من زعم أنه الآن في عصرٍ لا يحتاج معه إلى دين الإسلام، ولا إلى القرآن، ولا إلى شريعة الإسلام، فهذا ممن حاد عن صراط الله المستقيم، واستهوته الشياطين وما أكثرهم في هذا الزمن -لا كثَّرهم الله- ومنهم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إلى ضلالهم وإلحادهم وكفرهم قذفوه فيها.. وأعظم من هذا النوع ضلالةً مَن زعم أن الإنسان في هذا العصر قد نضج عقله، وأصبح لا يحتاج إلى التقيد بنصوص الدين أو الرجوع إليها، وأنه يستوحي الهداية من ضميره وتفكيره، فهذا -والعياذ بالله- مشاقّ لله ولرسوله، وكفره يزيد على كفر المعاندين...
الحمد لله رب العالمين له الحمد كله وله الشكر كله، وإليه يرجع الأمر كله؛ شهدت بربوبيته جميع المخلوقات، وخضع له مَن في الأرض والسماوات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الأحد العظيم الملك الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وهو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه أحد من خلقه، بيده الخير ومنه الخير، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله وأمينه على وحي وصفوته من خلقه صلى عليه الله وملائكته والمؤمنون، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي -أيها المسلمون- بتقوى الله العظيم، فمن أراد العز والفوز في الدنيا والآخرة فليزم التقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:71].
لقد أنعم الله على هذه الأمة بإرسال محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وآله وسلم- ليخرج الله به الناسَ من الظلمات إلى النور، وأنزل عليه كتابًا مباركًا وذكرًا مبينًا، فعز العرب بهذا الدين بعد ذل، واستنارت قلوبهم بعد ظلمة، وحيت بعد موت (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) [الأنعام:122].
وأعرض منهم أقوام عن دعوته -عليه الصلاة والسلام-، وحاربوه ونبذوه، فأعزه الله وأذلهم، وطواهم التاريخ، وبقي ذِكر الإسلام ونبي الإسلام عزيزًا منيعًا، وسيظل على ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:33].
قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليبْلُغَنَّ هَذَا الدِّينُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزٌّ يُعِزُّ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِ الإِسْلامَ، أَوْ ذُلٌّ يُذِلُّ بِهِ الْكُفْرَ".
ولقد وصف الله القرآن بأنه مبارك، أي: كثير البركة، وأنه رحمة، فمن رغب عنه إلى غيره فقد سفِه نفسه، وأبعدها عن البركة، وأخرجها من الرحمة، ووصف وحيه بأنه نور، فمن حادَ عن هذا النور فلا بد أن يتخبط في الظلمات، وأن يكون أمره فُرُطًا (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) [الأنعام: 122].
ومن رغب عن دين الإسلام وملة إبراهيم فهو من السفهاء (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة: 130]، ومن زعم أنه الآن في عصر لا يحتاج معه إلى دين الإسلام ولا إلى القرآن ولا إلى شريعة الإسلام، فهذا ممن حاد عن صراط الله المستقيم، واستهوته الشياطين وما أكثرهم في هذا الزمن -لا كثَّرهم الله- ومنهم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إلى ضلالهم وإلحادهم وكفرهم قذفوه فيها؛ كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- في حديث حذيفة المشهور.
وأعظم من هذا النوع ضلالةً مَن زعم أن الإنسان في هذا العصر قد نضج عقله، وأصبح لا يحتاج إلى التقيد بنصوص الدين أو الرجوع إليها، وأنه يستوحي الهداية من ضميره وتفكيره، فهذا -والعياذ بالله- مشاقّ لله ولرسوله، وكفره يزيد على كفر المعاندين الذين قالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس:15]، فعلّمه الله -عز وجل- أن يرد عليهم بقوله: (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [يونس: 15- 16].
أيها المسلمون: إن العقول لا تستنير بغير شرع الله، ولا تستغني عن وحي الله، وحقيقة العبودية لله أن يسلّم العبد قلبه لربه، وأن يعبده وحده لا شريك له، وأن يخضع لأوامره وأوامر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأن يحكّم شرع الله في كل أمور حياته صغيرها وكبيرها، وأن يرضى بذلك ويسلم (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء:65]، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [الأحزاب:36].
وشريعة الله التي جاء بها رسول الله محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- كاملة لا نقص فيها (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3]، وألزم الله بلزومها، فقال: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85].
فمن اعتقد أن شيئًا من هدي الشرائع الأخرى، سواء كانت شرائع سماوية كاليهودية والنصرانية المحرّفة، أو التشريعات التي يضعها الناس ويتحاكمون إليها من دون الله، من زعم أن هذا خير من هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنفع للناس وأصلح لاستقامة حياتهم وأمنهم ومعيشتهم فهو كافر خارج من الملة بإجماع المسلمين، وإن حكم بما أنزل الله.
أيها المسلمون: الردة عن دين الإسلام هي الإتيان بما يوجب الرجوع عن الإسلام إلى الكفر وهي خطيرة؛ لأنها محبطة لجميع الطاعات، والمرتد مخلّد في نار جهنم، كما قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) [آل عمران:91].
وقال سبحانه: (وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة:5].
وقال -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [محمد:34]، وقال سبحانه: (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:217].
وهذا يوجب على الإنسان أن يحذر غاية الحذر من أسباب الضلال والخسران وما يوجب الردة والكفران، فإن الأعمال بخواتيمها، ولرُبّ كلمة أو عبارة يقولها أو يكتبها المرء لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- .
وما خاف النفاق إلا مؤمن، وما أمنه على نفسه إلا منافق، والمرء على دين صاحبه وجليسه، فليحذر من مجالسة الملحدين والزائغين، ومن الدخول إلى مواقع المنافقين، ومن الاستماع إلى شبهات المنافقين، ومن قراءة كتب الضالين؛ لئلا يزيغ قلبه وينحرف عن صراط الله القويم.
لقد صرنا -ويا لشديد الحزن- نسمع في هذا الزمن من بعض الكفرة وأفراد من الزائغين عن الحق تطاولاً على مقام ربنا -جل وعز- وتنقصًا لسيد ولد آدم محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-.
يجري هذا الكفر والردة من البعض؛ عبر رسوم وكتابات أو مقابلات، ولا ريب أن هذا كفر وردة غليظة ومحاداة لله ولرسوله، والواجب أن يُوقَف هؤلاء عند حدهم، ويُنَفَّذ شرع الله فيهم.
قال الحجاوي في الإقناع باب حكم المرتد: "وهو الذي يكفر بعد إسلامه، ولو مميزًا طوعًا ولو هازلاً، فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو وحدانيته أو صفة من صفاته، أو اتخذ له صاحبة أو ولدا، أو ادعى النبوة أو صدق من ادعاها، أو جحد نبيًّا أو كتابًا من كتب الله أو شيئًا منه، أو جحد الملائكة أو البعث، أو سبَّ الله أو رسوله، أو استهزأ بالله أو كتبه أو رسله كفر".
هذا وقد أجمع العلماء على وجوب قتل المرتد؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من بدَّل دينه فاقتلوه" (رواه البخاري)، ونُقل ذلك عن الخلفاء الراشدين ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وغيرهم.
ولا يجوز إقامة الحكم التكفيري على أيّ مسلم إلا مَن دل الكتاب والسنة على كفره دلالة واضحة صريحة بينة، فلا يكفي بذلك مجرد الشبهة والظن. وفي صحيح البخاري ومسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أيما رجل قال لأخيه يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعيّن، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين؛ إلا إذا وُجدت الشروط وانتفت الموانع".
قال فقهاؤنا -رحمهم الله-: "ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء، وهو بالغ عاقل مختار دُعي إليه ثلاثة أيام، وضُيّق عليه، وحُبس، فإن تاب، وإلا قُتل بالسيف؛ إلا رسول الكفار، إذا كان مرتداً بدليل رسولي مسيلمة، ولا يقتله إلا الإمام، أو نائبه حرّاً كان المرتد، أو عبداً، ولا يجوز أخذ فداء عنه، وإن قتله غيره بلا إذنه أساء وعُزِّر ولم يضمن، سواءٌ قتله قبل الاستتابة أو بعدها".
قالوا: "ولا تُقبل في الدنيا -أي: الظاهر- توبةُ زنديق وهو المنافق الذي يُظهر الإسلام ويخفي الكفر، ولا من تكررت ردته أو سبّ الله ورسوله صريحًا أو تنقصه، وأما في الآخرة فمن صدق منهم في توبته قُبلت باطنًا".
أعاذني الله وإياكم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، ورزقنا الثبات في الحياة وعند الممات، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واستمسكوا بالعروة الوثقى، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شد في النار.
أيها المسلمون: من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من هدي وحكم فقد كفر بالله -تعالى-، وهذا هو النفاق الاعتقادي الأكبر الذي يخلّد صاحبه في النار، ويخرجه من الإسلام، من فعله فهو في الدرك الأسفل من النار، كما يفعله بعض منافقي عصرنا من العلمانيين والليبراليين ومن سلك طريقهم؛ حيث كرهوا الحكم بما أنزل الله كحد السرقة وجلد شارب الخمر، وقتل القاتل العمد، وأن دية المرأة نصف دية الرجل، فمن كره هذه الأحكام وما يماثلها مما جاء به الشرع فهو من الكفرة، ولو عمل بما أبغضه من شريعة الله لم ينفعه ذلك، ومن استهزأ بشيء من دين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو ثوابه أو عقابه، فإنه يكفر؛ لقول الله تعالى: (قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 65- 66].
ولقد توعد الله من اتخذ آياته هزوًّا ولعبًا، فقال سبحانه: (وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [الجاثية:9].
فعلى أهل الإسلام أن يحذروا مما يسبب لهم إحباط العمل والوقوع في الكفر والزلل، وأن ينصحوا لأبنائهم وإخوانهم ومن تحت أيديهم، ويحذروهم من قراءة كتب الإلحاد ودخول المواقع المشبوهة ومجالسة أصحاب التوجهات السيئة والأفكار الخبيثة؛ فإن الشُّبَه خطافة والقلوب ضعيفة.
وقاني الله وإياكم فتن الزمان، وحفظ الله شباب المسلمين ذكورًا وإناثًا من كل فتنة وهوى.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي