إن سفينة النجاة في الوصول إلى جنات النعيم, والنجاة من نار الجحيم, هي في المحبة والخوف من رب الأرض والسماء؛ تخافه فلا تعصيه, وترجوه فتقبل على طاعته للفوز بجنته، وأنت في هذه الدنيا عبد بين الإحسان والإساءة، فإن أحسنت فاستغفر الله واسأله القبول وإن أسأت فتب إلى الله من ذنبك وأكثر من الطاعات, فإن الحسنات يذهبن السيئات...
الحمدُ للهِ عظيمِ الصِّفاتِ وَالأسماءِ، جَزيلِ البِرِّ وَالعَطاءِ، جعلَ قُلوبَ أوليائِهِ بَيْنَ الخَوْفِ وَالرَّجاءِ، أحمدُهُ -سبحانَهُ- حمداً يملأُ ما بَيْنَ الأرضِ وَالسماءِ، وأشكرُهُ عَلَى عظيمِ الهِبَةِ وَالنَّعْماءِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له المتَفَرِّدُ برِداءِ الكِبْرِياءِ، وَالمُتَوَحِّدُ بصِفاتِ المجْدِ وَالعَلاءِ، وأشهدُ أنْ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صَفْوَةُ الخَلْقِ وسَيِّدُ الأنبياءِ، عَطَّرَ أَرِيجُ شَمائِلِهِ الأَرْجاءَ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ السَّادَةِ الأتْقِياءِ، أُولِي الفَضْلِ وَالثَّناءِ، وعَلَى مَنْ تَبِعَهم بإحْسانٍ إلى يَوْمِ النِّداءِ.
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتدبروا كتابه فقد حثكم على فعل الطاعات وبيّن لكم ثوابها وثمراتها لتكثروا منها، ونهاكم عن المعاصي وبيّن لكم عقابها وآثارها الضارة لتجتنبوها، كما أنه وصف لكم الجنة وما فيها من النعيم والفوز المقيم لتعملوا لها، ووصف لكم النار وما فيها من العذاب الأليم والهوان المقيم لتحذروا الأعمال الموصلة إليها، وهكذا القرآن يربي العبد المؤمن بين المحبة والخوف، فكثيرًا ما نجد آيات الوعد إلى جانب آيات الوعيد، وذكر الجنة إلى جانب ذكر النار؛ ليكون العبد دائمًا بين محبة الله والخوف منه, لا يأمن من عذاب الله ولا ييأس من رحمة الله.
أيها الإخوة: عبادة الله -عزَّ وجلَّ- تقوم على أصلين هما: المحبة, والخوف. وإن حب المؤمن الموحد المحسن لله تعالى مقرون بالإجلال والتعظيم، إنه حب المملوك لمالكه، حب العبد لسيده، حب المخلوق المقهور الضعيف لله الواحد القهار, حب الضعيف لمن لا يستغني عنه طرفة عين، ولذلك فإن المحبين الصادقين هم في مقام موزون بين المحبة والخوف.
فرجاؤهم ومحبتهم معلقان برحمة الله تعالى ولا يخافون إلا الله, هم أشد الناس خوفًا من الله تعالى، وقد جمع الله تعالى أركان هذا المقام الإيماني الإحساني الرفيع في وصفه للملائكة المقربين, والأنبياء المرسلين والصالحين العابدين, فقال -جل جلاله-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) [الإسراء: 57]، ومن هذه الآية نفهم أن العبد يتنقل ويقطع مراحل الحياة إلى ربه -سبحانه- بين المحبة والخوف, فيبقى المسلم مطمئناً ومتيقظاً، يحدوه الأمل والرجاء في رحمة الله ومغفرته, وهو مع ذلك يخشى ويخاف من الله –سبحانه-، وهذا هو المنهج الوسط العدل.
فبالمحبة يكون امتثال الأمر, وبالخوف يكون اجتناب النهي، وينبغي أن يكون خوف العبد في حال الصحة أكبر من الرجاء؛ ليعمل الصالحات ويعبد رب الأرض والسماوات، وعند الموت يُغلِّب جانب الرجاء على الخوف؛ ليحسن الظن بالله، ويحسن القدوم على الله، والله نسأل حسن الختام.
عباد الله: لا ينبغي للعبد الموفق أن يغفل عن أهمية أعمال القلوب؛ لأنها تبعث على الأعمال الصالحة، وتُرغِّب في الدار الآخرة، وتزجُر عن الأعمال السيئة، وتُزهِّدُ في الدنيا، وتكبَحُ جماحَ النفس العاتية، ومن أعمال القلوب: المحبة لله -سبحانه- وحسن الرجاء فيه، والخوف من الله، والتوكل والثقة واليقين....إلخ.
أيها الإخوة: إن الخوف من الله تعالى سائقٌ للقلب إلى فعل كل خير، وحاجزٌ له عن كل شرٍّ، والرجاءُ قائدٌ للعبد إلى مرضاة الله وثوابه، وباعثٌ للهِمَم إلى جليل صالح الأعمال، وصارفٌ له عن قبيح الفِعال, والخوفُ من الله مانعٌ للنفس عن شهواتها، وزاجرٌ لها عن غيِّها، ودافعٌ لها إلى ما فيه صلاحُها وفلاحُها. ومن حقق ذلك حقق منازل العبودية، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل الخلق توحيداً وإيماناً، وأكملهم عبودية لله، وأكملهم محبة له، وأكملهم افتقاراً إليه، وأكملهم توبة واستغفاراً لله -عزَّ وجلَّ-؛ فهو أفضل الخلق عند الله، وأكرمهم منزلة، وهو سيد ولد آدم، وفى بمقامات العبودية وأتم أعمال القلوب.
وإذا أصبح العبد أو أمسى وليس همّه إلا الله وحده، تحمَّل الله عنه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرَّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإذا أصبح أو أمسى والدنيا همه، فرَّق الله عليه شمله، ووكله إلى نفسه، وحمله هموم الدنيا وأنكادها؛ فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بطاعتهم وخدمتهم وتنفيذ أوامرهم.
أيها الإخوة: وسنة الله جارية أن كل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلي بعبودية المخلوق، ومحبته وخدمته وطاعته ولو كان في معصية الله، فهو إما عبد لخالقه ومولاه، أو عبد لهواه. وإن كل من أحب الله أنس به، ومن أحب غير الله عُذب به، وأصابه الخذلان من جهة ما تعلق به، قال تعالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) [الإسراء: 72]، نعوذ بالله من العمى بعد الهدى.
عباد الله: وتمام العبودية وكمالها يكون بتكميل نوعين من أنواع التذلل والتعبد:
أحدهما: ذل المحبة لله، بأن يشهد العبد عزة محبوبه وجلاله وعظمته، فيحمله ذلك على التقرب إليه، والتودد إليه، والتملق له، وإيثار ما يرضيه، والصبر على أوامره، والرضا بأقداره، والحمد على نعمه، والتلذذ بطاعته.
والنوع الثاني: ذل المعصية، فإذا وقع العبد في معصية أحدث له ذلك الذل والانكسار؛ فإذا انضاف هذا إلى ذاك لم يبق إلا شهود عزة الله وجلاله وكبريائه، وضعف الإنسان وعجزه، وفقره وذله لربه، ومتى شهد العبد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه، فإذا ابتُلي بالذنب تصاغرت نفسه وذل وخضع لربه.
أيها الفضلاء: ومحبة الله نوعان: محبة تنشأ عن الإنعام والإحسان فتوجب شكراً، ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكماله فتوجب عبودية وطاعة أكمل من الأولى، وعبادة الله -عزَّ وجلَّ- هي طاعته بامتثال أوامره في جميع الأحوال والأوقات.
إن العبادة: هي الغاية من خلق الخلق كما قال -سبحانه-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 56 - 58]، ومن أجل ذلك بعث الله بها كل رسول إلى قومه، كما قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36]، وأمر الله بها الناس جميعاً بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21]، فلا غنى للخلق عن عبادة ربهم خالقهم ورازقهم.
أيها المسلمون: وكثيرًا ما أرشد الله عباده في القرآن العظيم إلى الخوف منه وإجلاله، فقال -سبحانه- في وصف النار وعذاب أهلها : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر: 16]، وفي آية أخرى يرشد ربنا الجليل عباده إلى عدم الخوف من غيره، فقال -جل وعلا-: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175]، فكلما زاد إيمان العبد وارتفع، كانت معرفته بربه أكبر، ومن ثم تكون خشيته من ربه وخوفه منه أعظم، وطاعته له أكثر.
وإذا كان الله رب العالمين قد ذكر الخوف منه في القرآن، فقد ذكر الرجاء والمحبة مع الخوف؛ ليحدث ذلك للعبد توازن واعتدال، فقال -جل وعلا-: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50]، وهذه الآية من الآيات العظيمة في القرآن الكريم، إذ تجمع معاني الخوف والرجاء: الخوف من الله تعالى، واللجوء إليه -سبحانه-، إذ لا منجا منه إلا إليه -عز وجل-، أمر بالفرار منه إليه ليدل العباد على أنه أرحم بهم من كل من سواه، وأنه -عز وجل- يريد بالعباد الرحمة والمغفرة.
وفي آية جليلة يذكّر فيها رب العالمين العباد بنعمائه وسطوته، وينوّع لهم بين ذكر صفات الرحمة, فيحدث ذلك للعبد المحبة، وبين ذكر صفات العذاب حتى يتجنب العبد مساخط الله تعالى، فيقول: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) [الحجر: 49 - 50].
فما أعظم مقام العبودية بين منازل المحبة والخوف، وما أسعد أهلها، وما أوفر وأجزل ثوابهم في الدنيا والآخرة، وذلك لا ينال إلا بالإيمان والتقوى كما قال -سبحانه-: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 15 - 17]. ولا قيمة لعمل ولا جزاء على بذل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان، وإلا أن يكون باعثه الإيمان كما قال –سبحانه-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [النور: 39].
والعبد إذا أخلى قلبه من محبة الله، والإيمان به، والإنابة إليه، وطلب مرضاته، وأخلى لسانه من ذكر ربه، والثناء عليه، وأخلى جوارحه من شكره وطاعته، ونسي ربه, لم يرد الله -سبحانه- أن يعيذه من ذلك الشر، ونسيه كما نسيه، كما قطع العبد العبودية والشكر والتقوى التي تنال الله من عباده, كما قال –سبحانه-: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج: 37].
فإذا أمسك العبد عما ينال ربه منه أمسك الرب عما ينال العبد من توفيقه، وخلى بينه وبين نفسه التي ليس له منها إلا الظلم والجهل والسوء, كما قال –سبحانه-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 19]، وقال -سبحانه-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة: 41]، فعدم إرادة الله تطهيرهم، وتخليته بينهم وبين نفوسهم، أوجب لهم من الشر ما أوجبه.
وإذا علم العبد أن ربه الملك هو القوي العزيز العليم، وإلهه هو العلي العظيم الكبير، ثاب إلى مقام العبودية، واقفاً بين يدي ربه، ساجداً له، معظّماً له، شاكراً له، محباً له، خاشعاً منكسراً بين يديه لما يراه من عظمته وجلاله وجماله وإحسانه، وتطامن كبرياؤه وطغيانه، ورده ذلك إلى مخافة الله ومهابته، وإلى الشعور بجلاله وعظمته، وإلى الأدب في حقه، والتحرج من الاستكبار عن عبادته وطاعته.
أيها الإخوة: والعبادات كالصلاة والصيام ونحوهما رباط وثيق بالله، ولقاء كريم بين العبد ومولاه، ومعراج للنفس البشرية إلى الملكوت الأعلى؛ إذ كيف يكون حب من الله لعبده ولا يكون لقاء؟، وكيف يكون ود من الله لعبده ولا تكون ضيافة؟، وكيف تكون رحمة من الله لعبده ولا تكون طاعة من العبد لربه؟، وفي العبادة تجرد لله من كل شيء، لتدريب النفس على عدم التعلق بأحد سوى الله.
ولذلك كله كانت العبودية لله مرتبة عالية، ومنزلة سامية، ورتبة كريمة، لا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء، والله -سبحانه- لا يريد من عباده أن يقروا له بالعبودية وأن يعبدوه وحده؛ لأنه بحاجة إلى عبوديتهم وعبادتهم، ولا لأنها تزيد في ملكه تعالى، ولكنه -سبحانه- يريد لهم أن يعرفوا حقيقة الربوبية، وحقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، فلا يمكن أن تستقر التصورات، ولا أن تستقر الحياة وتنتظم إلا بهذه المعرفة الشاملة.
وبذكر الله -سبحانه- تطمئن قلوب المؤمنين، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ورضوانه عليهم، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أحب إليهم من الإيمان به ومحبتهم له، وحاجتهم إليه في عبادتهم له وتألههم له كحاجتهم إليه، بل أعظم في خلقه وربوبيته لهم ورزقه لهم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة التي بها سعادتهم وفوزهم: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71].
أيها الإخوة: إن حق الله -عزَّ وجلَّ- على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقّهم عليه إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم، وأن يكرمهم إذا قدموا عليه، وهذا كما أنه غاية محبوب العبد ومطلوبه، وبه سروره ولذته ونعيمه، فهو أيضاً محبوب الرب من عبده، ومطلوبه الذي يرضى به، ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وإلى عبوديته وطاعته. وكذلك العبد لا فرح له أعظم من فرحه بعبادة ربه وأنسه به وطاعته له، وليس في الكون ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله –سبحانه-.
بل قوام السماوات والأرض والخليقة بأن تؤله الإله الحق، ولو تألهت غيره لفسدت كل الفساد؛ لانتفاء ما به صلاحها؛ إذ صلاحها بتأله الإله الحق، فهي فقيرة إلى الله وحده في وجودها وبقائها فـ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الأنبياء: 22].
وحاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه، أعظم من حاجة الجسد إلى الروح. بل أعظم وأكبر، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها.
أيها الإخوة: إن العبادة في الإسلام ليست هي مجرد الشعائر فقط، إنما هي كل عمل، كل نشاط، كل حركة، كل نية، كل اتجاه، وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دون سواه، وأن يتجرد من كل شاغل، ومن كل هاتف، ومن كل التفات، وإنها مع المشقة للذة لا يعرفها إلا من ذاق طعمها، ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة، وإلا بالتجرد لها، وإلا بالصبر عليها.
إنه منهج حياة كامل، وإنه لمنهج عالٍ يحتاج ويستحق الصبر والمجاهدة والمعاناة، ليرتقي الإنسان سامعاً مطيعاً إلى أفق المثول بين يدي الرب المعبود في جميع أحواله (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم: 65].
وكل ما يحصل للإنسان من اللذات والسرور بغير الله فلا يدوم له، بل ذلك في الحقيقة غير منعم ولا ملذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به وقربه منه، ووجوده عنده، فإن القلب يتألم ويتعذب بمحبة ما سوى الله، وهذا كله مبني على أصلين عظيمين:
الأصل الأول: أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته, وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه, هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، فأوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، وبها كمال النعيم، فقُرة عين المحب في الصلاة والذكر والصيام وتلاوة القرآن والصدقة، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، والصبر على أذى أعداء الله -سبحانه-، فاللذة بذلك أمر آخر، لا يناله الوصف، ولا يدركه من ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه من اللذة والسرور به أعظم: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة: 4].
الأصل الثاني: أن كمال النعيم في الدار الآخرة به -سبحانه-؛ برؤيته، ورضوانه، وسماع كلامه، وقربه، فالنعيم واللذة في الآخرة بالمخلوق من مأكول ومشروب، وملبوس ومنكوح ومسكون, لكن اللذة الكبرى والنعيم التام في رؤية الخالق -جل جلاله-، وسماع كلامه، وحصول رضوانه في الجنة؛ كما أن عذاب الحجاب في النار من أعظم أنواع العذاب الذي يعذب به الله أعداءه، ثم عذاب النار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها الإخوة: ولله على العبد عبوديتان في كل عمل: عبودية باطنة، وعبودية ظاهرة، فله -سبحانه- على قلب عبده عبودية الخضوع والمحبة والرغبة فيما أمر الله به والتسليم له، وله على لسانه وجوارحه عبودية الامتثال والعمل والقيام بواجب الخدمة محبة لله تعالى وخوفًا منه، نسأل الله الهداية والتوفيق.
أيها الإخوة: والعبادة أعظم مقامات العبد، فهي مقام عالٍ شريف، بها يزول ضيق القلب، ويكمل انشراح الصدر؛ لأنها توجب الرجوع من الخلق إلى الحق. وزوال ضيق الصدر يتم بأربعة أشياء أمر الله بها رسوله في كتابه كما قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 97 - 99].
وإن منازل العبودية متفاوتة، والناس فيها متفاوتون: فالمهابة والتعظيم أعلى من المحبة؛ لأنها نشأت عن معرفة جلال الرب وتعلقت بالذات والصفات، ثم يليها المحبة الناشئة عن معرفة إنعام الرب وإحسانه، ثم التوكل؛ لأن منشأه ملاحظة التوحد بالأفعال، ثم الخوف والرجاء؛ لأنهما نشآ عن ملاحظة الخير والشر، والإحسان والانتقام وشرفا من جهة معرفة قدرة الله عليهما؛ إذ لا يرجى من يعجز عن الخير، ولا يخاف من لا يقدر على الضير، وهكذا باقي الصفات.
والعبادة عاطفة قد مزجت بدم الإنسان بحكم الفطرة، فكما أن الإنسان يمسّه الجوع فيلتمس لإزالته الغذاء، وكما أنه يشعر بالحر والبرد فيلتمس لاتقائهما الظل واللباس، وكما يجول في فكره شيء فيبحث عن الألفاظ والإشارات للتعبير عنه، فهكذا عاطفة العبادة تنشأ في الإنسان من جهة الفطرة, فيلتمس لتهدئتها وإبرازها إلهاً ثم يعبده: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الأنعام: 102].
أيها الإخوة: إذا أراد العبد أن يحقق العبودية فعليه أن يقر بالكبرياء والعظمة والجبروت في القوي الأعلى رب العالمين, ثم يطيعه ويسلس له قياده، ويطأطئ له رأسه، مع كمال التعظيم، وكمال الحب وكمال الذل لله وحده لا شريك له، وليعتبر بكل شيء في هذا الكون من أصغر ذرة في الأرض إلى أكبر جسم في الكون، فكله مسخر بنظام مهيمن متقن لا قِبل له بمخالفته، ولو خالفه وأبى الانقياد له فسد وفني، ولكن أنى له المخالفة؟!، فكلٌ عابد مطيع يؤدي الوظيفة التي فوضت إليه، فلا تهب الرياح، ولا ينزل المطر، ولا يسيل الماء، ولا تنبت الأرض، ولا تجري الشمس، ولا تتحرك الكواكب، إلا بأمر الله وإذنه -سبحانه-.
فهذا الكون وما فيه كله يعبد الله تعالى ويطيعه، وهذه العبادة والطاعة هي قوام بقائه، ومناط حياته، وما من شيء في الكون يصدف عن عبادة الله وطاعته ولو كلمح البصر، وإذا صدف لا يتأخر فناؤه ولا لطرفة عين: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) [الرعد: 15].
فلا بدَّ للإنسان أن يعرف ربه ومولاه معرفة خالصة لا يشوبها شرك أو كفر أو شك، ولا يخاف معها أحداً غيره، ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه فهذا هو الإيمان، وأن يطيع ربه فيما يختص بحياته الاختيارية بامتثال أوامر هذا المعبود كما يطيع حكمه وأمره فيما يختص بحياته الإجبارية، حتى تصير حياته بناحيتيها لله وحده لا شريك له، وهذا هو العمل الصالح.
رُوي أن مطرف بن عبد الله تلا هذه الآية: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) [الرعد: 6]، فقال: "فلو يعلم الناس قدر مغفرة الله ورحمة الله وعفو الله وتجاوز الله لقرت أعينهم، ولو يعلم الناس نكال الله ونقم الله وبأس الله وعذاب الله ما رقأ لهم دمع ولا انتفعوا بطعام ولا شراب".
أيها الإخوة: إن سفينة النجاة في الوصول إلى جنات النعيم والنجاة من نار الجحيم هي في المحبة والخوف من رب الأرض والسماء؛ تخافه فلا تعصيه, وترجوه فتقبل على طاعته للفوز بجنته، وأنت في هذه الدنيا عبد بين الإحسان والإساءة، فإن أحسنت فاستغفر الله واسأله القبول وإن أسأت فتب إلى الله من ذنبك وأكثر من الطاعات, فإن الحسنات يذهبن السيئات, وإياك وتقنيط الشيطان, واعلم أن الله هو الغفور الرحيم.
وإذا علِمَ المسلمُ شُمول رحمة الله، وعظيمَ كرمه، وتجاوُزه عن الذنوب العِظام، وسعة جنته، وجزيل ثوابه؛ انبسَطت نفسُه واسترسَلَت في الرجاء والطمع فيما عند الله من الخير العظيم، وإذا علِمَ عظيمَ عقاب الله، وشدةَ بطشه وأخذه، وعسير حسابه، وأهوال القيامة، وفظاعة النار، وأنواع العذاب في النار؛ كفَّت نفسُه وانقمَعت، وحذِرت وخافَت، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو علم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد" [مسلم(2109)].
فما أجدرنا -أيها الإخوة- أن نعظّم ربنا ونوقره، ونخافه ونتقيه، ونسير إليه بين المحبة والخوف والرجاء، فاتقوا الله وخافوه، وأخلصوا له العمل، واحذروا معاصيه، حافظوا على صلاتكم، صلوا أرحامكم، بروا آباءكم، وأحسنوا إلى نسائكم وأبنائكم، وأتقنوا أعمالكم، وارجوا فضل ربكم، واطمعوا فيما عنده.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي