سوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره، وصلح باطنه، فما سُمِع بهذا، ولا عُلم به، وإنما تكون لمن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه، حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند ..
الحمد لله الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، أحمده -سبحانه- خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: إن الله جلت قدرته وتعالت أسماؤه بحكمة بالغة وقدرة باهرة أوجدنا في هذه الدنيا من عدم، أوجدنا فيها لا للدوام والبقاء ولكن للموت والفناء، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:27].
أيها الإخوة: إنه جدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه، ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده أن لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تأهب إلا له.
أيها الإخوة: لقد صار كثير من المتدينين آمنًا من مكر الله وهو لا يشعر ولا يخطر في باله أنه قد يختم له بسوء الخاتمة -والعياذ بالله-، والله الجليل يحذر عباده من الأمن المفضي إلى الخوف غدًا، فقال تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف:99]. وإن الأمن من سوء الخاتمة ليس مما يدعمه الواقع ولا تسنده أخبار الشرع المطهر.
عباد الله: إن الأيام تُطوى، والأهلة تتوالى، والأكفان تنسج، والأعمال تدوَّن، والموعد يقترب، أجيال تفد إلى الدنيا كل يوم، وأجيال ترحل عنها، والغفلة تستحكم على كثير من القلوب؛ حتى غدا أكثر بني آدم يبنون دنياهم ويهدمون أخراهم.
عباد الله: إن نصيب الإنسان من الدنيا ورأس ماله هو عمره، فإن أحسن استغلاله فيما ينفعه في دار القرار ربحت تجارته، وإن أساء استغلاله في المعاصي والسيئات حتى لقي الله على ذلك فهو من الخاسرين، وكم حسرة تحت التراب! والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله، وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سببًا في هلاكه، قال ابن مسعود: "المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه".
وكم من شخص أصر على صغيرة فألفها وهانت عليه ولم يفكر يومًا في عظمة من عصاه، فكانت سببًا في سوء خاتمته، قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها في عهد رسول الله من الموبقات".
وقد نبّه الله في كتابه جميع المؤمنين إلى أهمية حسن الخاتمة، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. وقال -تعالى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99].
عباد الله: وقد حذرنا ربنا من كثرة العصيان والجرأة على حدود الله، حتى لا تحول بين العبد وبين ربه، قال -جل وعلا-: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال:24]، قال مجاهد: "المعنى : يحول بين المرء وعقله، حتى لا يدري ما يصنع".
وحذّرنا -صلى الله عليه وسلم- من أن قلب العبد سريع التقلب لا يستقر على حال، فكان يحلف مذكرًا أصحابه بسرعة تقلّب القلب، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أكثر ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحلف: "لا ومقلب القلوب" [البخاري:7391]، ومعناه: فيقسم بالله الذي يصرّف القلوب ويحولها أسرع من مر الريح، على اختلاف في القبول والرد، والإرادة والكراهية، وغير ذلك من الأوصاف.
ونبهنا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عدم الأمن من مكر الله، والحذر من الاطمئنان المفضي إلى ضياع دين العبد، فكان يطلب من الله -سبحانه- أن يثبت له قلبه، وأنه يصرفه إلى طاعته، وكان يعلّم الصحابة ذلك، فعن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، فقلت: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: "نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلبها كيف شاء" [رواه الترمذي وصححه الألباني:214].
قال العلماء: وإذا كانت الهداية إلى الله مصروفة، والاستقامة على مشيئته موقوفة، والعاقبة مغيبة، والإرادة غير مغالبة، فلا تعجب بإيمانك، وعملك، وصلاتك، وصومك، وجميع قُرَبك، فإن ذلك وإن كان من كسبك، فإنه من خلْق ربك وفضله عليك وخيره، فمهما افتخرت بذلك، كنت كالمفتخر بمتاع غيره، فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف البعير؛ فكم من روضة وربما سلب عنك أمست وزهرها يانع عميم، فأصبحت وزهرها يابس هشيم؛ إذ هبت عليها الريح العقيم، كذلك العبد يمسي وقلبه بطاعة الله مشرق سليم، فيصبح وهو بمعصيته مظلم سقيم؛ ذلك فعل العزيز الحكيم، الخلاق العليم.
أيها الإخوة: والحذر من شدة تسلط الشيطان عند الموت على العبد، فعند الموت تعرض الفتن، وذلك أن إبليس قد يرسل أعوانه إلى هذا الإنسان خاصة، واستعملهم عليه ووكلهم به، فيأتون المرء وهو على تلك الحال، فيتمثلون له في صورة من سلف من الأحباب الميتين، الباغين له النصح في دار الدنيا؛ كالأب والأم، والأخ والأخت، والصديق الحميم، فيقولون له: أنت تموت يا فلان، ونحن قد سبقناك في هذا الشأن، فمت يهودياً فهو الدين المقبول عند الله تعالى، فإن انصرم عنهم وأبى، جاءه آخرون، وقالوا له: مت نصرانياً فإنه دين المسيح، وقد نسخ الله به دين موسى، ويذكرون له عقائد كل ملة، فعند ذلك يزيغ الله من يريد زيغه. (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا..) [آل عمران:8].
فإذا أراد الله بعبده هداية وتثبيتاً، جاءته الرحمة، وقيل: هو جبريل -عليه السلام-، فيطرد عنه الشياطين، ويمسح الشحوب عن وجهه، فيبتسم الميت لا محالة، وكثير من يرى متبسماً في هذا المقام؛ فرحاً بالبشير الذي جاءه من الله تعالى، فيقول: يا فلان أما تعرفني؟ أنا جبريل وهؤلاء أعداؤك من الشياطين، مت على الملة الحنيفية والشريعة الجليلة، فما شيء أحب إلى الإنسان وأفرح منه بذلك الملَك.
أيها المسلمون: إن الخوف من سوء الخاتمة وشر العاقبة كان سلوك السلف الصالح -رضي الله عنهم-، فقد كان أحدهم يعمل الأعمال الصالحة وهو يخاف الله تعالى من أن يختم له بسوء، وما ذاك منهم إلا تواضع وتعظيم للذنوب الصغيرة والزلات النادرة، فجمعوا بين العمل الصالح والخوف من الله تعالى، بعكس المنافقين ومرضى القلوب الذين يجمعون بين سوء العمل والأمن من مكر الله، عياذًا بالله من ذلك.
وقد قطع الخوف من سوء الخاتمة قلوب الصالحين، وروى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة" [مسلم:2651].
وعن سهل بن سعد: "أن رجلاً من أعظم المسلمين غناء عن المسلمين، في غزوة غزاها مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار، فلينظر إلى هذا"، فاتبعه رجل من القوم، وهو على تلك الحال من أشد الناس على المشركين، حتى جرح، فاستعجل الموت، فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه، حتى خرج من بين كتفيه، فأقبل الرجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسرعًا، فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: "وما ذاك؟"، قال: قلت لفلان: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه، وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين، فعرفت أنه لا يموت على ذلك، فلما جرح استعجل الموت فقتل نفسه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، الأعمال بالخواتيم" [البخاري:6607]. وفي رواية: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة" [البخاري:2898]، فلنكن على حذر من الرياء والعمل لغير الله، واحرص -عبد الله- على الإخلاص لله رب العالمين، فالإخلاص سبيل النجاة.
واعلم -عبد الله- أن سوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره، وصلح باطنه، فما سُمِع بهذا، ولا عُلم به، وإنما تكون لمن كان له فساد في العقل، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه، حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيصطلمه الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله، ثم العياذ بالله.
أو يكون ممن كان مستقيماً، ثم يتغير عن حاله، ويخرج عن سننه، فيكون ذلك سبباً لسوء خاتمته، وشؤم عاقبته؛ كبلعام بن باعوراء، الذي آتاه الله آياته، فانسلخ منها بخلوده إلى الأرض، واتباع هواه، وبرصيصا العابد، الذي قال الله في حقه: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الحشر:16].
وعن عثمان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبد، فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها، فقالت له : إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة، عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليّ، أو تشرب من هذه الخمرة كأسًا، أو تقتل هذا الغلام. قال: فاسقيني من هذا الخمر كأسًا، فسقته كأسًا، قال: زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنها -والله- لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه" [رواه النسائي وصححه الألباني:5682].
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "حضرت وفاة أبي أحمد، وبيدي الخرقة لأشد لحييه، فكان يغمى عليه ثم يفيق، ويقول بيده: لا بعدُ لا بعدُ، فعل هذا مراراً، فقلت له: يا أبت أي شيء ما يبدو منك؟ فقال: إن الشيطان قائم بحذائي، عاضّ على أنامله يقول: يا أحمد فُتَّني، وأنا أقول لا بعدُ، لا بعدُ حتى أموت".
وقال مجاهد: ما من ميت إلا تعرض عليه أهل مجالسه الذين كان يجالس، إن كان أهل لهو فأهل لهو، وإن كانوا أهل ذكر فأهل ذكر. قيل لرجل: يا فلان قل: لا إله إلا الله قال: اشرب واسقني.
وقيل لرجل بالأهواز يا فلان قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: عشرة، أحد عشرة، اثنا عشر، كان هذا الرجل من أهل العمل والديوان، فغلب عليه الحساب والميزان.
وقال الربيع: وقيل لرجل ها هنا بالبصرة يا فلان قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول:
يا رب قائلة يوماً وقد تعبت *** أين الطريق إلى حمام منجاب
وهذا الكلام له قصة، وذلك أن رجلاً كان واقفاً بإزاء داره، وكان بابه يشبه باب حمام، فمرت به جارية لها منظر وهي تقول: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فقال لها: هذا حمام منجاب وأشار إلى داره، فدخلت الدار ودخل وراءها، فلما رأت نفسها معه في دار وليس بحمام علمت أنه خدعها، فأظهرت له البشر والفرح؛ باجتماعها معه على تلك الخلوة، وفي تلك الدار، وقالت له: يصلح معنا ما نطيب به عيشنا، وتقر به أعيننا، فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين، وبكل ما تشتهين.
فخرج وتركها في الدار، ولم يقفلها، وتركها محلولة على حالها ومضى، فأخذ ما يصلح لهما ورجع، ودخل الدار فوجدها قد خرجت، وذهبت ولم يجد لها أثراً، فهام الرجل بها، وأكثر الذكر لها، والجزع عليها، وجعل يمشي في الطرق والأزقة، وهو يقول:
يا رب قائلة يوماً وقد تعبت *** أين الطريق إلى حمام منجاب
وإذا بجارية تجاوبه من طاقٍ وهي تقول:
هلا جعلت لها لما ظفرت بها *** حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب
فزاد هيمانه واشتد هيجانه، ولم يزل كذلك حتى كان من أمره ما ذكر، فنعوذ بالله من المحن والفتن.
ومثل هذا في الناس كثير، ممن غلب عليه الاشتغال بالدنيا والهمّ بها، أو سبب من أسبابها، حتى لقد حكي أن بعض السماسرة جاء عنده الموت، فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: ثلاثة ونصف، أربعة ونصف، غلبت عليه السمسرة، وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والجنان الفلانية اعملوا فيها كذا، وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: البقرة الصفراء، لقد غلب عليه حبها، والاشتغال بها، نسأل الله السلامة والممات على الشهادة بمنه وكرمه.
ويروى أنه كان بمصر رجل ملتزم مسجداً للأذان والصلاة، وعليه بهاء العبادة وأنوار الطاعة، فرقي يوماً المنارة على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دار لنصراني ذمي، فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار، فافتتن بها، وترك الأذان، ونزل إليها، ودخل الدار، فقالت له: ما شأنك ما تريد؟ فقال: أنت أريد قالت: لماذا؟ قال لها: قد سلبت لُبّي، وأخذت بمجامع قلبي، قالت: لا أجيبك إلى ريبة، قال لها: أتزوجك قالت له: أنت مسلم وأنا نصرانية، وأبي لا يزوّجني منك، قال لها: أتنصر قالت: إن فعلت أفعل، فتنصر ليتزوجها، وأقام معها في الدار، فلما كان في أثناء ذلك اليوم، رقي إلى سطح كان في الدار، فسقط منه فمات، فلا هو بدينه، ولا هو بها فنعوذ بالله، ثم نعوذ بالله من سوء العاقبة وسوء الخاتمة.
والحكايات في هذا الباب كثيرة، نسأل الله السلامة والعافية والممات على الشهادة، ونسأله -سبحانه- أن يحسن لنا الخاتمة وأن يجعل أسعد أيامنا يوم نلقاه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: أوصيكم بتقوى الله وطاعته، وأحذركم من معصيته ومخالفته.
عباد الله: احذروا الغفلة، فإنها حجاب كثيف يغطي الْقُلُوب، فَلَا ترى مَا وَرَاءه، والغفلة وقر فِي الآذان عَظِيم، فَلَا يسمع من نَاصح نصحه، ثبت من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عَن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- أَنه قَالَ: "يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا ؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح، ثم يقول: ياأهل الجنة خلود فلا موت، وياأهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة -وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا- وهم لا يؤمنون)" [البخاري:4730].
فَانْظُر -رَحِمك الله- إِلَى عَظِيم هَذِه الْغَفْلَة، وكثافة حجابها، كيف منعت من النّظر فِي هَذَا الحَدِيث والفكرة فِيهِ، وَالْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ؟، وَقد بَكَى أولو الْأَلْبَاب على هَذَا فَأَكْثرُوا، وسهروا من أَجله اللَّيَالِي الطَّوِيلَة وأسهروا، ويروى أَن عمر بن الْخطاب -رضي الله عنه- سمع قَارِئًا يقْرَأ : (وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ) [الطور:1-2]، قَالَ: هَذَا قسم حق، فَلَمَّا بلغ القارئ إِلَى قَوْله -عز وَجل- (إِن عَذَاب رَبك لوَاقِع) [الطور:7]، ظن أَن الْعَذَاب قد وَقع بِهِ، فَغشيَ عَلَيْهِ، وَسمع آخر قَارِئًا يقْرَأ (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) [الحاقة:30]، أَو آيَة نَحْوهَا، فَغشيَ عَلَيْهِ.
لقد بكى سُفْيَان الثَّوْريّ لَيْلَة إِلَى الصَّباح، فَقيل لَهُ: أبكاؤك هَذَا على الذُّنُوب؟ فَأخذ تبنة من الأَرْض، وَقَالَ الذُّنُوب أَهْون من هَذِه، إِنَّمَا أبْكِي خوف الخاتمة.
وَقد قيل: لَا تكف دمعك، حَتَّى ترى فِي الْمعَاد ربعك، ولَا تكحل عَيْنك بنوم، حَتَّى ترى حالك بعد الْيَوْم، ولَا تبت وَأَنت مسرور، حَتَّى تعلم عَاقِبَة الْأُمُور، وَقيل: يَا ابْن آدم، الأقلام عَلَيْك تجْرِي، وَأَنت فِي غَفلَة لَا تَدْرِي، يَا ابْن آدم، دع المغاني والأوتار، والمنازل والديار، والتنافس فِي هَذِه الدَّار، حَتَّى ترى مَا فعلت فِي أَمرك الأقدار.
عباد الله: إنَّ خوفَ سوءِ الخاتمة، هو الذي جعل قلوب الصالحين وجلة، راغبة في طاعة الله -عز وجل- فيظل الواحد منهم يعمل بعمل الخائف من ربه الخاشع له، حتى يأتيه ملكُ الموتِ بإحدى البشريين: إما النارَ، وإما الجنَّة، ومن هذا كان خوف أرباب الألباب.
وَاعلم -رَحِمك الله- أَن لسوء الخاتمة أسبابا، وَلها طرق وأبواب، أعظمها: الانكباب على الدُّنْيَا، والإعراض عَن الْأُخْرَى، والإقدام بالمعصية على الله تَعَالَى، وَرُبمَا غلب على الْإِنْسَان ضرب من الْخَطِيئَة، وَنَوع من الْمعْصِيَة، وجانب من الْإِعْرَاض، وَنصِيب من الافتراء، فَملك قلبه، وسَبى عقله، وأطفأ نوره، وَأرْسل عَلَيْهِ حجبه، فَلم تَنْفَع فِيهِ تذكرة، وَلَا نجعت فِيهِ موعظة، فَرُبمَا جَاءَهُ الْمَوْت على ذَلِك.
أيها المسلمون: إن حسن الخاتمة أن يوفق العبد قبل موته للبعد عمَّا يُغضب ربه -سبحانه-، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة. ومما يدل على هذا المعنى ما صحَّ عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله". قالوا: كيف يستعمله؟ قال: "يوفّقه لعمل صالح قبل موته". [الترمذي:2141 وصححه الألباني].
ولحسن الخاتمة علامات كثيرة، وقد تتبعها العلماء باستقراء النصوص: فمنها: النطق بالشهادة عند الموت، ومنها: الموت بعرق الجبين.
ومنها: الموت ليلة الجمعة أو نهارها.
ومنها: الاستشهاد في ساحة القتال، ونحو ذلك.
فتذكروا -رحمكم الله- حلول ساعة الاحتضار بكم، وحاسبوا أنفسكم: ماذا عملتم فيما مضى؟! وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟! وتذكروا: كم ودعتم من إخوة وأحبة وأقربين؟! وكم واريتم في الثرى من أصدقاء وأعزة ومجاورين؟! واعلموا أن الموت الذي تخطاكم إليهم سيتخطى غيركم إليكم؛ فإلى متى الغفلة؟! فأكثروا من تذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد له.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي