إن ذكرَ اللهِ -تعالى- كنزٌ لا يعدِلُه كنزٌ مثلُه .. ينفعُك في الدُّنيا .. ويبقى لك في الآخرةِ .. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَاكْنِزُوا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلْبًا سَلِيمًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" .. دعواتٌ نافعاتٌ جامعاتٌ .. وكلماتٌ باقياتٌ صالحاتٌ .. خيرٌ لك من الأموالِ والعَقاراتِ .. وذكرُ اللهِ -تعالى- من كنوزِ الجنَّةِ .. وهو الخيرُ النَّفيسُ الكثيرُ المُجْتَمِع والذي يخفى على كثيرٍ من النَّاس.. فكم فرَّطنا من كنوزٍ ثمينةٍ .. لأجلِ دُنيا مَهِينةٍ...
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71] ..
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيَ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانُ، فَقَالَ: "سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ"، قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: "الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ" .. وهنا قد يسألُ سائلٌ: ما هو الرَّابطُ بين جَبلِ جُمدانَ وبينَ الذَّاكرينَ اللهَ تعالى؟
فيقالُ واللهُ أعلمُ .. قد يكونُ الرَّابطُ بينهما هو التَّثبيتُ .. فكما أن الجِبالَ خلقَها اللهُ –تعالى- أوتاداً لتثبيتَ الأرضِ كما قالَ سبحانَه: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا* وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) [النبأ: 6- 7] .. فكذلك ذكرُ اللهِ -تعالى- من أعظمِ وسائلِ الاستقامةِ والثَّباتِ على العبادةِ والطَّاعاتِ ..
ولذلك أمرَ اللهُ -تعالى- بذكرهِ في أشدِّ المواقفِ التي لا يثبتُ فيها إلا من ثبَّتَه اللهُ -عزَّ وجلَّ- .. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: 45] ..
ولما كانَ أفضلُ الذِّكرِ هو كتابُ اللهِ -تعالى- .. كانَ تدبُّرهُ طريقاً إلى الاستقامةِ والصَّلاحِ.. (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ) [التكوير: 27 - 28]..
وكانتْ تلاوتُه سبباً للثَّباتِ على العبادةِ والفَلاحِ .. (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) [الفرقان: 32]..
ولما جاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قد كثُرتْ عليه العباداتُ.. ويخشى على نفسِه من عدمِ الثَّباتِ .. وكانَ يقولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: "لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ" .. فمن كانَ لسانُه للهِ ذاكراً .. كانَ وقتُه بالخَيراتِ عامراً .. وكانَ على دينِ اللهِ صابراً.
وقد يكونُ الرَّابطُ بينَ الذَّاكرينَ وجُمدانَ .. هو الانفرادُ والاعتزالُ .. فلما كانَ جُمدانُ جبلاً منفرداً عن الجِبالِ، سمَّى النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- الذَّاكرينَ اللهَ -تعالى- بالْمُفَرِّدينَ .. والمُفَرِّدُ هو الذي انفردَ قلبُه ولسانُه بذِكرِ ربَّه ولو كانَ بينَ النَّاسِ .. كما قالَ القائلُ:
وَلَقَدْ جَعَلْتُكَ فِي الْفُؤَادِ مُحَدِّثِي *** وَأَبَحْتُ جِسْمِي مَنْ أَرَادَ جُلُوسِي
فَالْجِسْمُ مِنِّي لِلْجَلِيسِ مُؤَانِسٌ *** وَحَبِيبُ قَلْبِي فِي الْفُؤَادِ أَنِيسِي
وكذلك هم الذَّاكرينَ للكبيرِ المُتعالِ.. فلكثرةِ حبِّهم للهِ -تعالى- وما يجدونَهُ في الذِّكرِ من اللَّذةِ والطُّمأنينةِ والسَّعادةِ .. استأنسوا بأوقاتِ الخَلوةِ واستوحشوا من كثرةِ مُخالطةِ النَّاسِ .. (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191]..
ولذلكَ كانَ لهم من اللهِ أجراً عظيماً .. كما أخبرَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أن من السَّبعةِ الذينَ يُظِلُّهُمُ الله في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ .. "رجلٌ ذكرَ اللهَ خالياً، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ" .. فأصبحَ الذِّكرُ لقلوبِهم مثلَ الماءِ للسَّمكِ .. فكيفَ يكونُ حالُ السَّمكِ إذا فارقَ الماءَ؟
وقد يكونُ الرَّابطُ بينَ الجِبالِ وذِكرِ اللهِ -تعالى- .. هو حُبَّ الجِبالِ للذِّكرِ وما كانَ منها من التَّرديدِ مع نبيِّ اللهِ داوودَ -عليه السَّلامُ- .. قالَ -تعالى-: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ) [الأنبياء: 79] .. وكانَ تَسبيحُها معه في كلِّ الأوقاتِ .. (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالإِشْرَاقِ) [ص: 18] ..
بل إن الجبالَ لتستبشرُ بمنْ يمرُّ عليها من الذَّاكرينَ .. قَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "إِنَّ الْجَبَلَ لَيُنَادِي الْجَبَلَ بِاسْمِهِ: يَا فُلَانُ، هَلْ مَرَّ بِكَ أَحَدٌ ذَكَرَ اللهَ -عزَّ وجلَّ-؟، فَإِذَا قَالَ: نَعَمُ، اسْتَبْشَرَ" .. فوا عجباً أن تكونَ الجبالُ .. أكثرُ حُبَّاً لذكرِ اللهِ -تعالى- من كثيرٍ من الرِّجالِ.
ولعلَّ الرَّابطَ هو السَّبقُ إلى الخَيراتِ في الدُّنيا والآخرةِ .. ففي حديثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- نَسِيرُ بِالدُّفِّ مِنْ جُمْدَانَ إِذِ اسْتَنْبَهَ، فَقَالَ: "يَا مُعَاذُ أَيْنَ السَّابِقُونَ؟"، فَقُلْتُ: قَدْ مَضَوْا وَتَخَلَّفَ أُنَاسٌ .. فكأنَّ جُمدانَ كانَ علامةُ الوصولِ إلى مكةَ ومن وصلَ إليه كانَ سابقاً .. فكذلك الذَّاكرُ للهِ -تعالى- فهو سابقٌ لغيرِه بكثرةِ ذِكرِه للهِ -تعالى- ..
ولذلك لما جاءَ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ –أيْ أهلُ الأموالِ- بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ .. قَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟"، قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلا نُعْتِقُ .. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفَلا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ، إلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟"، قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ .. قَالَ: "تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ: ثَلاثاً وَثَلاثِينَ مَرَّةً" .. فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالُوا: سَمِعَ إخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ .. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ" .. فانظروا كيفَ كانَ هذا الذِّكرُ ثلاثاً وثلاثينَ .. فيه إدراكٌ للأولينَ وسَبقٌ للآخرينَ .. وصدقَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- حينَ قالَ: سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ.
يا أهلَ الإيمانِ ..
إن ذِكرَ اللهِ -تعالى- حصنٌ حصينٌ .. وسورٌ مَتينٌ .. نحتاجُ إليه في هذا الزَّمانِ .. الذي كَثرُ فيه أولياءُ الشَّيطانِ .. فقد جاءَ في حديثِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيَّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا. فَقَالَ عِيسَى: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ وَإِمَّا أَنْ آمُرَهُمْ. فَقَالَ يَحْيَى: أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِي أَوْ أُعَذَّبَ، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَامْتَلَأَ الْمَسْجِدُ وَتَعَدَّوْا عَلَى الشُّرَفِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ–وذكرَ منهنَّ- وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ, فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ, كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ".
اسمع إلى هذا الحديثِ وتخيَّلْ أنك معهم .. خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "مَا أَجْلَسَكُمْ؟"، قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا، قَالَ: "آللَّهِ، مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ"، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ، قَالَ: "أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ- يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ".
وهذا ليسَ خاصاً بالصَّحابةِ رضيَ اللهُ عنهم .. بل في كلِّ قومٍ ذكروا اللهَ -تعالى- في أيِّ زمانٍ ومكانٍ .. يقولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إنَّ للهِ -تعالى- مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فإذا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ -عزَّ وجلَّ-، تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِم إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْألُهُمْ رَبُّهُمْ- وَهُوَ أعْلَم: مَا يقولُ عِبَادي؟ قَالَ: يقولون: يُسَبِّحُونَكَ، ويُكبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، ويُمَجِّدُونَكَ، فيقول: هَلْ رَأَوْنِي؟ فيقولونَ: لا واللهِ مَا رَأَوْكَ، فيقولُ: كَيْفَ لَوْ رَأوْني؟، قَالَ: يقُولُونَ: لَوْ رَأوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا، وأكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، فَيقُولُ: فماذا يَسْألونَ؟ قَالَ: يقُولُونَ: يَسْألُونَكَ الجَنَّةَ، قَالَ: يقولُ: وَهل رَأَوْها؟، قَالَ: يقولون: لا واللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يقول: فَكيفَ لَوْ رَأوْهَا؟، قَالَ: يقولون: لَوْ أنَّهُمْ رَأوْهَا كَانُوا أشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وأشدَّ لَهَا طَلَبًا، وأعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يقولون: يَتَعَوَّذُونَ مِنَ النَّارِ؛ قَالَ: فيقولُ: وَهَلْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يقولون: لا واللهِ مَا رَأوْهَا، فيقولُ: كَيْفَ لَوْ رَأوْهَا؟! قَالَ: يقولون: لَوْ رَأوْهَا كانوا أشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وأشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فيقولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم، قَالَ: يقولُ مَلَكٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ: فِيهم فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ".
وأما إن كُنتَ لوحدِكَ .. فليسَ بينكَ وبينَ أن يَذكرَك اللهُ -تعالى- إلا أن تذكرَه بلسانِك .. يَقُولُ اللَّهُ -تعالى-: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأ خَيْرٍ مِنْهُمْ".
عبادَ اللهِ ..
هل تُصدِّقونَ أن الإنسانَ قد يصلُ إلى أعلى الدَّرَجاتِ .. ويُنافسُ أعظمَ العباداتِ .. ويلقى رِضى ربِّ الأرضِ والسماواتِ .. بتحريكِ لسانِه بكلماتٍ خفيفاتٍ مُبارَكاتٍ .. قَالَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟"، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "ذِكْرُ اللَّهِ -تعالى-".. فلا إله إلا اللهُ .. كلماتٌ باللِّسانِ تُقالُ .. تُنافسُ تضحيَّةَ العبدِ بأغلى ما يملكُه مِنْ نَفسٍ مالٍ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الحمدُ للهِ يتولى الصَّالحينَ، ويُثيبُ الذَّاكرينَ، يذكرُ من ذكرَه، ويزيدُ من شكرَه، أحمدُه سبحانَه وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفرُه، فما خابَ من ذكرَه، وما انقطعَ من شكرَه .. وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه سيِّدُ الذَّاكرينَ، وقُدوةُ الشَّاكرينَ، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وصحبِه المُتَّقينَ .. أما بعد:
فإن ذكرَ اللهِ -تعالى- كنزٌ لا يعدِلُه كنزٌ مثلُه .. ينفعُك في الدُّنيا .. ويبقى لك في الآخرةِ .. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَاكْنِزُوا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلْبًا سَلِيمًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" .. دعواتٌ نافعاتٌ جامعاتٌ .. وكلماتٌ باقياتٌ صالحاتٌ .. خيرٌ لك من الأموالِ والعَقاراتِ .. وذكرُ اللهِ -تعالى- من كنوزِ الجنَّةِ .. وهو الخيرُ النَّفيسُ الكثيرُ المُجْتَمِع والذي يخفى على كثيرٍ من النَّاس.. عَنْ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَلَا أَدُلُّك عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟"، قَالَ: بَلَى، قَالَ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ" .. فكم فرَّطنا من كنوزٍ ثمينةٍ .. لأجلِ دُنيا مَهِينةٍ.
عبادَ اللهِ ..
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَال: "لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ –لا غِرَاسَ فِيها-، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ" ..
وذلك لأن العِبادَ إذا دخلوا الجنّةَ .. أعطوا قَدْراً أدنى من الأشجارِ والثِّمارِ .. ثُمَّ يتفاضلونَ في كثرةِ ما غرسوه في دُنياهم بكثرةِ ذكرِ اللهِ -تعالى- .. فلا تحرمْ نفسَك الفُرصةَ .. فأنتَ في زمنِ الغِراسِ .. وقد جاءَ في الحديثِ: "مَا فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلا وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ" .. وهل تتوقَّعُ أيُّها العبدُ المؤمنُ .. أن اللهَ -تعالى- يغرسُ لك شجرةً في الجنَّةِ ثُمَّ يحرمُك منها؟!
وأما من أرادَ النَّخلَ لجميلِ منظرِه .. وطيبِ ثَمرِه .. فقد قالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ" .. فعجيبٌ أمرَ هذا اللِّسانِ .. الذي قد يُوصلُ صاحبَه إلى عالي الجِنانِ.
اَللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ لِساناً رَطْباً بِذِكْرِكَ، وَقَلْبَاً مُنَعَّماً بِشُكْرِكَ، وَبَدَناً مُسَخَّراً لِطَاعَتَكَ، وَأَعْطِنا جَنَّةً فِيها ما لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ.
اَللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ إيمَاناً دائِماً، وَنَسْأَلُكَ قَلبَاً خاشِعَاً، ونَسْأَلُكَ عِلْمَاً نافِعَاً، وَنَسْأَلُكَ يَقيناً صادِقاً، اللّهم ارزُقْ شَبابَ المُسلمينَ عِفَّةَ يوسفَ عليه السَّلامُ، وبَناتَ المسلمينَ طهارةَ مريمَ عليها السَّلامُ، واحفظ نِساءَ المسلمينَ من شرِّ خَلقِكَ أجمَعينَ ..
اللَّهُمَّ رَبِّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيْهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنَا لِمَا اخْتُلِفَ فِيْهِ مِنَ الحَقِّ بِإذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي