وتأمل هذا الوحي المبارك والقرآن العظيم الذي أنزل عليه، وتحدَّى الله العرب أن يعارضوه، فقد اشتمل على البلاغة والفصاحة، وتضمن من المغيبات والعجائب الباهرات ما أدهش العرب، وأعجزهم عن معارضته، أو الإتيان بمثله أو بعض صوره.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون: كان الحديث في جمعة ماضية عن وجوب محبة النبي الكريم محمد بن عبدالله -صلوات الله وتسليماته عليه-، وأنها من أصول الإيمان، وبيان المحبة الصادقة له.
واليوم تسمعون -رعاكم الله- بعضًا من الآيات البينات والمعجزات الظاهرات التي أيد الله -سبحانه وتعالى- رسوله محمدًا -صلى الله عليه وعلى وآله وسلم-، فعلم أهل الإسلام بهذه الآيات الخارقات مما يزيدهم إيمانًا وتسليمًا وحبًّا لنبيهم وتعظيمًا، ولقد ذكر أهل العلم أن دلائل نبوته وبراهين رسالته تبلغ ألفًا.
وتأمل هذا الوحي المبارك والقرآن العظيم الذي أنزل عليه، وتحدَّى الله العرب أن يعارضوه، فقد اشتمل على البلاغة والفصاحة، وتضمن من المغيبات والعجائب الباهرات ما أدهش العرب، وأعجزهم عن معارضته، أو الإتيان بمثله أو بعض صوره.
ولهذا جاء في الجامع الصحيح للبخاري والجامع الصحيح للإمام مسلم -عليهما رحمة الله- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: "ما من الأنبياء نبي إلا أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيت وحيًّا أوحاه الله إليًّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة".
أيها المؤمنون بالله -تعالى- وبرسوله -صلى الله عليه وسلم-، مما أعطى الله رسوله من الآيات البينات إسراء الله به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ حيث جمع الله له الأنبياء فصلى بهم إمامًا، قال الله -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الإسراء:1].
بيت المقدس عرج به إلى السماوات العلى، وهناك رأى من آيات ربه الكبرى؛ رأى جبريل على صورته التي خلقها الله عليها، وصعد به إلى سدرة المنتهى، وجاوز السبع الطباق وكلَّمه الرحمن -عز وجل- وقرَّبه وأدناه (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) [النجم: 12- 18].
واستعظم كفار قريش هذا الأمر، ولقد كانت القوافل تمضي المدد الطويلة في الذهاب إلى بيت المقدس والعودة منه، فكيف يتسنى لمحمد -صلى الله عليه وسلم- أن يمضي إلى بيت المقدس، ويرجع في جزء من ليلة، ذلك أمر عجيب، وهو حقًّا عجيب، لكن العجب يتلاشى ويزول إذا علمنا أن الله -عز وجل- هو الذي أسرى به وهو -سبحانه- على كل شيء قدير.
ومن معجزاته -صلى الله عليه وآله وسلم- أن أهل مكة سألوه آية فانشق القمر بإذن الله شقين في ليلة مبدرة حتى رأوا جبل حراء بينهما، قال الله -عز وجل-: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ) [القمر: 1- 6].
وأحاديث انشقاق القمر متواترة أجمع عليها المسلمون، ومن آياته ومعجزاته التي وهبها الله -سبحانه-: تكثير الطعام بإذن الله، وهذا قد وقع منه -صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرة.
فمن ذلك ما جاء عن أنس قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضعيفًا، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ فأخرجت أقراصًا من شعير، ثم أخرجت خمارًا لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت ثوبي وردتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فذهبت به فوجدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم. قال: بطعام؟ قال: فقلت: نعم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن معه: قوموا"، فانطلق.
يقول أنس: وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة، فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس، وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، قال: فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأقبل أبو طلحة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى دخلا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هلمي يا أم سليم ما عندك"، فأتت بذلك الخبز فأمر به فَفُتّ وعصرت أم سليم عكة لها فأدمته، ثم قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما شاء الله أن يقول، ثم قال: "ائذن لعشرة"، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: "ائذن لعشرة"، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال "ائذن لعشرة"، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم أذن لعشرة فأكل القوم كلهم وشبعوا والقوم ثمانون رجلاً. (أخرجه البخاري ومسلم).
ومن آياته التي أعطاه الله إياها أنها انكسرت رِجْل عبد الله بن عتيك -رضي الله عنه- بعدما قتل أبا رافع اليهودي الذي كان يؤذي النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقول عبد الله فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فحدثته بما جرى لي، فقال: "ابسط رِجلك"، فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكِ منها قط.
ومن ذلك: رد عين قتادة بن النعمان، فلقد أُصيبت عينه في غزوة أحد، فردها النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت أحسن عينيه وأحدّهما نظرًا.
وعن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُتي بقصعة فيها طعام بعد صلاة الفجر، فجعل الناس يتعاقبون عليها إلى صلاة الظهر، يقوم قوم إذا شبعوا، ويقعد آخرون فقال رجل لسمرة: أما تمد بشيء؟ قال: فمن أي شيء تعجب؟! ما كانت تمد إلا من هاهنا، وأشار إلى السماء. (رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح).
ومن آياته ومعجزاته تكثيره الماء ونبعه من بين أصابعه الشريفة، روى جابر بن عبدالله قال: "عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين يديه إناء فيه ماء، فتوضأ منه، ثم أقبل الناس نحوه، وقالوا: يا رسول الله ليس عندنا ماء نتوضأ به ونشرب إلا ما في ركوتك، فوضع النبي -صلى الله عليه وسلم- يده في الركوة، أي: في الإناء فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوضأنا، قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: "لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة". (أخرجه البخاري ومسلم).
ومن ذلك تكثيره ماء الحديبية في يوم الحديبية، فقد روى البراء بن عازب قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربع عشر مائة يوم الحديبية، والحديبية بئر فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ، ثم مضمض، ودعا ثم صبه فيها، ثم قال: "دعوها ساعة" فارووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا. (أخرجه البخاري).
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفًا، كنا مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في سفر فقل الماء فقال: "اطلبوا فَضْلَةً من ماء"، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده في الإناء، ثم قال: "حي على الطهور المبارك، والبركة من الله"، ولقد رأيت الماء ينبع من بين أصابعه -صلى الله عليه وسلم-، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يأكل. (أخرجه البخاري في صحيحه).
وعن أنس قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما في السماء قزعة -أي قطعة سحاب- فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمُطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد حتى الجمعة الأخرى.
وقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه، وقال: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وصارت المدينة مثل الْجَوْبَةِ وسال الوادي قناة شهرا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود"، وفي رواية قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية، ومنابت الشجر"، قال أنس: فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس.
ومن ذلك: اهتداء أم أبي هريرة -رضي الله عنهما- بدعوته -صلى الله عليه وسلم-، يقول أبو هريرة كنت أدعو أميَّ إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً، فأسمعتني في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أكره، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام، فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم، فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال: "اللهمَّ اهد أم أبي هريرة " فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فلما جئت، فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف مردود فسمعَتْ أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعتُ خضخضة تحريك الماء، قال: فاغتسلَتْ، ولبسَتْ درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله فأتيته، وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أبشر، قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال خيراً.
ولقد جرى لأبي هريرة -رضي الله عنه- ما حدث به هو حين قال: "والله الذي لا إله إلَّا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض مِن الجوع. وإن كنت لأشدُّ الحجر على بطني مِن الجوع. ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه فمرَّ أبو بكر فسألته عن آية مِن كتاب الله ما سألته إلَّا ليشبعني، فمرَّ ولم يفعل، ثمَّ مرَّ أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم- فتبسَّم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي. ثمَّ قال: يا أبا هر! قلت: لبَّيك رسول الله. قال: الْحَق. ومضى فتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخل فوجد لبنًا في قدح، فقال: مِن أين هذا اللَّبن؟ قالوا: أهداه لك فلان- أو فلانة- قال: أبا هر! قلت: لبَّيك يا رسول الله. قال: الْحَق إلى أهل الصُّفَّة فادعهم لي.
قال: وأهل الصُّفَّة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد. إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هديَّة أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها- فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللَّبن في أهل الصُّفَّة؟ كنت أحقَّ أن أصيب مِن هذا اللَّبن شربة أتقوَّى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني مِن هذا اللَّبن؟! ولم يكن مِن طاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بدٌّ.
فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم وأخذوا مجالسهم مِن البيت. قال: يا أبا هر، قلت: لبَّيك يا رسول الله. قال: خذ فأعطهم. فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرَّجل فيشرب حتى يروى، ثمَّ يردُّ عليَّ القدح حتى انتهيت إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وقد روي القوم كلُّهم.
فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليَّ فتبسَّم، فقال: أبا هر، قلت: لبَّيك يا رسول الله. قال: بقيت أنا وأنت. قلت: صدقت يا رسول الله. قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت. فقال: اشرب. فشربتُ، فما زال يقول: اشرب. حتى قلتُ: لا -والذي بعثك بالحقِّ- ما أجد له مسلكًا. قال: فأرني، فأعطيته القدح، فحمد الله وسمَّى، وشرب الفضلة. صلوات الله وسلامه عليه. (أخرجه البخاري في الصحيح).
ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر قال: سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى نزلنا واديًا أفيح، فذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته فاتبعته بإداوة من ماء فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم ير شيئًا يستتر فإذا شجرتان بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي عليَّ بإذن الله.
فانقادت معه كالبعير المخشوم الذي يصانع قائده حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بعض أغصانها فقال: انقادي علي بإذن الله فانقادت كذلك حتى إذا كان بالمنتصف فيما بينهما فلاءم بينهما حتى جمع بينهما، فقال: التئما عليَّ بإذن الله، فالتأمتا عليه.
فخرجت أحضر مخافة أن يحس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقربي فتباعدت فجلست أحدّث نفسي فحانت مني لفتة، فإذا أنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقبلاً وإذا الشجرتان قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساق"، وذكر الحديث.
الله أكبر يا عباد الله! هكذا يكرم الله رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بانقياد هذه الأشجار له فقط، بل بالشهادة له بالرسالة!! روى الحاكم والترمذي عن علي -رضي الله عنه- قال: كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول: "السلام عليك يا رسول الله"
وجاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال بِمَ أعرف أنك نبي؟ قال: "إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله؟" قال: نعم. فدعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال ارجع فعاد، فأسلم الأعرابي.
وقصة أم معبد مشهورة من حديثها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين مر بها طلب لبنًا أو لحمًا يشترونه وكانوا مرملين مسنتين فلم يجدوا عندها شيئًا قط فنظر إلى شاة في كسر الخيمة خلّفها الجهد عن الغنم، فسألها هل بها من لبن؟ فقالت: هي أجهد من ذلك، فقال: أتأذنين لي أن أحلبها! فقالت بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا.
فدعا بالشاة فاعتقلها ومسح ضرعها فدرت واجترت، ودعا بإناء يُشبع الرهط فحلب حتى ملأه، وسقى القوم حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيه مرة أخرى عللاً بعد نهل، ثم غادره عندها وذهبوا فجاء أبو معبد فلما رأى اللبن قال: ما هذا يا أم معبد؟ أنى لك هذا والشاة عازب حيال ولا حلوبة بالبيت؟! فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك، فقال: صفيه فوصفته له، فقال هذا ما يطلبه قريش.
أيها المسلمون: هذا قليل من كثير مما حفلت به كتب السنة والسيرة من دلائل نبوته ومعجزاته وآياته، وهي -والله بحق- تزيد المؤمن عند سماعها إيمانا وتبرهن على مكانة هذا الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- وعلو منزلته وإن رغمت أنوف الحساد ممن كفر به، ورفض دعوته، فمن رفع الله ذِكره لا يستطيع أحد -مهما أُوتي من قوة- أن يضعه وتأمل كيف أذل الله مبغضيه وكيف أهان مؤذيه، قال -سبحانه-: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر: 3] وقال -سبحانه-: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)[المسد: 1].
وكل من لَمَز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله أو بفعله أو بكتابته فهو منافق خبيث يضع الله قدره ويعذبه في نار جهنم، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا) [الأحزاب:57].
معاشر المسلمين: ومع ما تميز به محمد بن عبدالله رسول الله وخليله -صلوات الله وسلامه عليه- من كريم الخصال وحميد الطباع، وحُسن الخُلق والصدق، والعفة والأمانة، ومع ما أعطاه الله من الآيات دلت على أنه رسول الله حقًّا إلا أن الأمر كما قال الله: (وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ)[يونس: 101]، فوقف في طريق دعوته ومنع دعوته ثلاث طوائف؛ المشركون في مكة الذين حاصروا دعوته، واتهموه بالجنون والسحر حتى أوصلوا الأذى إلى جسده الطاهر، فأذن الله له بالهجرة، فهاجر إلى طيبة الطيبة، وابتعد عن أذى أهل الشرك.
وجاء دور أهل النفاق بالمدينة الذين يظهرون الموافقة، ويبطنون العداء المستحكم، ففضحهم الله في القرآن، وكشف أسرارهم، وهتك أستارهم في سورة براءة والمنافقون والقتال، وغير ذلك، وردهم الله خاسئين، وحمى الله رسوله والمؤمنين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الهادي النصير ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد كما وعد في كتابه وهو الذي لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تقيم وجه صاحبها للدين حنيفًا، وتبرئه من الإلحاد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل المرسلين وأكرم العباد أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره أهل الشرك والعناد نبي رفع الله له ذكره، وكبت من حادّه وشاقه، ولعن المؤذين له في الدنيا والآخرة، وجعل هوانهم بالمرصاد -صلى الله عليه وعلى آله أفضل الصلوات وأعلاها والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: أما الطائفة الثالثة من المعادين له -صلى الله عليه وسلم- والواقفين في طريق دعوته هم البغاة الحسدة والشياطين المردة إخوان الخنازير والقردة اليهود الذين باءوا بغضب من الله وقتلوا أنبياء الله، وهم أشد الناس عداوة لأهل الإيمان، كما قال -سبحانه- (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ)[المائدة: 82]، فلقد كان اليهود قبل بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- يستنصرون بمجيئه على المشركين إذا قاتلوهم يقولون: "سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم".
فلما بُعث الله محمد -صلى الله عليه وسلم- ورأوا أنه من العرب وليس من بني إسرائيل كفروا به حسدًا من عند أنفسهم مع أنهم كما قال الله: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ) [البقرة: 146]، فصفاته في التوراة واضحة (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام: 33].
وعن الإيمان برسله يستكبرون، ولعباده وأهل طاعته يؤذون، وهذا ما فعل اليهود؛ يهود الغدر والخيانة حينما تأمروا على نبي الإسلام، وهذا الدين الحق وشوَّهوا وكذبوا، ولكن الله لا يصلح عمل المفسدين.
وللحقيقة فإن يهود الأمس سلف سيء لخلف أسوأ فما زالوا يسعون بالفساد ويقتلون الأبرياء من الشيوخ والأطفال والنساء على أرض فلسطين المباركة، ويدنسون المسجد الأقصى، ويحاولون هدمه، ويصفون نبي الإسلام ودين الإسلام بأقبح الأوصاف، ويصدرون للعالم الشر والإلحاد وأنواع المغريات والمخدرات أذلهم وأخذاهم وأنزل بهم الذل والهوان.
هذا ولنعلم عباد الله أن مقام نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- مقام عظيم، وأنه ينبغي التحري فيما يقال عنه سواء في الصحافة والإعلام وغيرها، وأن كل من لَمز أو انتقص من مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- ففيه شبه من اليهود.
ولقد ذكر أهل العلم أن كل من سبّ النبي -صلى الله عليه وسلم- من مسلم أو كافر فإنه يجب قتله، حكاه ابن المنذر إجماعًا.
وقال محمد بن سحنون -رحمه الله-: "أجمع العلماء على أن شاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر"، نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول.
ثم قال: "وتحرير القول فيها: أنَّ السابّ إن كان مسلماً فإنه يَكفُرُ ويُقْتَلُ بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم،.. وممن حكى الإجماع على ذلك من الأئمة".
وإن كان ذميا فإنه يقتل أيضًا، وقد نَصَّ أحمدُ على ذلك في مواضعَ متعددة. قال حَنْبَل: سمعت أبا عبدالله يقول: "كلُّ من شتم النبي -صلى الله عليه وسلم- أو تنقَّصه - مسلماً كان أو كافراً - فعليه القتلُ، وأرى أن يُقتل ولا يُستتاب" انتهى.
وعليه -يا عباد الله- فعلينا أن نعرف ما لنبينا -صلى الله عليه وسلم- من المنزلة، وأن نحبه وألا نغلو فيه أو نحدّث بشريعته ما ليس منها، وعلينا أن نَذُبّ عن عِرْضه صلوات الله وسلامه عليه، ونكثر من الصلاة والسلام عليه كما قال ربنا جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي