من أجلّ نعم الله على العبد قدرًا، وأوجبها شكرًا، وأولاها بحسن المجاورة: الثبات وعدم التلون؛ إنها قضية عظيمة خصوصًا في عصر من سماته وقسماته تهييج الشهوات وبث الشبهات، ما كان معروفًا بالأمس صار عند البعض منكرًا، وما كان منكرًا صار معروفًا؛ تسفيهًا للعلماء وتقديمًا للسفهاء.. واتبع أغلب الناس الهوى، وما أدراكم ما الهوى؟! إنه سبب كل بلية وأساس كل رزية، إنه ثلاثة أرباع الهوان، بل هو الهوان لكن سرقت نونه، وما أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، والهوى والهدى لا يجتمعان في قلب صادق أبداً...
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين:
خير ما رآه الذكي العروف وآتاه الأبي العزوف أخذ النفس بالثبات وعدم التلون وحملها على العزة والتصون فكثرة الوجوه والألوان تقدح في صحة الإيمان فدين الله واحد (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153]، فسفّ الرماد ومصّ السماد أولى بالحر من تقمص الهيئات وتبديل الصفات حسب الحالات والأعطيات.
أيها الأحباب: من أجلّ نعم الله على العبد قدرًا، وأوجبها شكرًا، وأولاها بحسن المجاورة: الثبات وعدم التلون؛ إنها قضية عظيمة خصوصًا في عصر من سماته وقسماته تهييج الشهوات وبث الشبهات، ما كان معروفًا بالأمس صار عند البعض منكرًا، وما كان منكرًا صار معروفًا؛ تسفيهًا للعلماء وتقديمًا للسفهاء حتى طال البقل فروع الميس وهبت العنز لقرع التيس.
واتبع أغلب الناس الهوى، وما أدراكم ما الهوى؟! إنه سبب كل بلية وأساس كل رزية، إنه ثلاثة أرباع الهوان بل هو الهوان لكن سرقت نونه، وما أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله والهوى والهدى لا يجتمعان في قلب صادق أبداً.
كان أحدهم يطوف بالبيت وأطلق نظره في امرأة، وأتبع النظرة النظرة، ومال إليها قلبه، وأراد أن يجمع بين الهدى والهوى، أراد أن يجمع بين الهدى بالطواف والهوى بالاستعطاف فقال لها:
أهواها والدين واللذات تعجبني *** فكيف لي بهوى اللذات والدين
فأجابته إجابة حازمة جازمة قائلة:
دع أحدهما تنل الآخر.
نعم أيها الأحباب: صاحب الهوى لا يهدأ أبداً له ألف لون وألف وجه كريشة في أصل شجرة تقلبها الريح ظهرا لبطن.
لذلكم يقول المقداد -رضي الله عنه-: "لا أقول في رجل خيرا ولا شرّا حتى أنظر ما يختم له به بعد شيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، قيل ما سمعت؟ قال: "سمعته يقول: لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا استجمعت غليانًا"، وما سُمّي الإنسان إنسانًا إلا لنسيه، ولا القلب إلا لأنه يتقلب.
التلون آفة وندامة، والثبات حلية وسلامة، فهذا أبو مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- يدخل على حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قائلاً: "أوصنا يا أبا عبد الله" وحذيفة -رضي الله عنه- كما تعلمون هو صاحب سرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال "أما جاءك اليقين؟" قال: بلى وربي، قال حذيفة: "فإن الضلالة حق الضلالة أن تعرف اليوم ما كنت تنكر قبل اليوم، وأن تنكر اليوم ما كنت تعرف قبل اليوم، إياك والتلون فإن دين الله واحد".. كلمات من عسجد لا يفهمها إلا من ركع وسجد، وكان موصولاً بالله على الأبد.
المسلم الصادق الموصول بربه متمسك بدينه، مهما كانت الأحوال مصدر تلقيه الكتاب والسنة منهل عذب سائغ الشراب لمن أراد الثبات بلا ارتياب.
معاشر الأحباب: ونحن نعيش هذا الزمن الذي تعاظمت فيه الفتن ما أحوجنا إلى تذكير إخواننا وأنفسنا ببعض وسائل الثبات على الإيمان حتى نلقى الله -إن شاء الله- في سلام وأمان.
من هذه الوسائل "الصديق الناصح" من قيَّض الله له في زمن الفتنة أخًا صالحًا ناصحًا واعيًا مدركا يعظه ويثبته؛ ثبت -بإذن الله- فوالله ما مال الفتى بذخيرة، ولكن إخوان الثقات الذخائر.
وهذا ديدن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتي الرجل وعليه مخايل الغضب فيقول يا رسول الله أوصني، قال: "لا تغضب"، فكرر مرارًا، قال: "لا تغضب"، قال الرجل ففكرت حين قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله.
انتفع بالنصيحة وحاله: يا قلب إن ملت إلى غيرها ما أنت إلا في ضلال مبين.
وهذا الإمام أحمد -رحمه الله ورضي عنه- ثبت الله به الدين يوم المحنة؛ محنة القول بخلق القرآن، فنصر السنة وقمع البدعة وبنصائح ووصايا من يعرف ومن لا يعرف، ثبته الله كما أخبر رحمه الله.
يقول -رحمه الله-: "لما أُخرجت إلى الخليفة وصرنا إلى الرحبة، وأُنزلنا خارج البيوت مما يلي البرِّيَّة، فعامة من كانوا معي ناموا، وبينا أنا أفكر ماذا أقول إذ مددت بصري فإذا شيء لم أستبنه، فلم يزل يدنوا حتى استبان، فإذا هو رجل عليه ثياب الأعراب، جعل يتخطى المحامل حتى صار إليَّ وسلم، ثم قال: أنت أحمد؟ فسكتُّ تعجبًا.
قال: أنت أحمد بن حنبل؟ فبرك على ركبتيه..
وقال: أنت أبو عبد الله أحمد بن حنبل؟
قلت: نعم.
قال: تحب الله؟
قلت: نعم.
قال: إن أحببت الله أحببت لقاءه. وأشار إلى عنقه قائلاً: أبشر واصبر إنما هي ضربة هاهنا وتدخل الجنة.
ثم مضى حتى غاب فلم أره.
يقول الإمام أحمد: فلما ضُربت بالسياط جعلت أذكر كلام الأعرابي وأنا أُضرب.
فالطيب إن غاب أبقى بعده العبق.
ويثبت الإمام أحمد:
بعزم لو رمى جنبات رَضْوى*** لدُك الطَّوْد وانهدم انهداما.
ويأتي الأعين إلى آدم بن إياس فيقول آدم: "إنا لله وإنا إليه راجعون حبسوا أحمد، وقالوا القرآن مخلوق أعداء الإسلام إذا لقيت أحمد فأقرئه السلام، وقل له: يا هذا، اتق الله، وتقرب إلى الله -تعالى- بما أنت فيه، ولا يستفزنك أحد، فإنك - إن شاء الله- مشرف على الجنة" وقل له: أخبرنا الليث، عن ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أرادكم على معصية الله، فلا تطيعوه"، قال الأعين: "فأتيت أحمد في السجن وأخبرته بما قال، فقال: رحم الله آدم حيا وميتًا، لقد نصح وأحسن النصيحة".
وإذا النصح سار في أمة *** أيقظ الغافي وأحيا الرَّممَا
وسمت أرواحها فانطلقت *** همما تغزو السما والأنجما
قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: "كنتُ كثيرًا أسمع والدي يقول: رحمَ الله أبا الهيثَم, غفرَ الله لأبي الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم, فقلتُ: يا أبت، من أبو الهيثم؟ قال: لا تعرفه؟! قلتُ: لا. قال: أبو الهيثم الحداد، اليوم الذي أخرجتُ فيه للسياط, ومُدت يَداي للعُقابين –الذي تكتف به اليدين- إذا أنا بإنسان يَجذب ثَوبي من وَرائي, ويقول لي: تَعرفني. قلتُ: لا, قال: أنا أبو الهيثم العَيّار, اللِّصّ الطَّرار, مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُربت ثمانيةَ عشر ألف سوط بالتفاريق, وصَبرتُ في ذلك على طاعة الشيطان؛ لأجل الدنيا, فاصبر أنتَ في طاعة الرحمن لأجل الدين".
كلمات تُكتب على جبين الأيام بمداد الفخر، كلمات تُكتب على الحناجر ولو بالخناجر، فيها بدائع ما درى أهل البلاغة ما اسمهن. فالمؤمن ضعيف متضعضع بنفسه قوي ثابت بإخوانه.
وما المرء إلا بإخوانه كما *** تقبض الكف بالمعصم
ولا خير بالكف مقطوعة *** ولا خير الساعد الأجزم
ما أكثر السواعد الجزم في زمننا إلا من رحم الله.
من أسباب الثبات كذلك في أزمنة الفتن مجالسة الصالحين ومجانبة أهل الأهواء الضالين فإن ذلك مثبت على الدين قال رب العالمين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
جالس المتقين واصحبهم وانتفع بصحبتهم في الدنيا والآخرة: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67].
ولله در ابن عطاء الله السكندري: "لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله".
المجالسة باب إلى المجانسة، فمن جالس الثابتين ثبت وما تلون، ومن جالس المتلونين تلون، والجمر يوضع في الرماد فيخمد، والرياح إن مرت على الطيب نقلت الطيب، وإن مرت على النتن -أعز الله وجوهكم- نقلت النتن.
مياه الأنهار عذبة، فإذا دخلت إلى مياه البحار صارت ملحا أجاجا، و"المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"، والناس أجناس كأشكال الطير، الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والكل يحنّ إلى شكله، وإن كان من غير جنسه، العشرة مؤثرة يؤكد ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "السكينة والوقار في أهل الغنم والغلظ والجفاء في الفدَّادين أهل الوبر".
عاشر أولئك الغنم فاكتسبوا منها خُلقا، وعاشر أولئك الإبل فاكتسبوا منها خُلقا، فكيف بمن يعاشر الإنسان وربنا يقول: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28].
ولا مجاورة الأوباش تجمل بي *** كذلك الباز لا يأوي مع الرخم
جعلني الله وإياكم ممن ذُكر فنفعته الذكرى وأخلص لله عمله سرا وجهرا آمين، آمين والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي جعل الصادق الثابت أميرًا والمتلون الخادع حقيرًا، نحمده على نعمه التي تراجع من شكر وتتعاهد من غفل عن حمدها، وتزيد من أدى الواجب وادكر، وتأتي إلى مستحقها تارة بمعنى متقدم، وتارة بمعنى مبتكر، ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة جبلت عليها الجبلة، وقامت عليها الملة وثبتت دعائم أدلتها لما غدت شبه الباطل مضمحلة، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين خلصوا من التلون فأخلصوا، واشتغلوا عن الناس بأنفسهم فما تتبعوا ولا تربصوا، صلاة يتنوع نشرها عطرًا وعلى من سار على نهجه.
معاشر الصالحين: ومما يعين على الثبات في زمن التلون المجاهدة على مخالفة الهوى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]، يقول الإمام ابن القيم -وهذا كلام نفيس كعادة الإمام ابن القيم رحمه الله في سائر كلامه- قال: "إنك إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله -عز وجل- في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وجدتهم إنما نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى:
- فإن الإمام المسلّط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه.
- والشاب المؤثر لعبادة الله على داعي شبابه لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك.
- والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة الهوى الداعي له إلى أماكن اللذات.
- والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه لم يقدر على ذلك.
- والذي دعته المرأة الجميلة الشريفة فخاف الله -عز وجل- وخالف هواه.
- والذي ذكر الله -عز وجل- خاليًا ففاضت عيناه من خشيته إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيل عليهم يوم القيامة.
(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40- 41].
فانظر بعين الحق لا بعين الهوى *** فالحق للعين الجلية عاري
قاد الهوى الفجارَ فانقادوا له *** وأبتْ عليه مقادةُ الأبرار
مما يعين على الثبات وعدم التلون المعاملة الصادقة مع الله، من كان صادقًا مع الله مخلصًا في معاملته ثبَّته الله وأسعده، وسقاه لذيذ الشراب هنا وهناك، فما منهل أعذب من صدق المعاملة مع الله (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
فمن تعامل مع الله بصدق مريد للآخرة مستعليًا عن المطامع الدنية قواه الله وثبته (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) [الإسراء:19]، فمن كان شعاره في تعامله مع مولاه (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ..) [الأنعام: 162- 163]، ثبته الله وما خذله.
في السنن ما معناه أن أعرابيًّا كان في إبله، وهي أنْفَسُ ماله، أتاه عامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الصدقة الواجبة، نظر في الإبل ثم أخبر الأعرابي أنه يجب عليه فيها بنت مخاض، -أتمت سنة ومخضت في الأخرى-، فاستقلها الأعرابي المتعامل مع الله واستصغرها قائلاً: لا والله لا أقدمها لله، لا ظهر فيُركب، ولا ضرع فيُحلب، هذه ناقة كَوْماءُ سمينة، أقدمها لله رب العالمين.
كلمات من لؤلؤ كأنها بسمات للوصل بعد التجني النحل تشرف منها ريحا وتغني.
فقال عامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا آخذ إلا ما وجب عليك بذا أُمرت". فتلاح –تخاصما وتشاجرا- الأعرابي والعامل.
فقال العامل: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منك لقريب. فأخذ الأعرابي ناقته ومضى مع العامل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأخبر العامل نبي الله بما جرى بينهما.
فقال -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي: "ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير من ذلك آجرك الله وقبلناه منك. أطيبةٌ بها نفسك؟"
قال: إي والله يا رسول الله!
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعامل: "خذها"، ثم التفت إلى الأعرابي فقال له: "بارك الله لك في مالك".
فعاش الأعرابي إلى زمن معاوية، وكان يزكي بعدها بالعشرات من الإبل.
عاجل بشرى ومع عند الله خير وأبقى.
وهذا أشعب بن جبير المدني يقول: خرجت يومًا في أحد أزقة المدينة وإذا منادٍ: يا أشعب! قلت: لبيك! قال: كم عدد عيالك؟ فأخبرته. قال: إني أُمِرْت أن أجري عليك وعلى عيالك في كل شهر كذا وكذا ما دمت حيا.
أُمرت! مبني للمجهول.
قال أشعب: فمن أمرك؟ قال: لا أخبرك. قال: هذا معروف يُشكر. "من أسدى إليكم معروفا فكافئوه". فقال الرجل: إن الذي أسداه إليك لا يريد شكرك.
قال: فكان يأتيني في كل شهر ما وعدني به. فلما مات خالد بن عبد الله بن عمر بن عثمان حفَل –احتشدوا- الناس في تشييعه، فكنت فيمن شيَّعه ضمن جمع كبير، ولعله ممن أحبه الله، فوُضع له القبول في الأرض (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) [مريم:96]، تحقيقًا سيجعل لهم الرحمن ودا.
قال: وبينا أنا في الجموع، وإذا بصاحبي الذي يأتيني بما وعدني يقول: يا أشعب؟ قلت لبيك. قال: أتريد أن تعرف صاحبك الذي كان يُجري عليك ما آتيك به؟ قلت: إي والله! قال: هو صاحب هذه الجنازة.
فاعل الخير من وراء حجاب خالد بن عبد الله فلسان حال أشعب "اللهم إنه قد كفانا مؤونة الدنيا فاكفه مؤونة الآخرة".
فإن ذهب الورد الذكي فإنه *** يزول ويبقى نشره المُتضوِّعُ
وإن الفتى ماض وماض طبيبه *** وعائده من بعده والمشيِّعُ
من لا يُرَجّى وهو حي فما *** من حقه إن مات أن يُفقدا
المعاملة الصادقة مع الله -أيها الأحباب- تقتضي ألا تقدم رضا الناس على رضا الله ولو أعطوك المال والمناصب والجاه، المعاملة الصادقة مع الله تقتضي أن تمضي في طريقك غير ملتفت إلى من يحسدك ولا من يمكر بك ولا من يحاول تصغيرك وتحجيمك وتشويهك عند الناس، فوالله لو اجتمع من بين المشرق والمغرب على أن يؤذوك لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلا ما دمت موصولا بالله.
أبى الله إلا رفع أوليائه وليس لما يعليه ذو العرش واضع (إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس: 81]، المعاملة الصادقة مع الله تقتضي ألا تلتفت إلى الناس سواء مدحوا أو قدحوا، فرضا الناس غاية لا تُدرك وكيف تطلب رضا من تؤلمه البقة وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة، مع العلم أنك مهما صنعت وعملت وأنجزت فلن تسلم من الناس، سواء اعتزلت أو خالطت.
ضحكت فقالوا ألا تحتشم***بكيت فقالوا ألا تبتســـــم
بسمت فقالوا يرائي بهــا *** عبست فقالوا بدا ما كتــم
سكت فقالوا كليل اللسان *** نطقت فقالوا كثير الكلم
حلمت فقالوا صنيع الجبان *** ولو كان مقتدرا لانتقم
يقولون شذّ إن قلــت لا ***وإمعة إن وافقتهــــم
فأيقنت أني مهمـــا أرد ***رضا الناس لابد من أن أذم
والمختصر المفيد من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه، وكفاه مؤونة الناس وليكن حالك ومقالك:
وليـت الذي بيـني وبينـك عامر *** وبـيني وبيـن العــالمين خـراب
إذا صـح منك الود فالكل هيـن *** وكـل الذي فوق الـتراب تـراب
وإذا نزلت بك المصيبة أو التبس عندك الحق بالباطل فما بينك وبين النجاة إلا أن تقول كما قال أصحاب الغار حينما سدت الصخرة عليهم باب الغار: اللهم إني فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عني ما أنا فيه، فيأتيك الفرج كفلق الصبح.
مما يعين العبد على الثبات ويحفظه من التلون الحذر من فتنة النساء؛ فقد حذرنا منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم قال: "فاتقوا الدنيا واتقوا النساء"، وقال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء".
ولله در القائل:
يَصرَعنَ ذا اللُّبّ حتى لا حَرَاكَ بهِ *** وهنّ أضعفُ خلقْ اللهِ أركانا
مما يستطرف ويستظرف في هذا الباب أن ملكًا من ملوك اليمن كان مغرمًا بالقيان –بالمغنيات والجواري- وله وزير ينهاه عن ذلك وينصحه ويذكره فتغير الملك على الجواري وكأنه انتفع بنصيحة الوزير.
فقالت جارية لها عنده حظوة: يا مولاي! ما هذا الصدود غير المعهود؟ قال: إن وزيري فلانا نهاني عنكن!
فقالت: هبني له أيها الملك وسترى ما أصنع به!
فدعى وزيره وقال له: وهبتك فلانة ملك يمين.
فقامت تطمعه في نفسها وتتزين له حتى تمكن حبها من قلبه، فخلا بها فتمنعت، وقالت: لا تقربُني حتى أركبك كما تُركب الدواب وتمشي بي خطوات.
وتحت وطأة الشهوة أجابها.
فوضعت على ظهره السَّرْج، وجعلت في رأسه اللجام، وركبته كمـا تركب الدواب، كان يمشي على رجلين فأصبح يمشي يخلق الله ما يشاء.
وطلبت من إحدى الجواري أن تدعو الملك ليرى وزيره الناصح له، فهجم الملك عليه وهو على تلك الحال فقال: مهٍ مَهْ! ما هذا أيها الوزير؟ ألم تنهني عن ذلك؟ وهذا حالك؟
فأجابه الوزير فقال: أيها الملك "من هذا كنت أخشى عليك أيها الملك"!.
ما يفعل السيف المُهَنَّدُ بالفتى *** بأشد من ما تفعل الحسناء
نعم أيها الأحباب: قد يفتن العبد عن دينه ويبيع ضميره وينسى عشرة إخوانه من أجل امرأة، بل سقطت دول وزالت عروش بسبب امرأة، والتاريخ يشهد، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء.
اللهم أصلح أحوالنا..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي