الحث على الخلق الحسن

عبدالله بن صالح القصير
عناصر الخطبة
  1. منزلة حسن الخلق .
  2. الحث على حسن الخلق .
  3. من الأعمال التي تدخل في حسن الخلق .

اقتباس

كثيراً ما يرد في الكتاب والسنة الجمع بين تقوى الله وحسن الخلق، وذلك -والله أعلم- للتنبيه على أنهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ فتقوى الله شجرة وحسن الخلق ثمرة، وهي أساس وهو بناء، وهي سر وهو علانية، وحيث انتفى حسن الخلق انتفت التقوى، وضعفه دليل على ضعفها ..

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ومصطفاه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلّم تسليماً.

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله الذي لا بد لكم من تقواه، فإن من اتقى الله وقاه، وهي التي لا يقبل الله غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، وإنها خير الزاد في الدنيا والآخرة، وهي خَلَفْ من كل شيء وليس منها خلف، وقد تكفل الله لأهلها بالنجاة مما يحذرون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وشرح الصدور بتيسير الأمور، ووضع الوزر، ورفع الذكر، وأنها من أكرم ما أسررتم، وأزين ما أظهرتم، وأفضل ما ادخرتم، فاجعلوا إلى كل خير سبيلاً، ومن كل شر مهرباً، جعلني الله وإياكم من المتقين المحسنين، فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل.

أيها المسلمون: كثيراً ما يرد في الكتاب والسنة الجمع بين تقوى الله وحسن الخلق، وذلك -والله أعلم- للتنبيه على أنهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ فتقوى الله شجرة وحسن الخلق ثمرة، وهي أساس وهو بناء، وهي سر وهو علانية، وحيث انتفى حسن الخلق انتفت التقوى، وضعفه دليل على ضعفها؛ فهو برهانها والدليل عليها، والشاهد الصادق لها، يذكر الله تعالى المتقين في مواضع في كتابه فيصفهم بأحسن الأخلاق، ويبرئ ساحتهم من النفاق وسيء الأخلاق، ويذكر -سبحانه- أهل البر والإحسان، فيصفهم بالتقوى وعظيم الخشية من الملك الأعلى، ويبين ما لهم عنده من الخير في الآخرة والأولى.

وكان -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يجمع بينهما في وصاياه، وذلك من سنته الثابتة وهداه، أوصى صلى الله عليه وسلم معاذاً رضي الله عنه، فقال: "اعبد الله ولا تشرك به شيئاً قال: يا رسول الله! زدني، قال: "استقم ولتحسن خلقك".

وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "أوصيك بتقوى الله في سرك وعلانيتك، وإذا أسأت فأحسن" الحديث. وسئل صلى الله عليه وسلم: ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: "تقوى الله وحسن الخلق". وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".

ذلكم -يا عباد الله-؛ لأن الخلق الحسن من خصال التقوى ولا تتم إلا به، فإذا رزق الله العبد التقوى وحسن الخلق فقد منحه القيام بحقوقه وحقوق عباده، وبذلك يفوز العبد بمحبته ومعيته ونصره، والأمن من عذابه، والفلاح برضاه وكريم ثوابه، فإنه سبحانه يحب المحسنين (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل:128]. وقال في ثواب المتقين المحسنين: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران:136].

أيها المسلمون: ولقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحث على الخلق الحسن والوصية به -ما يدفع كل ذي دين قويم وعقل سليم إلى التخلق به والمنافسة فيه؛ طمعاً في فوائده، وانتظاراً لكريم عوائده، في الدنيا والآخرة (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26]. وفي ميدانه فليستبق المتسابقون (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون:61].

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من خياركم أحسنكم خلقاً". وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال: "البر حسن الخلق" وفي الترمذي قال عليه الصلاة والسلام: "ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق؛ وإن الله يبغض الفاحش البذيء". وفي رواية: "وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة" وقال صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لأهله" وفي رواية: "لنسائهم" وروي عنه صلى الله عليه وسلم قال: "أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن هذه الأخلاق من الله تعالى؛ فمن أراد الله به خيراً منحه خلقاً حسناً". وروي عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد".

أيها المسلمون: ويكفي المسلم في الرغبة في الخلق الحسن، وجهاد نفسه على التخلق به، والبعد عن ضده -أن الله تعالى أثنى على نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]. مع قوله سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21]. فأكمل المؤمنين إيماناً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأعظمهم اتباعاً، له وأسعدهم بالاجتماع- معه المتخلقون بأخلاقه المتمسكون بسنته وهديه، قال صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه". وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً".

فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، وتخلقوا بالأخلاق الحسنة لعلكم تفلحون (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء:69-70].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعاً بما فيه الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فقد ورد في مسند الإمام أحمد -رحمه الله- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله سبحانه قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب؛ فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه". فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الناس متفاوتون في الأخلاق كما أنهم متفاوتون في الأرزاق، وتضمن ذلك حث كل مؤمن أن يجتهد في التخلق بالخلق الحسن، كما يجتهد في طلب الرزق بالمباح من المهن، وما أعطي أحدٌ عطاء خيراً وأفضل من خلق حسن يدله على الصلاح والتقى، ويردعه عن السفاه والفساد والردى. والمتحلون بمحاسن الأخلاق هم أفضل الناس على الإطلاق.

أيها المسلمون: حسن الخلق يُمنٌ وسوء الخلق شؤم، والخلق الحسن ينحصر في فعل المرء ما يجمله ويزينه، واجتناب ما يدنسه ويشينه. قال بعض السلف: "هو فعل الفرائض والفضائل، واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل".

وبعض الناس حينما يسمع بحسن الخلق يظنه مقصوراً أو مقصوداً ببشاشة الوجه وطيب الكلام، وهذا نوع ولا شك من مكارم الأخلاق بالاتفاق، ولكنه لا يحصرها على الإطلاق، بل حسن الخلق أعم وأشمل من هذا كله، وهو ما وصف الله به عبده ورسوله ومصطفاه، ونبيه وخليله ومجتباه، محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].

ولقد بينت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خلقه العظيم، وفسرته حينما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان خلقه القرآن". أي يتأدب بآدابه، ويأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ثم قرأت: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199]. فأمره ربه بأن يعطي من حرمه وأن يصل من قطعه، وأن يعفو عمن ظلمه. ومن حسن خلقه صلى الله عليه وسلم أنه يصل الرحم، ويحمل الكَلَّ، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الدهر، ويغيث ذا الحاجة الملهوف.

أيها المسلمون: من حسن الخلق بر الوالدين وصلة الأرحام، والتودد إليهم بوسائل الإكرام، والاحترام، حتى يودع في قلوبهم محبته، والثناء عليه والدعاء له، ورضا الله من رضا الوالدين، والوالد أوسط أبواب الجنة، سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكرم الناس، فقال: "أتقاهم للرب، وأوصلهم للرحم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر" فبر الوالدين وصلة الأرحام مع أنها من محاسن الأخلاق فإنها سعة في الأرزاق، وبركة في الأعمار، ومحبة في الأهل، وسبب لدخول الجنة والنجاة من النار، فالواصل موصول بكل خير، والقاطع مقطوع من كل بر، وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها.

ومن حسن الخلق الإحسان إلى الجيران، وإيصال النفع إليهم، والعطف عليهم، والإحسان إليهم، ومعاشرتهم بطيب الوفاق وكرم الأخلاق، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره.

ومن حسن الخلق إفشاء السلام على الخاص والعام، وطيب الكلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام، فقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم من كان كذلك بدخول الجنة بسلام.

ومن حسن الخلق أن تسلم على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، وهذه سنة مشهورة، وقد أصبحت عند الكثير من الناس اليوم مهجورة، مع أنها بركة على الداخل المسلم وأهل بيته كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن حسن الخلق معاشرة الزوجة بالإكرام والاحترام، وبشاشة الوجه وطيب الكلام، قال صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله؛ وأنا خيركم لأهلي".

ومن حسن الخلق معاشرة الناس بالحفاوة والوفاء، وترك التنكر لهم والجفاء، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والنصيحة لهم، فذلك من أهم أخلاق الإيمان والديانة.

ومن حسن الخلق استعمال النظافة في الجسم والثياب، وفي المنزل، فإن الله جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، وإن الله إذا أنعم على عبده نعمة يحب أن يرى أثرها عليه.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي