عجيب شأن الابتلاء!! يُبتلى الإنسان بالسراء وسعة العيش، وتوسيع الله على العبد، وراحة البدن وفراغ الذِّهن، وإنَّ الابتلاء بالسراءِ ابتلاءٌ قلَّ من ينجح فيه؛ لأنَّه ابتلاء أمام نعمة الصحة والفراغ.. إنَّ كثيراً من الناس تهون عليه عِبادَةُ الله إذا أصيب بموت قريبٍ، أو نزل به مرض أقعده، أو نزل بعزيز عليه. أو أظهرت التحاليلُ المخبريةُ مرضاً بدأ يدبُّ في جسمه. أو أصيب بحادث مروري تعطلت على إثره حركة بدنه. أو انكسر في تجارةٍ، أو أخفَقَ في تحصيلِ وظيفةٍ، أو لم يوفق في زواج. ولكن ماذا عن عبادة السراء؟ عبادة ساعة الفرج، وأيام الرخاء.. ماذا عن عبادة الشكر.. إنَّ عبادة السراء سبب لنجاة العبد من الورطات، وخلاص له في المهلكات، بل وعصمة له في دينه من الزلات والتلطخ بالفواحش والمنكرات...
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير.
أحمده وقد سبقت رحمته غضبه، وأشكره وقد أسبغ علينا فضله. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد : فاتقوا الله – عباد الله – واعلموا أنَّ هذه الدنيا جُبلت على كدر ونقص، ولا يزال الإنسان يُعاني من نكدها وتعبها منذ لحظاته الأولى، فهو يكابِدُ أحْوالَ الدَّنيا ومشاقَها ومصاعبَها يخرجُ مِن تعب إلى تعب.
ومع هذا جعل الله حبَّ الحياة فطراً في النفوس، والتعلق بها والتزاحم عليها تُرَاق من أجله الدماء وتنزع الرءوس.
إلا أنَّ المؤمنَ راضٍ عَن رَبِّه يَعْلَمُ أنَّ اللهَ يَبْتَلِي بالضَّراء ليرفَعَ بِذلكِ الدَّرجاتِ، ويَحُطَّ عنه بِها مَن الخَطِيئاتِ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "ما يصيب المؤمن من نصب ولا وَصَبَ ولا همٍّ ولا حزن ولا أذى ولا غمٍّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه" (متفق عليه).
وإنَّ الابتلاء كما هو حاصِلٌ بالضَّراءِ ونَكَدِ العيش حاصل كذلك بالسراء.
عجيب شأن الابتلاء.
نعم -أيها الإخوة- يبتلى الإنسان بالسراء وسعة العيش، وتوسيع الله على العبد، وراحة البدن وفراغ الذِّهن (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء: 35].
وإنَّ الابتلاء بالسراءِ ابتلاءٌ قلَّ من ينجح فيه لأنَّه ابتلاء أمام نعمة الصحة والفراغ، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ مِن الناس؛ الصَّحة والفراغ".
وهو ابتلاءٌ أمامَ نعمةِ المالِ، والأولاد والزوجة (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن: 14]، (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال: 28].
إنَّ كثيراً من الناس تهون عليه عِبادَةُ الله إذا أصيب بموت قريبٍ، أو نزل به مرض أقعده، أو نزل بعزيز عليه.
أو أظهرت التحاليلُ المخبريةُ مرضاً بدأ يدبُّ في جسمه.
أو أصيب بحادث مروري تعطلت على إثره حركة بدنه.
أو انكسر في تجارةٍ، أو أخفَقَ في تحصيلِ وظيفةٍ، أو لم يوفق في زواج.
ولكن ماذا عن عبادة السراء؟
عبادة ساعة الفرج، وأيام الرخاء..
ماذا عن عبادة الشكر (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40]، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13].
ولقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- عبادة السراء والضراء من المؤمن متعجباً من حاله فعن أبي يحيى صهيب بن سنان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عجباً لأمرِ المؤمن إنَّ أمره كلَّه له خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له" (رواه مسلم).
فحقّ للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعجب لحال المؤمن حيث لم يضِع له شيء في حياته، فهو بين شكرٍ وصبرٍ.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رجل يا رسول الله: أيُّ الصَّدَقَةِ أعْظَمِ أجْراً؟
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "أنْ تَصَدَّق وأنتَ صَحِيح شَحِيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، وقد كان لفلان" (متفق عليه).
فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الصدقة حال السعة والرخاء أفضل الصدقة؛ لأنَّ النفس تتعلقُ بالمال، وتخافُ الفَقْر.
وإن مما يعِيْنَكَ على عَبادةِ السَّرَّاء أن تنظر إلى الذين فقدوا النعمةَ التي بين يديك.
فنعمةُ المالِ أن تنظر إلى الذين فقدوا هذه النعمة في القريبين منك والبعيدين، والمؤمنون بعضُهم أولياء بعض تنظر إلى هؤلاء كيف تقلقهم لقمةُ العيش، ويحملون همَّ قوتِ من يُعولونَ؟!
فاحمد الله على أنْ كنت أنتَ الأعلى، فإياك أن تصرف مالك تحت أيِّ ظرف، وفي أيِّ مناسبة إلا على وجهه الصحيح (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67]، فلا إسراف ولا تبذير، فهو منفقٌ حيث موضعُ الإنفاق، كريمٌ في موضِعٍ الكَرَم، لا يَسْتجيبُ لدعوةِ سَفيهٍ، ولا إلحاحِ مُلِحِّ فهو مُقْتَصِدٌ في نفقة أولادِه، مُعْتَدِلٌ في شَرائِهِ ونفقاتِ مناسباته، غيرُ مُغالٍ في حَوائِج نفسه، ولا مباهٍ في تأثيثِ بيته، متعبدٌ لله في وضعِ كلِّ قرش في موضعه يَعْلَم أنَّه مَسْؤولٌ عن مالِه مِن أين اكتسبه وفيم أنفقه.
وأما شكر نعمة الصحة فأن تستعملها في طاعةِ الله.
أتدري ما نعمة الصِّحَة؟! إنَّ الصحة هي التاج الذي يضعه الإنسان على رأسه، كما قيل: لا يراه إلا المرضى.
فهل تحسست بدنك يوماً، وتفقدت أطرافك، ثم لاحظت حواسك فلم تر فيها عطباً؟!
ثم هل نعمت عيناك بنوم عميق، وملأت جوفك من طعام لذيذ فهذه بعض أفراد نعمة الصحة؟!
فهل وظفت تلك النعمة في طاعة الله !
هل أجبت أيها الصحيح المعافى داعِيَ الله لهذه الصلوات الخمس؛ حيث ينادى بهنَّ فتشكر بذلك نعمة الصحة فأنت قَوِيّ في سمعك حيث سمعت النداء، وقويّ في عقلك تعلم فرض الصلاة، وعظمها في الدين، وأنَّه لا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وقويٌّ في بدنك تحضر بقوتك إلى المسجد لست بحاجة إلى من يمُسكُ بيدِهِ أو يَشُدُّ في عَضُدِه.
وبمثل هذه تشكر النعمة وتكونُ عبادة السراء.
عباد الله: ولقد كان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أقوم الناس بعبادة السراء؛ كان عبداً شكوراً، يقومُ مِن الليل حتى تتورَمَ قدماه، ويُصَلِّي مواظباً في يومِهِ وليلته على أربعين رَكْعَةً لا يَخُلُّ بها منها سبعةَ عشرَ ركعة فرضاً، والباقي اجتهاد في طاعة الله وشكر في حال السراء لمولاه ….
وفقني الله وإياكم لشكر نعمته والقيام بحسن عبادته.
الحمد لله على إحسانه ..
أيها الإخوة: إنَّ عبادة السراء سبب لنجاة العبد من الورطات، وخلاص له في المهلكات، بل وعصمة له في دينه من الزلات والتلطخ بالفواحش والمنكرات.
إليك أمثلة ثلاثة فعها وتأملها وانقلها:
أما نجاته من الورطات؛ فهذا نبي الله يونس -عليه السلام- التقمه الحوت وبقي في بطنه حتى نادى ربه في الظلمات (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87] .. فأنقذه الله بعبادة السراء..
(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات: 139- 144]، أي: لولا ما كان عليه من العمل الصالح في حال الرخاء، وقيل "المسبحين" أي: المصلين لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة لا يأبه الله به.
وما حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة عن أذهاننا ببعيد، فالذي نجاهم عبادة السراء، فأحدهم كان بارّاً بوالديه، والثاني عفَّ عن الزنا مع قدرته عليه، وثالثهم حفظ الأمانة وأعطى المستأجر حقه فماذا كانت عاقبتَهم؟ الله فرَّج عنهم فانزاحت الصخرة عن فم الغار فخرجوا يمشون بعد موت محقق.
أما أنَّ الله يصرف عن العبد السوء والفحشاء بعبادته حال السراء والسعة؛ فهذا نبي الله يوسف ابن نبي الله يعقوب ابن نبي الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- يقول الله تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24]، أي: أخلصه الله لطاعته. وفي قراءة "المخلِصِين" أي: كان ممن أخلص طاعته لله.
إن التذكير بعبادة السراء متأكد، وأنتم تنعمون بما تنعمون به، فحياتنا حياة السراء.
فاعرفوا قدر النعمة التي أنتم فيها، واعتبروا بما ترونه وتسمعونه.
انفجار يؤدي إلى عشرات القتلى ومئات من الجرح هنا وهناك.
قتل واغتيالات، واعتقالات ومطاردات، وأمور تنهك الأبدان ويشيب لها الولدان، ولكنها كثرت فاستُمرئت، وتكررت فهانت، وتلاحقت..
بمثل هذه الأخبار يُصَبَّح، ويمسي من له أدنى متابعة في وسائل الإعلام، في العراق وفي بلاد الشام، ومصر واليمن، وفي غيرها من بلاد الله شعوب يموج بعضها في بعض فأصبح قتلاهم في الشوارع وجرحاهم امتلأت بهم المستشفيات وأمور مضطربة، وأحوال قلقة.
وأعظم من هذا كله ما قال الله تعالى عنه (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة: 217]، (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة: 191]، إي والله حين تختلط الأمور، ويلبس الباطل بلباس الحق، ويستدل المفسد بأدلة أهل الصلاح والإصلاح، وينزل الكلام على غير محله، والدليل في غير مدلوله، ثم ينسب هذا كله إلى الدين ويصير فتنة لبعض العالمين، وتعمى القلوب التي في الصدور، وتزل قدم بعد ثبوتها.
حينها يكتوي بهذا الزيغ فئام ممن قل علمهم، وكثر خيرهم، ولكن شُبِّه لهم.
فيصير الحليم حيران، ويعجب كل ذي رأي برأيه فلا يقبل من أحد صرفاً ولا عدلاً!!
فتعظم الرزية !! (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83].
والأمور -معاشر الإخوة-، يا طالبي النجاة في الدنيا، والسلامة في الأخرى لها ظاهر وباطن.
وإذا قال الله –تعالى- في السور الذي ضرب بين أهل الإيمان والنفاق (بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) [الحديد: 13].
فإن سور السياسة والخداع العالمي، والتحالف اليهودي النصراني باطنه كظاهره فيه العذاب، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 120].
فنسأل السلامة والعافية من كيد اليهود الحاقدين، وفجور النصارى الظالمين، وتسلط الرافضة المنافقين.
كما نسأله السلامة من أفكار الغلاة الضالين، وشبهة الخوارج المكفرين، وأن يحفظ شباب المسلمين..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي