إن المؤمن يشعر أنه في هذه الدنيا في سجن حقيقي، ويعلم أنه مجزي على كل ما تحمله في هذا السجن، ولن يضيع عند الله -سبحانه وتعالى- من أجره شيئاً، وسيجد أجوراً عظيماً وجزاء كبيراً مقابل صبره على هذا السجن الذي قيد فيه، ولذلك فإنه تواق إلى لقاء الله...
الحمد لله هذه جعل الآخرة دار المتقين، وجعل الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافرين، والصلاة والسلام على إمام الزاهدين، وقدوة الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ" [مسلم (2956)].
إن هذا الحديث حديث عظيم، نسمع به كثيراً وأشتهر على ألسنة الناس، ولكن قليل منا من يفقه معانيه، ويتأمل ألفاظه، ويسبر أغواره، وحسبنا أنه من كلام المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي أوتي جوامع الكلم.
إن نبينا -صلى الله عليه وسلم- يصف هذه الدنيا الدنيئة الحقيرة الفانية بأنها بالنسبة للمسلم تعتبر سجناً، وبالنسبة للكافر تعتبر جنة يفعل فيها ما يشاء ويتصرف فيها كما يريد. وتأملوا كلمة "سجن" ليضع الواحد منا هذه الكلمة في عقله ويفكر فيها، ماذا تعرف عن السجن؟ وحينما يقال لك فلان مسجون ماذا تتصور عن هذا الإنسان المسجون؟.
إن السجن معروف بحصاره وانغلاقه وحدوده الضيقة، فالمسجون مقيد الحركة، محاصر بين حدود معينة، لا يسمح له بالتحرك خارجها، وليس له من الأمر شيء، وإنما أمره كله مرهون بأمر من أمر بوضعه في ذلك السجن.
والمسجون لابد وأن يتعرض للتضييق والأذى النفسي والحسي، والمادي والمعنوي، وربما يتعداه الأذى إلى غيره من أهله وأقربائه بسببه، ويبتلون تبعاً لابتلائه.
كما أن السجين يعيش في حالة من الكرب والتكبيل والحال الصعب الثقيل، ويتمنى ذلك اليوم الذي يخرج فيه من السجن، حتى ينعم بحياة يسعد فيها ويتنعم بها.
وهكذا المؤمن في الدنيا محاصر فيها لا يستطيع أن يفعل كل ما يريد، ولا يقول كل ما يشاء، وإنما هو مقيد بالأوامر والنواهي، والحلال والحرام، والخير والشر.
إذا أراد أن يفعل الشر، أو يمارس المنكر، أو ينجرف وراء الشهوات والملذات، علم أنه في هذه الدنيا ليس طليقاً فيها، ولم يسمح له بأن يفعل ما يشاء وإنما هو مرهون بأمر الله، فلذلك عندما يعلم أن هذا الأمر حرام حرمه الله ونهى عنه ينتهي عنه مباشرة، ويتركه لوجه الله.
أما الكافر فإنه يرى نفسه حراً طليقاً لا حرام إلا ما حرمه هو على نفسه، ولا منهياً إلا ما ينتهي عنه هو، ولذلك فإنه يمارس الشرور ويفعل المعاصي بكل حرية وطلاقة، دون أن يرى نفسه مقيداً بشيء اسمه حلال أو حرام، أو مباح أو محظور.
يعربد، ويسكر، ويأكل الحرام، ويزني، ويكذب على الناس ويضحك عليهم، ويفعل كل ما بدا له؛ لأنه لا يرى نفسه مقيداً من أحد أو مكلفاً منه، بخلاف المؤمن الذي يرى نفسه مسجوناً في هذه الدنيا بسجن الأوامر والنواهي والتكاليف الشرعية المشروعة والممنوعة.
المؤمن يتذكر دائماً أنه في سجن محصور بين ما شرع له وبين ما نهي عنه، فكلما أرادت نفسه أن تخرج خارج السجن أرجعها وألجمها، وذكّرها بحقيقة هذه الدار التي هي سجن المؤمن وجنة الكافر، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) [الأعراف 200: 202].
هذا هو حال المؤمن، إذا أحس بوسوسة الشيطان وتثبيطه له عن الخير وأمره له بالشر استعاذ بالله منه، والتجأ إلى الله ليحميه من شره ومكره، واعتصم به من وسوسته وبلائه.
ولكن لأن المؤمن في النهاية بشر معرض للنسيان، وواقع في الخطأ لا محالة لأنه ليس بمعصوم، فلذلك كلما أحس بالغفلة أو وقع في الذنب أو رأى أن الشيطان نال منه تذكر ورجع واستغفر، وأبصر حقيقة الدنيا وأنه مسجون فيها، واستدرك ما نقص منه بالتوبة إلى الله وفعل الخير، ليرد شيطانه خاسئا حسيرا، ويفسد عليه كل ما أدركه منه.
وأما إخوان الشياطين وأولياؤهم، فإنهم إذا وقعوا في الذنوب لا تزال بهم شياطينهم تغويهم وتزين لهم الشر، وتمدهم في الغي، حتى توقعهم في الذنب بعد الذنب، ولا يقصرون معهم في ذلك، عبر الإغواء والتضليل؛ لأنها طمعت فيهم حين رأتهم منقادين تابعين، لا يقصرون في فعل الشر، ولا يترددون لحظة واحدة في الوقوع فيه، لأنهم لا يرون أنفسهم في هذه الدنيا مسجونين فيها.
أيها المسلمون: إن السجين يكون تحت الإقامة الجبرية ليس له من أمره شيء؛ بل يكون كالعبد المأمور الذي ليس عليه إلا الانقياد والسمع والطاعة، ولا يجرؤ أبداً على الرد والمخالفة، لأنه يعلم عاقبة مخالفته وعقوبة اعتراضه.
وهكذا المؤمن في سجن الدنيا يعلم أنه عبد لله، مأمور بأوامره، ليس له من الأمر شيء، فالأمر كله لربه، (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران : 154] وما عليه إلا التسليم له والانقياد والطاعة والاذعان.
لا يعترض على أوامر الله، ولا يرد شيئاً جاء به الشرع المنزل من عند الله، ولا يخضع هواه وعقله وذوقه إلا لوحي الله؛ لأنه يعلم أنه في دنياه هذه سجين, والسجين عبد مأمور ليس عليه إلا أن يسمع ويطيع دون اعتراض أو مجادلة.
يقول الله -تبارك وتعالى- وهو يبين الحال الذي يجب على المؤمن أن يكون عليه في هذه الدنيا: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب : 36]. ويقول -جل وعلا-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر : 7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً مباركاً مزيداً.
أما بعد:
عباد الله: كلنا نعلم علم اليقين أن المسجون معرض للأذى والابتلاء، وقد يمر بكُرب عظيمة وأحوال شديدة، وقد تعتريه في سجنه ضغوطات هائلة ومشكلات عسيرة، وما عليه إلا أن يتحمل ويصبر حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً.
وهكذا المؤمن في سجن الدنيا يعلم أنه مبتلى فيها على قدر إيمانه، وسيصيبه من بلائها وشدتها ومصاعبها الشيء الكثير، وسيتعرض فيها لعدد من الابتلاءات والامتحانات حتماً لا محالة، كما قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت 2: 3].
المؤمن في هذا السجن الكبير عليه أن يصبر على طاعة الله، فالعبادات تريد منه صبراً كبيراً حتى يؤديها كما أمر الله، فإن لم يوطن نفسه لأدائها على حسب ما أمُر به فإن حاله لن يكون كحال السجين، وإنما يكون حاله -والعياذ بالله- كحال الكافر المتفسخ الطليق الذي لا يرى أنه مكلف بشيء.
كما أن على المؤمن أيضاً أن يهيئ نفسه على الصبر على المعصية، فلا ينجرف وراءها ببساطة، ولا يقع فيها بسهولة؛ لأنه ممنوع من فعلها، وهو في هذه الدنيا في سجن حرم عليه فيه فعل السيئات.
كما أنه أيضاً معرض في هذه الدنيا لأقدار الله، يصيبه منها ما كُتب عليه منها، وكلما كان إيمانه أكثر كلما كان بلاؤه أشد، فعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً؟ قَالَ: "النَّبِيُّونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، إِنْ كَانَ صُلْبَ الدِّينِ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَدَعَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ " [المستدرك للحاكم (121)].
ولعلنا من هنا نعرف السر في كثرة بلايا المسلمين ومصابهم، وتعرضهم للفتن والمحن والبلايا والرزايا أكثر من غيرهم، وما ذلك إلا لأن هذه الدنيا هي سجنهم الذي يبتلون فيه ويمتحنون بداخله.
أما الكفار فإنهم يعيشون في هذه الدنيا في ترف ونعيم، ورغد من العيش؛ لأنهم ليسوا مقيدين بشيء، فبإمكان الكافر أن يفعل ما يشاء، ويأكل المحرمات، ويأخذ المال الحرام، ويتنعم بما لا يحل التنعم به، ولن يجد غضاضة في فعل أي شيء يرى أنه سيزيده راحة ونعيماً.
وربما يعطي الله بعضهم نعيماً هائلاً، وأموالاً طائلة من هذه الدنيا حتى يتنعمون بها لأنها جنتهم، ثم يوم القيامة يصلون النار ويدخلونها مذمومين مدحورين، مع أن هذا لا يحصل لكل كافر وإنما يحصل لبعضهم فقط، كما قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا) [الإسراء : 18].
إن المؤمن يشعر أنه في هذه الدنيا في سجن حقيقي، ويعلم أنه مجزي على كل ما تحمله في هذا السجن، ولن يضيع عند الله -سبحانه وتعالى- من أجره شيئاً، وسيجد أجوراً عظيماً وجزاء كبيراً مقابل صبره على هذا السجن الذي قيد فيه، ولذلك فإنه تواق إلى لقاء الله، يعشق الموت في سبيل الله، ويحب أن يخرج من هذا السجن ليظفر بالنعيم المقيم والحياة السرمدية الباقية، كما قال تعالى: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يوسف : 57]، وقال: (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [يوسف : 109].
فالله الله -عباد الله- في تقوى الله، والصبر عن محارم الله، وتوطين النفوس على طاعة الله، والبعد عنه معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة، وأن يكون حالنا في هذه الدنيا كالسجناء فعلاً، حتى نخرج منها فنظفر بالآخرة وما فيها من النعيم المقيم والثواب الكبير.
يقول ابن القيم -رحمه الله-:
لا يلهينك منزل لعبت به *** أيدي البلا من سالف الأزمان
فلقد ترحل عنه كل مسرة *** وتبدلت بالهم والأحزان
سجن يضيق بصاحب الإيمان لـ *** ـكن جنّة المأوى لذي الكفران
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟". [مسلم (2858)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم جل جلاله بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم لا تجعل الدنيا اكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا غاية رغبتنا.
اللهم ارزقنا الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي