الملك يومئذ لله

عبد الله بن محمد البصري
عناصر الخطبة
  1. الدنيا لا تدوم على حال .
  2. كل من عليها فان .
  3. التحذير من الاغترار بالدنيا .
  4. وفاة ملك ومبايعة آخر .
  5. بمبايعة أهل الحل والعقد تلزم البيعة الجميع. .

اقتباس

بَينَا يُرَى الإِنسَانُ فِيهَا مِلءَ السَّمعِ وَالبَصَرِ، يَقُولُ فَيُسمِعُ وَيَأمُرُ فَيُطَاعُ، وَيَصُولُ وَيَجُولُ وَيَجمَعُ وَيَمنَعُ، وَيُغدَا عَلَيهِ بِالنِّعَمِ وَيُرَاحُ، وَيَتَقَلَّبُ في العَافِيَةِ في المَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، إِذَا هُوَ قَد خَمَدَت نَارُهُ وَانطَفَأَت شَمعَتُهُ، وَخَارَت قُوَاهُ وَذَهَبَت هَيبَتُهُ، وَصَارَ مَاضِيًا يُروَى وَخَبَرًا يُتلَى. يَغدُو المَرءُ في مَالٍ وَخَدَمٍ وَقُصُورٍ، فَلا يَرُوحُ إِلاَّ وَهُوَ مِن أَصحَابِ القُبُورِ، أَو تَرَاهُ يَبِيتُ يُفَكِّرُ في الحُطَامِ طَوِيلَ الأَمَلِ، فَلا يُصبِحُ إِلاَّ وَقَدِ وَافَاهُ الحِمَامُ وَانتَهَى الأَجَلُ، فَخَلَّفَ مَا جَمَعَ وَأَفضَى إِلى مَا قَدَّمَ مِن عَمَلٍ...

الخطبة الأولى:

أَمَّا بَعدُ، فَـ(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) [البقرة: 21].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: الدُّنيَا قَصِيرَةٌ وَإِن طَالَت، قَلِيلَةٌ وَإِن كَثُرَت، حَقِيرَةٌ وَإِن تَعَاظَمَت، زَائِلَةٌ وَإِن ظَنَّ أَهلُهَا أَنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيهَا، بَينَا يُرَى الإِنسَانُ فِيهَا مِلءَ السَّمعِ وَالبَصَرِ، يَقُولُ فَيُسمِعُ وَيَأمُرُ فَيُطَاعُ، وَيَصُولُ وَيَجُولُ وَيَجمَعُ وَيَمنَعُ، وَيُغدَا عَلَيهِ بِالنِّعَمِ وَيُرَاحُ، وَيَتَقَلَّبُ في العَافِيَةِ في المَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، إِذَا هُوَ قَد خَمَدَت نَارُهُ وَانطَفَأَت شَمعَتُهُ، وَخَارَت قُوَاهُ وَذَهَبَت هَيبَتُهُ، وَصَارَ مَاضِيًا يُروَى وَخَبَرًا يُتلَى.

يَغدُو المَرءُ في مَالٍ وَخَدَمٍ وَقُصُورٍ، فَلا يَرُوحُ إِلاَّ وَهُوَ مِن أَصحَابِ القُبُورِ، أَو تَرَاهُ يَبِيتُ يُفَكِّرُ في الحُطَامِ طَوِيلَ الأَمَلِ، فَلا يُصبِحُ إِلاَّ وَقَدِ وَافَاهُ الحِمَامُ وَانتَهَى الأَجَلُ، فَخَلَّفَ مَا جَمَعَ وَأَفضَى إِلى مَا قَدَّمَ مِن عَمَلٍ، يَستَوِي في ذَلِكَ المُلُوكُ المُعَظَّمُونَ، وَالسُّوقَةُ المُحتَقَرُونَ، وَالصِّغَارُ وَالكِبَارُ وَالمَشهُورُونَ وَالمَغمُورُونَ (كُلُّ نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ ثُمَّ إِلَينَا تُرجَعُونَ) [العنكبوت: 57].

تِلكُم هِيَ الحَيَاةُ الدُّنيَا - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - مَاءٌ يَجرِي وَزَهرَةٌ نَضِرَةٌ، تَغُرُّ العُيُونَ وَتَخدَعُ الأَبصَارَ، وَتَسحَرُ القُلُوبَ وَتَأخُذُ بِالأَلبَابِ، ثُمَّ مَا تَلبَثُ أَن تَكُونَ حَصِيدًا يَابِسًا، وَكَأَنَّهَا لم تَكُنْ يَومًا حَدِيقَةً غَنَّاءَ تَسُرُّ النُّفُوسَ (إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنيَا كَمَاءٍ أَنزَلنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرضِ مِمَّا يَأكُلُ النَّاسُ وَالأَنعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرضُ زُخرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهلُهَا أَنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيهَا أَتَاهَا أَمرُنَا لَيلاً أَو نَهَارًا فَجَعَلنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لم تَغْنَ بِالأَمسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس: 24].

(وَاضرِبْ لَهُم مَثَلَ الحَيَاةِ الدُّنيَا كَمَاءٍ أَنزَلنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرضِ فَأَصبَحَ هَشِيمًا تَذرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ مُقتَدِرًا)[الكهف: 45]، (اِعلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَينَكُم وَتَكَاثُرٌ في الأَموَالِ وَالأَولَادِ كَمَثَلِ غَيثٍ أَعجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ)[الحديد: 20].

 أَجَل - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - إِنَّ هَذِهِ الدُّنيَا الَّتي يَحتَدِمُ عَلَيهَا صِرَاعُ النَّاسِ، وَبِهَا يَشتَغِلُونَ وَفِيهَا يَتَطَاحَنُونُ، إِنَّمَا هِيَ كَالرَّبِيعِ المَرِيعِ، الَّذِي مَا يَلبَثُ أَن يَيبَسَ وَيَحتَرِقَ، فَتَذرُوهُ الرِّيَاحُ وَتُفَرِّقَهُ، أَو كَامرَأَةٍ حَسنَاءَ مَلِيحَةٍ، تَستَمِيلُ النَّاسَ بِجَمَالِهَا، وَتُهلِكُ الرَّاغِبِينَ في وِصَالِهَا، ثُمَّ مَا تَلبَثُ أَن تَكُونَ عَجُوزًا شَوهَاءَ غَيرَ ذَاتِ حَلِيلٍ، مَكرُوهَةَ المَرأَى وَالشَّمِّ وَالتَّقبِيلِ.

 نَعَم - أَيُّهَا المُؤمِنُونَ - لا تَنفَكُ عَافِيَةُ الدُّنيَا أَن تَؤُولَ إِلى السَّقَمِ، وَشَبَابُهَا أَن يَسُوقَ إِلى الهَرَمِ، وَنَعِيمُهَا أَن يَنتَهِيَ إِلى حَسَرَةٍ وَنَدَمٍ، فَهِيَ خَدَّاعَةٌ مَكَّارَةٌ، طَيَّارَةٌ فَرَّارَةٌ، لا تَزَالُ تَتَزَيَّنُ لِطُلاَّبِهَا، حَتى إِذَا صَارُوا مِن أَحبَابِهَا، كَشَرَت لَهُم عَن أَنيَابِهَا، فَأَذَاقَتهُم قَوَاتِلَ سِمَامِهَا، وَرَشَقَتهُم بِصَوَائِبِ سِهَامِهَا، بَينَمَا أَصحَابُهَا مِنهَا في سُرُورٍ وَإِنعَامٍ، إِذْ وَلَّت عَنهُم كَأَنَّهَا أَضغَاثُ أَحلامٍ، تُمَنِّي أَصحَابَهَا سُرُورًا، وَتَعِدُهُم غُرُورًا، حَتى يَأمَلُونَ كَثِيرًا وَيَبنُونَ قُصُورًا، فَتُصبِحُ قُصُورُهُم قُبُورًا وَجَمعُهُم بُورًا.

 وَتَاللهِ مَا ذُمَّتِ الدُّنيَا بِمِثلِ قَطعِهَا الطَّرِيقَ عَلَى عِبَادِ اللهِ وَأَولِيَائِهِ، وَشَغلِهِم عَنِ التَّزَوُّدِ لِلآخِرَةِ، مَعَ استِدرَاجِهَا أَعدَاءَ اللهِ حَتى يَغتَرُّوا بِهَا، فَيُحَارِبُوا لأَجلِهَا المُؤمِنِينَ وَيُفسِدُوا عَلَيهِم نَعِيمَ طَاعَتِهِم وَلَذَّةَ تَأَلُّهِهِم لِرَبِّهِم.

وَإِذَا كَانَ المَوتُ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَزَوَالُ عَامَّةِ النَّاسِ أَكبَرَ وَاعِظٍ لِمَن كَانَ لَهُ قَلبٌ، فَإِنَّ أَكبَرَ مِنهُ عِظَةً وَتَأثِيرًا، أَنَّ هَذَا المَوتَ لم يَترُكْ حَتى أَعظَمَ النَّاسِ، فَقَد مَاتَ الرُّسُلُ وَالأَنبِيَاءُ، وَمَضَى الصَّحَابَةُ وَالأَولِيَاءُ، وَزَالَ المُلُوكُ وَالأُمَرَاءُ، وَفَنِيَ العُلَمَاءُ وَالوُجَهَاءُ، وَقَضَى الأَغنِيَاءُ وَالأَثرِيَاءُ..

المَنَايَا تَجُوسُ كُلَّ البِلادِ*** وَالمَنَايَا تُبِيدُ كُلَّ العِبَادِ

لَتَنَالَنَّ مِن قُرُونٍ أَرَاهَا *** مِثلَ مَا نِلْنَ مِن ثَمُودٍ وَعَادِ

هَل تَذَكَّرْتَ مَن خَلا مِن بَنِي الأَصْـ ***فَرِ أهْلِ القِبَابِ وَالأَطْوَادِ

هَل تَذَكَّرْتَ مَن خَلا مِن بَنِي سَا*** سَانَ أَربَابِ فَارِسٍ وَالسَّوَادِ

أَينَ دَاوُدُ أَينَ؟ أَينَ سُلَيمَا *** نُ المَنِيعُ الأَعرَاضِ وَالأَجنَادِ

أَينَ نُمرُودُ وَابْنُهُ أَينَ قَارُو*** نُ وَهَامَانُ أَينَ ذُو الأَوتَادِ

كَم وَكَم في القُبُورِ مِن أَهلِ مُلكٍ*** كَم وَكَم في القُبُورِ مِن قُوَّادِ

كَم وَكَم في القُبُورِ مِن أَهلِ دُنيا*** كَم وَكَم في القُبُورِ مِن زُهَّادِ

وَرَدُوا كُلُّهُم حِياضَ المنايَا*** ثُمَّ لم يَصدُرُوا عَنِ الإِيرَادِ

 وَأَبلَغُ مِن نَظمِ كُلِّ شَاعِرٍ وَقَولِ كُلِّ بَلِيغٍ، قَولُ المَولى - تَبَارَكَ وَتَعَالى - : (وَكَم أَهلَكنَا قَبلَهُم مِن قَرنٍ هَل تُحِسُّ مِنهُم مِن أَحَدٍ أَو تَسمَعُ لَهُم رِكزًا)[مريم: 98].

 أَلا فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَاعمَلُوا صَالِحًا يُنجِيكُم مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَاغتَنِمُوا الشَّبَابَ قَبلَ الهَرَمِ، وَالصِّحَّةَ قَبلَ السَّقَمِ، وَالغِنَى قَبلَ الفَقرِ وَالفَرَاغَ قَبلَ الشُّغلِ، وَالحَيَاةَ قَبلَ المَوتِ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم وَاخشَوا يَومًا لا يَجزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَولُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيئًا إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ. إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيثَ وَيَعلَمُ ما في الأَرحَامِ وَمَا تَدرِي نَفسٌ مَاذَا تَكسِبُ غَدًا وَمَا تَدرِي نَفسٌ بِأَيِّ أَرضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[لقمان: 33- 34].

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ، وَأَنِيبُوا إِلَيهِ وَاستَغفِرُوهُ، وَاحمَدُوهُ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيكُم في هَذِهِ البِلادِ مِن نِعمَةِ الأَمنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلامَةِ وَالإِسلامِ.

البِلادُ مِن حَولِكُم في حَربٍ وَضَربٍ، وَاختِلافٍ وَفُرقَةٍ، وَشِقَاقٍ وَنِزَاعٍ، وَأَنتُم في رَغَدٍ مِنَ العَيشِ، قَد كُفِيتُمُ المَؤُونَةَ، وَحُمِلَت عَنكُمُ المَسؤُولِيَّةُ، يَمُوتُ وَلِيُّ أَمرِكُم، فَيُبَايِعُ أَهلُ الحَلِّ وَالعَقدِ لآخَرَ، وَأَنتُم في أَمنِكُم وعلى اطمِئنَانِكُم، لم يَتَغَيَّرْ شَيءٌ مِن حَيَاتِكُم، وَلم يَحدُثْ لَكُم مَا يُكَدِّرُ صَفوَكُم، وَتِلكَ نِعمَةٌ وَأَيُّ نِعمَةٍ ؟! وَمِنحَةٌ وَأَيُّ مِنحَةٍ ؟! حُرِمَهَا كَثِيرُونَ حَولَكُم وَغَيرَ بَعِيدٍ مِنكُم، انحَلَّت حُكُومَاتُهُم، وَثَارَت ثَائِرَتُهُم، وَتَفَرَّقَت كَلِمَتُهُم، وَمَرَّت بِبَعضِهِم سَنَوَاتٌ وَسَنَوَاتٌ، وَهُم في زَعزَعَةٍ وَقَلاقِلَ وَفِتَنٍ وَمِحَنٍ.

 أَلا فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم، وَتَرَحَّمُوا عَلَى مَن فَقَدَتُم، وَبَايِعُوا مَن بَايَعَ لَهُ أَهلُ الحَلِّ وَالعَقدِ، فَقَدِ اتَّفَقَت كَلِمَةُ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، أَنَّهُ لا إِسلامَ إِلاَّ بِجَمَاعَةٍ، وَلا جَمَاعَةَ إِلاَّ بِإِمَامَةٍ، وَلا إِمَامَةَ إِلاَّ بِسَمعٍ وَطَاعَةٍ، وَإِنَّ مِمَّا مَضَت عَلَيهِ كَلِمَةُ المُسلِمِينَ، أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَت وِلايَةُ المَلِكِ، لَزِمَ جَمِيعُ أَهلِ البَلَدِ مُبَايَعَتُهُ، وَالسَّمعُ وَالطَّاعَةُ لَهُ، فَمَن كَانَ مِن أَهلِ الحَلِّ وَالعَقدِ وَالشُّهرَةِ، فَبَيعَتُهُ بِالقَولِ وَالمُبَاشَرَةِ بِاليَدِ إِن كَانَ حَاضِرًا، أَو بِالقَولِ وَالإِشهَادِ عَلَيهِ إِن كَانَ غَائِبًا.

 وَأَمَّا عَامَّةُ النَّاسِ فَهُم تَبَعٌ لأَهلِ الحَلِّ وَالعَقدِ وَالعُلَمَاءِ، قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - : "أَمَّا البَيعَةُ، فَقَدِ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لا يُشتَرَطُ لِصِحَّتِهَا مُبَايَعَةُ كُلِّ النَّاسِ وَلا كُلِّ أَهلِ الحَلِّ وَالعَقدِ، وَإِنَّمَا يُشتَرَطُ مُبَايَعَةُ مَن تَيَسَّرَ إِجمَاعُهُم مِنَ العُلَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ، وَ... لا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَن يَأتِيَ إِلى الإِمَامِ فَيَضَعَ يَدَهُ في يَدِهِ وَيُبَايِعَهُ، وَإِنَّمَا يَلزَمُهُ إِذَا عَقَدَ أَهلُ الحَلِّ وَالعَقدِ لِلإِمَامِ الانقِيَادُ لَهُ وَأَلاَّ يُظهِرَ خِلافًا وَلا يَشُقَّ العَصَا".

وَقَالَ الإِمَامُ القُرطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: "لَيسَ مِن شَرطِ ثُبُوتِ الإِمَامَةِ أَن يُبَايِعَهُ كُلُّ مَن يَصلُحُ لِلمُبَايَعَةِ، وَلا مِن شَرطِ الطَّاعَةِ عَلَى الرَّجُلِ أَن يَكُونَ مِن جُملَةِ المُبَايِعِينَ، فَإِنَّ هَذَا الاشتِرَاطَ مَردُودٌ بِإِجمَاعِ المُسلِمِينَ أَوَّلِهِم وَآخِرِهِم سَابِقِهِم وَلاحِقِهِم".

وَمِن هُنَا نَعَلَمُ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - أَنَّهُ بِمُبَايَعَةِ الوُجَهَاءِ مِن أَهلِ هَذِهِ البِلادِ، مِن أُمَرَاءَ وَعُلَمَاءَ وَأَعيَانٍ، فَقَد ثَبَتَت البَيعَةُ في عُنُقِ الجَمِيعِ، وَوَجَب عَلَيهمُ السَّمعُ وَالطَّاعَةُ، وَحَرُمَ عَلَيهِمُ الخُرُوجُ أَوِ الافتِيَاتُ، وَالبَيعَةُ لَيسَت دِعَايَةُ سِيَاسِيَّةً، وَلَكِنَّهَا حُكمٌ شَرعِيٌّ عَظِيمٌ وَمِيثَاقٌ غَلِيظٌ، أَخرَجَ الإِمَامُ مُسلِمٌ في صَحِيحِهِ أَنَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " مَن خَلَعَ يَدًا مِن طَاعَةٍ، لَقِيَ اللهَ يَومَ القِيَامَةِ لا حُجَّةَ لَهُ، وَمَن مَاتَ لَيسَ في عُنُقِهِ بَيعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ".

 وَفي حَدِيثِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ : "بَايَعنَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّمعِ وَالطَّاعَةِ في العُسرِ وَاليُسرِ، وَالمَنشَطِ وَالمَكرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَينَا، وَأَلا نُنَازِعَ الأَمرَ أَهلَهُ، إِلاَّ أَن تَرَوا كُفرًا بَوَاحًا عِندَكُم مِنَ اللهِ فِيهِ بُرهَانٌ، وَعَلَى أَن نَقُولَ بِالحَقِّ أَينَمَا كُنَّا لا نَخَافُ في اللهِ لَومَةَ لائِمٍ". (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ).

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَاحفَظُوا النِّعَمَ بِشُكرِهَا، وَقَيِّدُوهَا بِطَاعَةِ المُنعِمِ - سُبحَانَهُ - ؛ فَإِنَّهُ مَا أُنعِمَ عَلَى قَومٍ أَو أَهلِ بَلَدٍ بِنِعمَةٍ فَزَالَت عَنهُم، إِلاَّ بِسَبَبٍ مِن أَنفُسِهِم وَكُفرٍ لَهَا (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 53]، (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بما كَانُوا يَصنَعُونَ. وَلَقَد جَاءَهُم رَسُولٌ مِنهُم فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ وَهُم ظَالمُونَ. فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالاً طَيِّبًا وَاشكُرُوا نِعمَةَ اللهِ إِنْ كُنتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ)[النحل: 112- 114].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي