ومن الخير فيما نزل، تلكم الصور المشرقة، والصفحات الناصعة، لشباب قدموا تضحيات عظيمة لإنقاذ العالقين والغرقى، وكذلك من بعض الأجهزة الحكومية الرسمية، وهو جهد عليه يشكرون، ويحسن بالمسؤولين أن يكرِّموهم، وأن يحتفوا بهم ويبجلوهم, فقد بذلوا جهدا عظيما، وقدموا عملا كريما، وهذا من التطوع الذي حث عليه الشرع، ولصاحبه أجر الصدقة إن احتسب الأجر، وأخلص النية...
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله ولطفه تتنزل البركات، وبجوده وكرمه تحُلّ المكرمات، تنوعت نعمه بين صاعدة ونازلة، وتكاثرت أياديه على عباده فهي بالخير حافلة، نحمده ملء الأرض والسماوات، ونشكره عدد ما حملت السحب من قطرات، نشهد بوحدانيته، ونؤمن بصمديته، (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة)، وأشهد أن خاتمُ الأنبياء، وسيدُ الأولياء، محمدا رسوله وعبده، كريمٌ خُلُقُه صادق وعده.
فعليهِ صلى اللهُ كلَّ عشيةٍ *** وضحىً وحيّاهُ بكلِّ تحية
تهدي لخيرِ الخلقِ خيرَ هدية *** وتعزهُ وتجلهُ وتكرمُ
فبحقهِ صلوا عليه وسلموا
وارض إلهي عن صحبه من العجم والعرب، فمنزلتهم تعلو كل نسب وحسب، واحشرنا معهم بفضلك لا بعملنا، فإننا إن نبلغهم فبرحمتك وهذا أملنا.
أما بعد: "مطرنا بفضل الله ورحمته" هذه كلمات نقولها حين تنزل علينا القطرة من السماء، وجملة نرددها حين تغاث الأرض بعد أن كانت جدباء؛ إتباعاً لسنة سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه-.
وهذه الأمطار رحمة من الله في أحيان، وغضب الله ينزله على بعض عباده في أزمان، وكيف يعرف ذلك العاقل الأريب؟ يعرفه بحال من نزل عليهم الغيث، فإن كانوا على خير وهدى، فهو رحمة، وإن كانوا على ضلال وشقاء فهو نقمة، (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 57] وهو القائل جل في عليائه عن الحال الأخرى: (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا) [الفرقان: 40].
أيها المؤمنون: شرعنا شمل كل نواحي الحياة، وعم كل مفصل من مفاصل الكون؛ تنظيماً وتدبيراً، ولذا ففي مثل هذه الأحيان يجب أن نقف مع ما وقع بنا، فننظر في أنفسنا أين نحن من الشرع؟.
إن ما نزل من مطر، وما تبعه من جريان الأودية، والشعاب، وتدفق السيول، يوجب علينا النظر فيها من جهتين، الأولى: ما وقع من الخير بسببها، والثانية: ما حصل من الأضرار عقبها، ولكلٍ سبب، وفي كلٍ خير.
إن أول أمر لا بد أن نعيه، أن تدبير الكون بيده -سبحانه-، وأن العطايا من عنده تقدس اسمه-، فكم من مرة صلينا الاستسقاء، وما ازددنا إلا قحطاً، وذلك ليس بسبب الصلاة حاشا وكلا؛ بل بسبب استخفاف كثيرين بها, إذ جعلوها عادة لا عبادة، فلم يؤدوها على وجهها الأمثل، من تقديم الاستغفار والتذلل بين يدي الله، ثم الاستكانة إليه، فكم سمعنا من يقول: هذه المياه في جوف الأرض تصلها الآلات، والبحار ملآ يمكننا استعمال ماءها بعد التحليات، وهذا من قصر العقل، وسذاجة الرأي، والتواكل على الخلق.
ثم نفاجأ بأن يأتينا الغيث بغير استسقاء؛ ليكون درساً لنا أن الكريم عظم جوده لم يمنعنا القطر لعجزه، بل لسوء فعلنا، ومن الخير فيما نزل، أن يذكرنا الله -جل وعز- بالبعث بعد الموت، وهذا من مواطن زيادة الإيمان به؛ إذ يقول - تعالى-: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الروم: 50].
ومن الخير فيما نزل، كشف فساد بعض ذمم المسؤولين والمقاولين والمهندسين، الذين قاموا بتفيذ مشروعات تصريف السيول، وشق الطرق، وبناء السدود، فلا كثير من السيول صُرِفت، وكم من طرق قد تقطعت، وسدود لم تنفع فتفجرت، ألا فليتق الله هؤلاء، وليعلموا أنهم بين يدي الله موقوفون، وعما اقترفت أيديهم محاسبون.
ومن الخير فيما نزل، تلكم الصور المشرقة، والصفحات الناصعة، لشباب قدموا تضحيات عظيمة لإنقاذ العالقين والغرقى، وكذلك من بعض الأجهزة الحكومية الرسمية، وهو جهد عليه يشكرون، ويحسن بالمسؤولين أن يكرِّموهم، وأن يحتفوا بهم ويبجلوهم, فقد بذلوا جهدا عظيما، وقدموا عملا كريما، وهذا من التطوع الذي حث عليه الشرع، ولصاحبه أجر الصدقة إن احتسب الأجر، وأخلص النية، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجةٍ وأشار بأصبعه أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين"، ويقول أيضاً كما في البخاري ومسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجةِ أخيه كان الله في حاجته ومن فرجّ عن مسلم كربة فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة".
وغير ما ذكرت كثير من المنح الربانية، ضمن هذا الابتلاء الذي مر بنا.
نسأل الله بلطفه أن يرحمنا، وأن يعفو عنا، إنه عفو قدير.
أما بعد:
أيها المسلمون: نرى في كل حين ينزل علينا الغيث، مظاهر لا تسر العاقل، ويضيق بها صدر المسلم، أولها عدم مراعاة قواعد السلامة، وتجاهل الاحتياطات التي تجنب الوقوع في المصيبة، أو تخفف منها، وتجاهل الدعوات والتحذيرات التي تبثها الأجهزة الحكومية المتخصصة، والناس المعنيون بها، وإذا بنا نفجع بإزهاق أرواح معصومة، وتلف أموال محترمة، وقد جاء في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان في غزوة تبوك أنه قال: "قال أما إنها ستهب الليلة ريح شديدة، فلا يقومن أحد، ومن كان معه بعير فليعقله" "فعقلناها، وهبت ريح شديدة، فقام رجل، فألقته -أي: الريح- بجبل طيء"، فإذا جاء التحذير من عارف أو ناصح، فليتنبه الإنسان، وليأخذ حذره.
وأما المسؤولية فيما وقع من وفيات، وتلفيات، فإنها تنقسم بين المسؤولين الذين لم يُراعوا الأمانة الملقاة عليهم، وبين من يقتحمون الأخطار لا لشيء، إلا رغبة في الاستطلاع، وحبا في الاستكشاف الخاطئ.
ونرى آخرين حين يسمعون بنزول قطرتين أو ثلاث، يسارعون إلى أماكن الخطر والعطب أفرادا وعائلات، فيلقون بأنفسهم ومن ولاهم الله أمرهم إلى التهلكة، وأكثر المصائب التي سمعنا بها من هذا القبيل، وقد جاء في الشرع التحذير من المبيت والنزول في الأودية حال الخطر، ولذا يقول الشيخ محمد العثيمين -يرحمه الله- في شرحه لحديث جابر -رضي الله عنهما- في صفة حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قوله: "فأتى بطن الوادي" يعني وادي عرنة فنزل فيه -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه أسهل من الأرض الجرداء، إذ إن مجرى الوادي سهل لين. ففي هذا دليل على طلب السهل في النزول، ولكن لا يبيت الإنسان في مجارى السيول، لأن السيول قد تأتي بدون شعور، فيكون في ذلك ضرر، ولهذا نهي عن الإقامة فيها.
أما إقامة النبي -صلى الله عليه وسلم- هنا، فإنها إقامة قصيرة يسيرة، وإذا استدام المطر، وخُشي الضرر، فإنه يسن الدعاء بدعاء الاستصحاء "اللَّهمَّ حَوالَينا ولا علينا اللَّهمَّ على الآكامِ والظِّرابِ وبطونِ الأودِيَةِ ومنابتِ الشَّجرِ".
جنبنا الله وإياكم كل سوء، ووقانا من كل شر، وعافانا من كل بلاء. ثم أحيوا أيها المؤمنون قلوبكم ب "لا إله إلا الله"، ثم الصلاة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي