الحياة الحقيقية

معيض محمد آل زرعة
عناصر الخطبة
  1. تعريف التوبة .
  2. أهميتها .
  3. ثمراتها .
  4. ما يتبعها .
  5. واجبنا تجاه التائبين .
  6. عوائق وأخطاء في باب التوبة .

اقتباس

والسبيل الوحيد، والطريق الصحيح لحل هذه المشاكل، هو طريق التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله -تعالى-؛ فالتوبة هي وظيفة العمر، وهي بداية الحياة الحقيقية، وهي أعلى منازل العبودية. يقول الله -تعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31]...

الخطبة الأولى:

إن الحـمد لله نحمده ونسـتعينه ونسـتغفره ونتوب إليه، ونعـوذ بالله من شرور أنفسـنا وسـيئات أعـمالنا، من يهده الله فلا مضـل له، ومن يضلـل فلا هـادي له.

وأشـهد أن لا إله إلا الله وحـده لا شـريك له، وأشـهد أن نبينا محـمدا عبده ورسـوله، صلى الله  وسـلم وبارك عليه وعلى آله وأصحـابه، والتابعين لهم بإحـسان إلى يوم الدين.

أما بعـد: عـباد الله:  اتقـوا الله -تعالى-، واعـترفوا بذنوبكـم، وتبصروا في عيوبكـم، توبوا إلى الله توبة نصوحـا مادام بابها مفتوحـا، حـافظوا على أوامر الله بالامتثال، وعلى نواهيه بالاجـتناب، وعليكـم بالعمل بتقوى الله حـقيقة، فإنه من يتق الله يجـعل له مخـرجا، أي: مخـرجا من كل شدة.

عباد الله: حديثي إليكم في هذا اليوم المبارك عن (وظيفة العمر)،  ألا وهي التوبة والإنابة.

الأمة في هذا الزمان، وخصوصاً في هذه الفترة، تعيش قلة في البركة، وانتشار الفساد، وكثرة الفتن، وجدب السماء، وقحط الأرض، وفشوّ الربا، وكثرة الأمراض والأوجاع التي لم تكن في أسلافنا.

والسبيل الوحيد، والطريق الصحيح لحل هذه المشاكل، هو طريق التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله -تعالى-؛ فالتوبة هي وظيفة العمر، وهي بداية الحياة الحقيقية، وهي أعلى منازل العبودية. يقول الله -تعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31]. نزلت هذه الآية في الصحابة بعد الهجرة، وبعد التعذيب والتنكيل بهم.

ويقول الله -تعالى-: (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [التوبة:11]، وقال -تعالى- (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].

روى أحمد، والحاكم وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قالت قريش للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا محمد، ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً، فإن أصبح ذهباً اتبعناك؛ فدعا -صلى الله عليه وسلم- ربه، فأتاه جبريل -عليه السلام- فقال: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً، فمن كفر منهم عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال -صلى الله عليه وسلم-: "بل باب التوبة والرحمة".

ومن نعم الله -تعالى- علينا أن الله -تعالى- فتح باب التوبة، وأمرنا بها، ووعدنا بالقبول، مهما عظمت الذنوب والمعاصي؛ ولذلك يقول الله -تعالى- في حق أصحاب الأخدود الذي أحرقوا المسلمين: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) [البروج:10]. يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "انظروا إلى هذا الكرم والجود! قتلوا أولياء الله، وهو مع ذلك يدعوهم إلى التوبة والمغفرة".

يا ترى، ما هي التوبة؟ يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "التوبة هي ندمٌ بالقلب، واستغفارٌ باللسان، وتركٌ بالجوارح". ويقول الراغب -رحمه الله-: "هي ترك الذنب لقبحه، والندم على فعله، والعزيمة على تركه". وقال الجرجاني: "هي الرجوع إلى الله، والقيام بكل حقوقه  -سبحانه وتعالى-". وقال آخر: "هي تدارك ما يمكن تداركه من الأعمال، وأن يكون ذلك قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها".

أيها المؤمنون: أسأل نفسي وإياكم: لماذا نتحدث عن التوبة؟ نتحدث عنها للأسباب التالية:

أولاً: لأن الله -تعالى- أمرنا بالتوبة، ووجب علينا الامتثال لذلك؛ لقوله -تعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

ثانياً: لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمرنا بالتوبة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس، توبوا إلى الله؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم الواحد سبعين مرة"، والله -سبحانه وتعالى- قد زكاه، ورفع مقامه، وعصمه من الذنوب والمعاصي.

ثالثاً: لأن ذنوبنا كثيرة لا تحصى ولا تعد، لا نقول في الليل والنهار؛ بل ربما في كل ساعة.

رابعاً: لأن ذنوبنا دائمة ومتنوعة.

خامساً: لأن الله -تعالى- يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها؛  لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "للجنة ثمانية أبواب، سبعةٌ مغلقة، وبابٌ مفتوح للتوبة، حتى تطلع الشمس من مغربها"، وكما جاء أن مسيرة هذا الباب سبعون سنة.

سادساً: لأن الشيطان واقف بالمرصاد ويجري من ابن آدم مجرى الدم، يأتيه من باب المباحات، ثم من باب الآداب، ثم النوافل، ثم الفرائض، ثم العقيدة، حتى يسيطر الشيطان على العبد.

سابعاً: لأن أصحاب الشر والفساد كُثر، لا كثرهم الله.

ثامناً: لكثرة الشبهات والشهوات في هذا الزمن، مع خطورة الغفلة التي يعيشها كثيرٌ من الناس.

عباد الله: نأتي وإياكم إلى ثمرات التوبة، وتتمثل ثمرات التوبة فيما يلي:

أولاً: إن التوبة فيها امتثال لأمر الله -تعالى-، وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لحديث: "كُلُّ أمتي يدخل الجنة، إلا من أبى"، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "مَن أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".

ثانياً: إن التوبة سببٌ في صلاح النفس، وبالتالي البيت، ثم صلاح المجتمع؛ لذلك، مجتمع الصحابة -رضي الله عنهم- كان من أسعد المجتمعات وهو لا يجد لقمة العيش، ولا يجدون ما يسترون به عوراتهم، وكان الواحد منهم يربط على بطنه الحجر والحجرين من شدة الجوع!.

ثالثا: مغفرة الذنوب والسيئات، وتقلب السيئات إلى حسنات: أتى أعرابي قد كبُر سنه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ما تركت من ذنبٍ إلا فعلتُه، ولو وزعت ذنوبي على أمةٍ لوسعتهم.  فهل لي من توبة؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "تعمل الحسنات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك حسنات"، قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "وغدراتك وفجراتك". فأخذ الرجل يهلل ويكبّر حتى توارى عن القوم.

وأتى رجلٌ الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال له: يا رسول الله، والله ما تركت من حاجة ولا داجة ولا شاردة ولا واردة ولا كبيرة ولا صغيرة إلا فعلتها؛ فهل لي من توبة؟ فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "يا فلان، قل: اللهم إن مغفرتك أوسع من ذنوبي، ورحمتك أرجى عندي من عملي، فاغفر لي"، فقالها الرجل ثلاثاً، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "يا فلان، قم، فقد غفر الله لك"،  فأخذ يهلل ويكبر حتى توارى عن أنظار القوم.

رابعاً: إن الله -تعالى- يفرح بتوبة التائب؛ لقوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:222].

هذا ابن مسعود -رضي الله عنه- لقي رجلا يقال له زاذان، وكان له صوت جميل في الغناء والطرب والحرام، فقال ابن عباس رضي الله عنهما-: "ما أجمل الصوت لو كان في قراءة كتاب الله تعالى!"، فتاب زاذان، فأحبه ابن مسعود لأن الله يحب هذا التائب.

خامساً: التوبة عملٌ صالحٌ، له بياضٌ في الوجه، ونورٌ في القلب، وقوةٌ في البدن، وسعةٌ في الرزق، ومحبةٌ في قلوب الخلق.

أيها المسلمون: تتحقق التوبة باتباع شروطها، وهي على النحو التالي: الإنابة والعودة والفرار إلى الله بإخلاصٍ ومتابعة، والاستسلام لله -تعالى- بفعل ما أمر الله به وترْك ما نهى الله عنه، وتصديق الحق وتطبيق الحكم، والإكثار من الأعمال الصالحة؛ فهي خيرُ زادٍ وأفضلُ لباس، ومداومة العمل والتوبة؛ لأن الذنوب والمعاصي كثيرةٌ ومستمرة، واستعجال التوبة؛ لأن الأجل مجهول فلا ندري متى يكون الرحيل، ولأن الأعمال بالخواتيم، ومعالجة المرض قبل استفحاله أفضل من معالجة المرض بعد استفحاله.

وممّا يتبع التوبة أيضاً إصلاح الماضي بالندم على فعل الذنب، والحزن على ذلك، وفي الحديث: "الندم توبة". كذلك إصلاح الحاضر بالإقلاع عن الذنب، وعلامة ذلك المفارقة الفورية والإقلاع النهائي، وإصلاح المستقبل بالعزم على عدم العودة إلى الذنب، وإذا عاد لفعل الذنب فهذا دليل على أن التوبة كاذبة وباطلة وغير صحيحة.

ومن أشراط التوبة التي تتبعها رد المظالم إلى أهلها، سواء كانت مظالم عينية أو مالية أو أخلاقية، والتحلل من هذه المظالم.

عباد الله: قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على رسول الله. 

وبعد: قد يسأل سائل: ما هو واجبنا تجاه مَن سلك طريق التوبة والرجوع الصادق إلى الله    -تعالى-؟.

عباد الله: يجب علينا تجاه التائب ما يلي: محبته؛ لأن الله يحبه، والدعاء له بالثبات، وزيارته وتعاهده والقرب منه، وأنْ لا نعيّر التائب بماضيه؛ لأن الله -تعالى- ستره فيلزم ستره.

وهناك عوائق للتوبة، وأخطاء في باب التوبة، وهي: التأجيل والتسويف في التوبة، وترك التوبة مخافة الرجوع للذنب والمعصية، ترك التوبة مخافة سخرية الناس ولمزهم، وتوبة الكذابين، وهم الذين يهجرون الذنوب هجراً مؤقتاً لمرض أو مناسبة أو عارض أو خوف، فإذا انتهى السبب رجع إلى الذنوب والمعاصي والعياذ بالله.

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي