الإقراض والاقتراض آداب وأحكام

خالد بن سعد الخشلان
عناصر الخطبة
  1. انتشار ظاهرة الاقتراض لحاجة ولغير حاجة .
  2. للاقتراض بلا سبب أضرار سلبية على حياة الأفراد والمجتمعات .
  3. بيان شيء من أحكام القرض وآدابه .
  4. خلو ذمة الإنسان من حقوق الآخرين .
  5. مساوئ شغل الذمة بالديون وحقوق الآخرين .
  6. فضل إقراض المحتاج والصبر عليه .
  7. الاقتراض بشرط الزيادة ربا محرم .
  8. حكم التمويل بالتورق .
  9. إقراض المحتاج ليس بواجب .
  10. عقوبة المماطل في السداد .
  11. الحث على توثيق القرض بالكتابة .
  12. وجوب الوصية في حق من كان في ذمته ديون. .

اقتباس

إن من المظاهر التي انتشرت في المجتمع ظاهرة الاقتراض لحاجة ولغير حاجة مما نجم عنه وينجم أضرار سلبية على حياة الأفراد والمجتمعات مما يتطلب بيان شيء من أحكام القرض وآدابه.. وشغل الذمة بالديون وحقوق الآخرين، وإن قلّت، من الأمور العظيمة حتى إن العبد ليموت وذمته مشغولة بحقوق الآخرين، فتبقى نفسه معلَّقة بدَيْنه حتى يُقضَى عنه، وقد يُستشهد الإنسان في سبيل الله فتُكفّر الشهادة كل شيء إلا الدَّيْن.. فليتق الله المسلم فلا يسارع إلى الاقتراض عند أدنى حاجة تعرض عليه أو تعرض له، بل عليه أن يفكر في الأمر مليًّا، وهل تلك الحاجة ملحة أو يمكنه الاستغناء عنها، وهل عنده إذا اقترض ما يمكنه الوفاء منه مستقبلاً أو لا...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى ومن تبعهم واكتفى وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى، وراقبوه واجتهدوا في اغتنام أيام حياتكم بفعل ما يرضيه -سبحانه- وترك ما يسخطه ويغضبه، أكثروا من الأعمال الصالحات والقربات النافعات، فهي -والله- الزاد لمن تزود بها في رحلته إلى الله والدار الآخرة (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة: 197].

أعانني الله وإياكم على ذِكره وشكره وحسن عبادته، ويسر لنا من أمور الخير ما يكون سببًا لنيل محبته وولايته؛ إن ربي رحيم ودود.

أيها الإخوة المسلمون: إن من المظاهر التي انتشرت في المجتمع ظاهرة الاقتراض لحاجة ولغير حاجة مما نجم عنه وينجم أضرار سلبية على حياة الأفراد والمجتمعات مما يتطلب بيان شيء من أحكام القرض وآدابه.

أيها الإخوة المسلمون: لا شك أن الاقتراض عندما تدعو الحاجة إليه من الأمور المباحة، كما لو اقترض شخص من أجل الإنفاق على نفسه وأهله، أو من أجل دفع أجرة منزل، أو علاج أحد أفراد أسرته، ونحو ذلك من الحاجات الملحة، وقد اقترض النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان يستقرض أحيانًا لنفقة أهله.

وأما إذا كان الاقتراض لغير حاجة، أو لغير حاجة ملحة، أو كان من أجل التوسع في المطاعم والمشارب والمساكن والمركبات؛ كما هو حال كثير من الناس اليوم، يقترض من أجل أن يسافر، يقترض من أجل أن يغيّر السيارة، مع صلاحية سيارته الأولى له ولأهله، أو يقترض لتغيير أساس المنزل أو ليرمم البيت من غير حاجة داعية إلى ذلك، وفوق ذلك ونحو ذلك من الأمور التي لا تعد من الحاجات المسوغة للاقتراض، بل هي مجرد أمور كمالية أحيانًا، فإن الاقتراض في الحالة هذه يكون من الأمور المكروهة التي ينبغي للعاقل ألا يلجأ إليها، فإن خلو ذمة الإنسان من حقوق الآخرين من أعظم النعم على العبد وأجلها.

وشغل الذمة بالديون وحقوق الآخرين، وإن قلّت، من الأمور العظيمة حتى إن العبد ليموت وذمته مشغولة بحقوق الآخرين، فتبقى نفسه معلَّقة بدَيْنه حتى يُقضَى عنه، وقد يُستشهد الإنسان في سبيل الله فتُكفّر الشهادة كل شيء إلا الدَّيْن، كما جاء في الحديث.

بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أول الأمر لا يصلي على من مات مدينا لا وفاء له، كما جاء في حديث أبي قتادة لما قُدِّم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ ليصلي عليه سأل -صلى الله عليه وسلم- "هل عليه دَيْن؟" فقيل: "نعم ديناران، أو ثلاثة دنانير" فتأخر -صلى الله عليه وسلم- وقال: "صلوا على صاحبكم" حتى ضمنهما أبو قتادة، وقال: "هما عليَّ يا رسول الله"، فتقدم حينئذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصلى عليه.

وبعد مدة سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا قتادة لما رآه "ما فعل الديناران؟" يعني هل قمت بسدادهما، فقال له: لا، ثم كلما رآه -صلى الله عليه وسلم- سأله عنهما حتى قال أبو قتادة: "قضيتهما يا رسول الله"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "الآن بردت عليه جلدته".

وقد كان هذا في أول الإسلام ثم لما فتح الله -عز وجل- على نبيه -صلى الله عليه وسلم- صار -صلى الله عليه وسلم- يلتزم بقضاء الديون عن الأموات.

فليتق الله المسلم فلا يسارع إلى الاقتراض عند أدنى حاجة تعرض عليه أو تعرض له، بل عليه أن يفكر في الأمر مليًّا، وهل تلك الحاجة ملحة أو يمكنه الاستغناء عنها، وهل عنده إذا اقترض ما يمكنه الوفاء منه مستقبلاً أو لا، وإذا ما اقترض فعليه أن يحسن النية وينوي السداد ويعزم على المبادرة بذلك متى ما أمكنه حتى يكتب الله له فرجًا ومخرجًا وإعانة على قضاء دينه الذي اقترضه.

وليحذر كل الحذر من المماطلة في السداد، والتأخير في القضاء مع قدرته على ذلك؛ فإن من كان هذه حاله يعد من الظلمة الذين يحل عرضهم وعقوبتهم كما جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَيُّ الواجد يُحِلّ عرضه وعقوبته"، وفي الحديث الآخر "مَطْل الغني ظلمٌ يُحِلّ عِرْضَه وعقوبته".

ومعنى "يُحِل عرضه" أي: سبّه وشتمه بأن يقال له: يا ظالم، يا جاحد، يا مماطل، يا من لا تخاف الله، ونحو ذلك من العبارات.

بل في عرف البشر العقلاء أن من صنع إليك معروفًا تعين عليك مقابلته بالإحسان والمعروف، فكيف تقابل من أقرضك بالإساءة والجحد والمماطلة (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن: 60]، وفي الحديث: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".

أيها الإخوة في الله: إن إقراض الآخرين لوجه الله -عز وجل- يُعَدّ من الإحسان المرغب فيه ومن أعمال البر التي يُرجَى للمقرض أجرها وثوابها عند الله -عز وجل-.

قال ابن قدامة -رحمه الله-: "والقرض مندوب إليه في حق المقرض مباح للمقترض"؛ لما روينا من الأحاديث ولما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه".

وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "لأن أُقرِض دينارين، ثم يردان، ثم أقرضهما أحب إليَّ من أن أتصدق بهما".

أيها الأخ المقرض: إذا كان إقراضك أخاك المسلم المحتاج عبادة وقُربة ترجو أجرها وثوابها فاحذر من إبطال هذه العبادة بالمن والأذى، فلا تمن على المقترض ولا تؤذيه بهذا القرض ولا تكثر عليه من القول؛ أنا أقرضتك، أنا أحسنت إليك، أنا أعطيتك، وهذا ما تفعل بي.. ونحو ذلك من العبارات والجمل المشتملة على المنّ والمدخلة للأذى على قلب المقترض، واستحضر قول الله -عز وجل- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى)[البقرة: 264].

ومن ثَم فالقرض يقصد به الرفق بالمقترض والإحسان إليه، وعلى هذا فلا يجوز أن يبتغي به المقرض العوض والربح الدنيوي، وقد قرر الفقهاء -رحمهم الله- تحريم اشتراط المقرض على المقترض نفعًا ماديًّا على القرض، أيًّا كان هذا النفع، فإذا أقرضت شخصًا مبلغًا من المال فلا تشترط عليه أن يقدم لك خدمة أو منفعة؛ لأن هذا مما لا يجوز شرعًا بل هو من جنس الربا المحرم.

بل حرم الفقهاء -رحمهم الله- قبول هدية المقترض، وبخاصة إذا لم يكن الإهداء عادة بينهما، لا قاصرا على الاقتراض، فإذا أقرضت شخصا مبلغا من المال فأهدى إليك طعاما أو علبة طيب أو إناء لبن أو عسلاً أو نحو ذلك؛ فلا تقبل هذه الهدية من المقترض إلا إذا نويت أن تحسبها وتخصم قيمتها من الدَّيْن الذي لك على المقترض أو تنوي مكافئته على هديته.

وأما ما سوى ذلك فلا يجوز لك شرعا قبول الهدية، وكما حرمت الشريعة الغراء أن يشترط المقرض على المقترض نفعًا مقابل القرض أيًّا كان هذا النفع؛ فإنها في الوقت ذاته حثت على الإحسان في الأداء، فإذا ما أحسن المقترض في رد القرض إلى المقترض، وزاد شيئًا ما من غير أن يكون هناك اشتراط سابق ولا مواطأة عليه فلا بأس بذلك.

وقد جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استسلف من رجل بَكْرًا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكره فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رَباعيًّا –أي سنًّا أكبر من السن الذي استسلفه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أعطه إياه؛ إن خيار الناس أحسنهم قضاء".

وقد كان هذا من هديه الدائم -صلى الله عليه وسلم- ولهذا قال: "رحم الله عبدا سمحا إذا باع، وسمحا إذا اشترى، وسمحا إذا قضى، وسمحا إذا اقتضى".

وهذا كله من الفضل والإحسان إن شاء عمل به المقترض وإن شاء لم يعمل به، وأما الواجب عليه إذا اقترض فهو رد القرض فقط، فإذا اقترض ألفًا وجب عليه رد الألف فقط دون زيادة أو نقصان، وهذا هو الواجب، وعلى هذا فالاقتراض بشرط الزيادة بنسبة معينة ولو قلت كـ 3% أو 5% ونحو ذلك كما هو الحال عند البنوك الربوية التي تقرض وتأخذ الربا على القرض، فهذا من الربا المحرم شرعا المتوعد صاحبه عليه بالوعيد الشديد وإن سُمي فائدة أو عمولة أو نحو ذلك من الأسماء؛ فالأسماء لا تغير من الحقائق شيئا.

فالفائدة التي تأخذها البنوك الربوية على القرض هي زيادة محرمة هي الربا المحرم شرعًا، والله -عز وجل- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً) [آل عمران: 130]، وقال -سبحانه- (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة: 275]، وقال -عز وجل-: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) [البقرة: 276]، وقال -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) [البقرة: 278- 279].

وهذا النهي عن الربا شامل للمقرض والمقترض؛ فلا يجوز للمعطي المقرض أن يشترط الربا، ولا يجوز للآخر المقترض أن يدخل في عملية ربوية، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه"، فالآخذ والمعطي للربا كلاهما ملعونان على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وأما مسألة التمويل بالتورق كما تجريه المصارف الإسلامية؛ بأن يكون الإنسان محتاجًا لمبلغ من المال لإكمال بناء منزله، أو تمويل مشروع استثماري، ونحو ذلك، فيذهب إلى البيت ويبيعونه سيارة يملكونها مثلاً بثمن مؤجل يدفع على أقساط شهرية، ثم يعمد هو إلى بيع السيارة نقدًا على طرف آخر لا علاقة له بالبنك ولا بالمعرض الذي اشتُريت منه السيارة، فهذا من التمويل المباح ولا شيء فيه شرعًا.

ومن الخطأ الدارج على ألسنة كثير من الناس تسمية هذه المعاملة قرضًا واقتراضا، وهي لا تسمى بذلك أبداً، وإنما هي عملية تمويل بيع وشراء.

نسأل الله -عز وجل- أن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه، وأن ينير بصائرنا وأن يجعل رزقنا حلالاً ومطعمنا حلالا ويغنينا بفضله -سبحانه-. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه، وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن أصداق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.

عباد الله: احرصوا على إطابة مطعمكم، واعلموا "أن الله -سبحانه- طيّب لا يقبل إلا طيّبًا، وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟!"

أيها الإخوة في الله: إن إقراض الآخرين لمن كان قادرا على ذلك إنما هو من باب الإحسان والمعروف وليس بواجب، ولهذا قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "لا إثم على من سئل القرض فلم يقرض"، ولهذا فإن من الأخطاء الشائعة إلحاح بعض الناس على بعض أقربائهم ومعارفهم بطلب القرض، والمبالغة في ذلك إلى درجة حصول النزاع والبغضاء من طالب القرض على قريبه إذا لم يُجَب إلى ما طلب، وكأن المقترض -والحالة هذه- يطلب حقًّا له عند قريبه أو صديقه منعه منه، وهذا سوء أدب، بل الواجب إذا ما طلب إنسان قرضًا من قريبه أو صديقه فلم يجبه إلى ذلك، ألا يعيد الطلب مرة أخرى، بل ينسى الموضوع من غير أن يؤثر ذلك سلبًا على قرابته أو صداقته مع غيره.

وأسوأ مِن ذلك: مَن يأتي طالبًا القرض من قريبه أو صديقه يأتي هذا الطلب متوددًا مترفقًا معطيًا الوعود والمواثيق الجازمة بسرعة الرد والوفاء خلال مدة محددة، فإذا ما استلم القرض، وحان موعد السداد ماطَل وسوَّف وأجَّل وأخَّر دون اعتذار من المقرض، بل وصل الحد ببعض السفهاء المقترضين أنهم إذا طُلبوا برد القرض الذي حان موعده يغضبون ويسخطون، وكأن ما طُلبوا به ليس واجبًا عليهم ولا حق للطالب، وهذا كله مخالف للأدب الشرعي للاقتراض، وقد سبق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله عبدًا سمحًا إذا قضى، وسمحا إذا اقتضى".

ولهذا فإن من الأمور التي جاءت بها الشريعة في هذا الباب عقوبة المماطل في السداد، وجواز الوقوع في عرضه كما أن مما جاءت به الشريعة الحث على توثيق القرض بالكتابة، ويتعين ذلك فيما كان المال المقرض لا يملكه المقرض، وإنما هو وصي عليه وأقرضه من أجل حفظه ومصلحته والله -عز وجل- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة: 282].

والقصد من ذلك: حماية الحقوق، فالكتابة حماية لحق المقرض، وفي الوقت ذاته سعي لإبراء ذمة المقترض فيما إذا مات قبل السداد، ووُجد في وصيته ما يدل على الديون الثابتة في ذمته، ولهذا قرر الفقهاء وجوب الوصية في حق من كان في ذمته ديون وحقوق للآخرين، وعلى ذلك يحمل الحديث "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة تحت رأسه"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.

هذه -أيها الإخوة في الله- نُبَذ يسيرة من أحكام الإقراض والاقتراض وآدابه، نسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يأخذ بنواصينا إلى البر والتقوى.

هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صلّ وسلم وبارك...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي