث خشية الله تعالى، ويرغب في الدار الآخرة، ويحجز عن أسباب الردى واتباع الهوى.
أيها المسلمون: إن هذا العلم نور يقذفه الله في قلب العبد إذا رغب تحصيله، وسلك سبيله، وأخلص لله قصده، واستفرغ في طلبه وقته وجهده، فإذا استقر ذلكم النور في القلب صلح به القلب، وانشرح به الصدر، واطمأنت به النفس، فطابت الأقوال، وصلحت الأعمال، وحسنت السريرة، وجملت السيرة، فصار صاحبه إمام هدى يقتدى به إلى آخر الدهر، ولا يعلم إلا الله ما له عنده من كريم الذخر وعظيم الأجر، فتعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فما عبد الله تعالى بعد الفرائض بشيء أفضل من طلب العلم. إن طلبه عبادة، وتعليمه لله خشية، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صاحبه إلى هدى أو يكفه عن سبيل هوى ودركة ردى، وإنما ينتفع به من طلبه لله فعمل به وبذله في عباد الله، فذاك الذي تراه كلما أصاب منه باباً ازداد لله تواضعاً وله خشية، ومنه خوفاً ورهبة، وله رجاء وإليه رغبة، وبه أنساً وله محبة، ولنبيه صلى الله عليه وسلم إيماناً وتصديقاً وتعزيراً وتوقيراً، ولعباد الله تواضعاً ونصحاً ورحمة وشفقة، فذاك الذي علمه في قلبه فهو على نور من ربه.
أيها الناس: إن الله تعالى يرفع بهذا العلم أقواماً فيجعلهم قادة يقتدى بهم في الخير، ويهتدى بهم إلى طريق الجنة، يظهر بهم الدين ويعتز بهم، وتؤثر عنهم السنن، وتقمع بهم البدع، ويهلك بهم أهل الباطل، فهم أئمة أحياء وإن كانوا تحت الثرى. فقد مات أرباب الأموال؛ والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، وأقوالهم مشهورة، وسيرهم مأثورة، فنعم العلم النافع خليل المؤمن، يكسبه الطاعة لربه في حياته وجميل الأحدوثة بعد مماته، عمله موصول، والدعاء له ما بقي الدهر مأمول، ويستغفر له كل شيء، وينتفع ما انتفع من علمه الحي.
فاطلبوا هذا العلم -أيها المؤمنون- تحصلوا على جليل المنافع، وأربح البضائع، لا سيما وقد يسر الله لكم من فضله سبله، وهيأ لكم وسائله، فقد شاع العلم في هذا العصر، وذاع وبلغ ما بلغ الليل والنهار، وأمكن استماعه من سائر الأقطار، بما هيأ الله من الأسباب؛ يسير فوق الرياح، ويسمع في معظم البلدان في الغدو والرواح، يدخل خفي البيوت سائر الأوقات، ويسرح مع الناس في الفلوات، تسمع منها الدروس والخطب والعظات، تعلم بها الفتاوى في الأمور المهمات، فقد والله عظمت الحجة، واتضحت المحجة.
فاذكروا نعمة الله عليكم وجميل إحسانه إليكم، وتذكروا عظيم حقه عليكم، واستعملوا نعم الله في طاعته، ولا تجعلوها وسيلة لمعصيته ومخالفته، ولا تعرضوا عن ذكره فتذوقوا وبال أمره، بل اتبعوا هداه، واتصفوا بتقواه، وتفقهوا في دينه، وانتفعوا من تمكينه، وأنذروا قومكم لعلهم يحذرون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة:122].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي