إن في المعوذتين لعجبا

وليد بن سالم الشعبان
عناصر الخطبة
  1. فضْلُ المعوِّذتين: سورة الفلق وسورة الناس .
  2. سبب نزول السورتين .
  3. تأملات في السورتين .
  4. التعبُّد بالاستعاذة بالله .

اقتباس

هاتانِ السُّورتان العظيمتانِ الّلتان تُعرفانِ بالمعوِّذتينِ، نزَّلهما اللهُ -تعالى- بواسطة جبريلَ -عليه الصلاة والسلام-، شِفَاءً لرسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حينما سُحِرَ؛ فأثَّرَ فيهِ السِّحرُ بإذنِ اللهِ -تعالى- مَرَضًا، واشْتَكَى منه زَمَانًا، فكَفَاهُ الله -تعالى- وعافاه بِالمُعوِّذتينِ، فهما تحوِيان سرًّا إلهيًّاً كبيرًا، وحِصنًا من الله عظيمًا، وسلاحًا يَدفعُ به المؤمنُ شياطينَ الجنِّ والإنس، ويُواجِهُ بهما شُرورَ الحياة الظاهرة والخفية، وما يعترِضُه فيها من أخطار الكائدِين له والحاسِدين، والسحرةِ والمُشعوِذين.

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي نوّر بالقرآن القلوب، وأنزله في أوجزِ لفظ وأعجزِ أسلوب، فأعيت بلاغته البلغاء، وأعجزت حكمته الحكماء.

أحمده -سبحانه- وهو أهل الحمد والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله المصطفى، ونبيه المرتضى، معلم الحكمة، وهادي الأمة، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، وصحبه الأخيار، ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- بما وصَّى الله به الأُممَ الغابِرة، كما وصَّى الأمةَ الحاضِرة: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]؛ فاتقوا الله عباد الله، واشكروه أن أكرمكم بإنزال القرآن العظيم، وعلّمكم آيات الذكر الحكيم.

يا أُمة الإسلام، ويا أهل القرآن: صحّ مِن طُرُقٍ كَثِيرَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ, وَأصْحَابِ السُّنَنِ, عَنْ عقبةَ بنِ عامر -رضي الله عنه- قال: "بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ معَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بين الجُحْفَةِ والأبْوَاءِ -وهما موضعانِ قربَ المدينةِ- إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وظلمةٌ شديدةٌ، فجعلَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  يَتعوَّذُ بِـ: (أَعُوذُ برَبِّ الفَلَقِ) و(أَعُوذُ برَبِّ النَّاِس)، ويقول: "يا عُقْبَة! تعَوَّذْ بهما؛ فما تعوَّذَ مُتعوِّذٌ بمثلهما!".

وفي رواية أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم-  قَالَ: "إِنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مَثْلهُنَّ قَطُّ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "مَا سَأَلَ سَائِلٌ وَلَا اسْتَعَاذَ مُسْتَعِيذٌ بِمِثْلِهِنَّ قَطّ"، وَفِي رِوَايَةٍ أنَّهُ قَالَ: "مَا انْتَفَعَ أَحَدٌ بِمِثْلِهِنَّ قَطُّ"، ثُمَّ قَرَأَ -صلى الله عليه وسلم- : (قُلْ أَعُوُذ بِرَبِّ الفَلَقِ), (وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، وَأَقْرَأَهَا لِعُقْبَةَ. قَالَ عُقْبَةُ -رضي الله عنه-: ثُمَّ صَلَّى -صلى الله عليه وسلم-  بِنَا الصُّبْحَ فَقَرَأَ بِهِنَّ؛ ثُمَّ قَالَ لِي -صلى الله عليه وسلم-  بَعْدَ الصُّبْحِ: "اقْرَأَ بِهِنَّ كُلَّمَا قُمْتَ وَكُلَّمَا نِمْتَ"، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم-  قَالَ: "اقْرَأَ بِهِنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ".

عباد الله: هاتانِ السُّورتان العظيمتانِ الّلتان تُعرفانِ بالمعوِّذتينِ، نزَّلهما اللهُ -تعالى- بواسطة جبريلَ -عليه الصلاة والسلام-، شِفَاءً لرسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حينما سُحِرَ؛ فأثَّرَ فيهِ السِّحرُ بإذنِ اللهِ -تعالى- مَرَضًا، واشْتَكَى منه زَمَانًا، فكَفَاهُ الله -تعالى- وعافاه بِالمُعوِّذتينِ، فهما تحوِيان سرًّا إلهيًّاً كبيرًا، وحِصنًا من الله عظيمًا، وسلاحًا يَدفعُ به المؤمنُ شياطينَ الجنِّ والإنس، ويُواجِهُ بهما شُرورَ الحياة الظاهرة والخفية، وما يعترِضُه فيها من أخطار الكائدِين له والحاسِدين، والسحرةِ والمُشعوِذين.

إن في المعوذِّتين لعَجَبا! كان -عليه الصلاة والسلام- يُعوِّذ بتعويذات كثيرة، فلما أنزل الله عليه هاتين المعوِّذتين اكتفى بهما.

إن المُعوِّذة الأولى فيها استعاذة واحدة: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [الفلق:1]، ثم ذكر بعدها أربعة شرور كلها من آثار الشيطان، فتعوُّذٌ واحد من أربعة شرور يُستعاذ منها.

أما المعوِّذة الثانية: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ) [الناس:1-3]، فهي ثلاث استعاذات من شرٍّ واحد يُستعاذ منه.

عباد الله: في المُعوِّذة الأولى يقول -تعالى-: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، أمرَ اللهُ نبيَّه أن يستعيذَ ويحتمِي، ويعتصمَ ويلتجئ بربِّ الفلق؛ وَالفَلَقُ هُوَ الصُّبْحُ، لأنّ اللَّيلَ يَنْفَلِقُ عنهُ، كَمَا قَالَ -تعالى-: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ) [الأنعام:96].

وذهب بعضُ المفسّرين إلى أنّ في قوله -تعالى-: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) إشارةً إلى أنّ القادرَ على إزالةِ ظلمات الليل الشّديدة عن كلِّ هذا العالَم، بفَلْقِهِ الصُّبْحَ الّذي تزولُ به الظّلمات، يقدرُ أيضًا أن يدفعَ عن المتعوِّذِ بهِ كلَّ ما يخافُهُ ويخشاهُ مما في هذا العالم.

(مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) [الفلق:2]، أيْ: أَسْتَعِيذُ بِرَبِّ الفَلَقِ مِن جَمِيعِ شُّرُورِ مخلوقاتِهِ، مِمَّا أَعْلَمُهُ وَمِمَّا لَا أَعْلَمُهُ.

(وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) [الفلق:3]، أيْ: اللَّيل إذَا أَقْبَلَ, وَفِي اللَّيلِ تَكُونُ غَالِبًا الشُّرُورُ المَعْنَوِيَّةُ وَالْحِسِّيَّةُ، وَفِيهِ تَنْتَشِرُ الشَّيَاطِينُ؛ فَنَحْنُ نَسْتَعِيذُ بِقِرَاءَتها مِنْ هَذِهِ الشُّرُورِ التي تَكُونُ فِي الظُّلُمَاتِ، مِنْ شرور شَيَاطِينِ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالدواب وغَيْرِهِمْ.

(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) [الفلق:4]، أيْ: السَّحَرَة والسَّوَاحِر الذين يعقدون العُقد ينْفُثُون فيها مِن رِيقِهم الخبيث.

(وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [الفلق:5]، أَيْ: حَسَد العَيْنِ، وَحَسَد القَلَبِ, وَحَسَد اللِّسَانِ، وأَكْثَرُ عُدْوَانِ النّاسِ وبَغْيِهِم على بعضِهِم سببُهُ الحَسَدُ؛ فَإنْ لَمْ تَسْتَعِذْ بِاللهِ مِن ذلك فإنك لا تَأْمَن أَنْ يُصِيبَكَ شَرٌّ أو سحْر أو عين.

فنعوذ بربِّنا ربِّ الفلق مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ.

اللهم فَقِّهنا في دينك، وعلِّمنا الكتاب والحكمة يا رب العالمين؛ أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في ذكره، الذي إذا أُطيع شَكر، وإذا عُصي تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا استُعيذَ به أعاذ.

وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: أيها المسلمون: وفي المُعوِّذة الثانية يقول -تعالى-: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ)، أَيْ: أَعُوذُ وَألْتَجِئُ بِهَذَا الرَّبِّ الذِي رَبَّى جَمِيعَ المَخْلُوقَاتِ وَأَمَدَّهُمْ بِالنِّعَمِ, وَأعوذ بهَذَا المَلِك الذِي مُلْكُهُ عَمَّ كُلَّ شَيءٍ، وَأعوذ بهَذَا الإِلَه الِذي لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ العِبَادَةَ إلَّا هُو، (مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاس * مِنَ الجِنِّة والنّاس) [الناس:4-6].

فالوسواسُ كما يكونُ من الجنِّ يكونُ من الإنس أيضاً، ولهذا قال -تعالى-: (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)، وفيه تذكيرٌ بخُطورة شياطين الإنس، وقليل من يتنبَّهُ لضررهم! مع أن الله -تعالى- أمرَ نبيَّه في هذه السورةِ بالاستِعاذة من شرِّهم.

فهذه -يا عباد الله- ثلاث استعاذات من شر واحد، استعاذة بالربوبية، واستعاذة بالأسماء والصفات، وبالألوهية، من شر واحد وهو الشيطان؛ ذلك لأن الشيطان عالم من علماء الشر والآثام, وهو القائد إلى الهلاك والعصيان، وهو أصلُ الشرِّ الذي يصدُرُ منك والذي يرِدُ عليك، فهو أكبر وأخطر عدو لبني آدم في هذه الحياة.

ومن أوصاف الشيطان أنه (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ)، الّذي إذا ذُكِرَ اللهُ يَخْنَسُ، أي: ينقبضُ وينكمشُ ويهرب ويختفي، وإذا لم يُذكرِ اللهُ صالَ وجالَ ووَسْوَسَ، وحسّنَ للعبد المعصيةَ والشرَّ وكشفَ العورات، ويُقبِّحُ له الخيرَ ويُثبِّطُه عن الطاعات؛ فهو دائم الوسوسة لابن آدم. وواللهِ! إنه لن يتركك حتى يسلبك هذا الخير كله، أو يشغلك عن بعضه.

ولكن؛ مِنْ رَحْمَةَ اللهِ بِنَا أَنَّ هَؤُلاءِ الشَّيَاطِين مِن الإنْسِ وَالجِنِّ إذَا ذُكِرَ اللهُ, وَقَامَتِ الحُجَجُ, وَنُشِرَتِ السُّنَّةُ, انْخَنَسُوا, وَتَصَاغَرُوا, وَذَلّوا.

وجعل اللهُ الحكيمُ هذه السورة آخر سورة في المصحف حتى لا تُنسى، وحتى تعلَقَ في قلوب الصغار والكبار، فتحصُلَ بهذه الاستِعاذةُ الوقاية من سائر شرِّ الشيطان، من أوله إلى منتهاه.

عباد الله: الاستِعاذةُ بالله عبادةٌ جليلة نسترضِي بها مَن نستعيذُ به -سبحانه-، وهي تقتضي الثقة بأنه -جل وعلا- وحده القادرُ على دفع الخطَر ورفعِه، وإنَّ في قراءةَ المُعوِّذتين لتحقيقاً لهذه العبادة الجليلة.

والاستعاذة بالمعوّذتين مشروعة في كل وقتٍ، وتتأكَّدُ قراءتُهما في المواطن التي صحتّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كقراءتهما دُبُر كلِّ صلاة، وقبل النوم، وفي الصباح والمساء ثلاثا، وللرُّقية وللتَّحصين، فإن لهما تأثيرًا خاصًا في دفع المرض والسحر والعين وسائر الشرور.

فاللهم يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم: أَحْيِنَا فِي عَافِيَةٍ, وَأَمِتْنَا فِي عَافِيَةٍ، اللهم وَاكْفِنَا الشُّرور والآثام، وقِنا الفتن والأسقام.

اللهم إنا نعوذ بك من همزات الشياطين، ونعوذ بك أن يحضرون، اللهم إنا نعوذ بك يا سميع يا عليم من الشيطان الرجيم، ومن وسوسته وتخذيله وتهويله.

اللهم أعذنا وذرياتنا من الشيطان الرجيم يا رب العالمين، فأنت حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.

اللهم حببّ إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا، وكَرِّهْ إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين.

اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين.

اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويقاتلون أهل دينك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز.

اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك، واجعلهم أنصارا لدينك يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، انك سميع قريب مجيب الدعوات.

اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله ربِّ العالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي