عبودية الشكر

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

عناصر الخطبة

  1. حقيقة الشكر
  2. أهمية الشكر وفضله وعظيم منزلته
  3. ثمرات الشكر
  4. التحذير من الجحود وعدم الشكر
  5. هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شكره لربه

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71)﴾[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

عباد الله: إن نعم الله علينا تترى، وآلائه علينا تتوالى، نعم عظيمة، ليس لها حد ولا عد، ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾[إبراهيم: 34]، وهي تحتاج منا إلى شكر المنعم، الذي منَّ علينا بهذه المنن.

والشُكر: هو الاعتراف بنعم الله -سبحانه- على وجه الخضوع، وإضافتها إلى مُوليها، قال ابن القيم: “الشكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناء واعترافا، وعلى قلبه شهودا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة”؛ فالشكر الحقيقي ليس كلمة تقال باللسان وكفى، وإنما يكون باللسان اعترافاً وثناءً وبالقلب شهوداً ومحبة وإقراراً، وبالجوارح انقياداً وطاعة؛ التزاماً بالأوامر، وابتعاداً عن النواهي.

والشُكر -كما يقول العلماء- مبني على خمس قواعد، وهي: خضوع الشاكر للمشكور، وحبّه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وأن لا يستعمل النعمة فيما يكره المُنعِم.

عباد الله: إن من أسماء الله -عزَّ وجل- الشاكر والشكور، قال -سبحانه-: ﴿وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾[النساء: 147]، وقال: ﴿إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾[فاطر:30]؛ فالرب -جل جلاله- متصفٌ بالشكر، ويحبُّ من اتَّصف بصفة الشكر من خلقه كما أن أبغضَ خلقه إليه من عطّل هذه الصفة أو اتَّصف بضدّها؛ فهو -سبحانه- شكور يحبّ الشاكرين له ولخلقه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناس“(صحيح أبي داود).

أيها الناس: لقد أمرنا ربنا -تعالى- بالشكر، فقال: ﴿وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾[النحل: 114]، وأمر به نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- فقال له: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[الزمر:66]، وقال: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾[الضحى:11]؛ أي: “اثنِ على الله بها”.

وقال لنبيه موسى -عليه السلام- ﴿فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[الأعراف:144]، وقال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾[لقمان: 14].

وأثنى على خليله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بهذه الصفة العظيمة فقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ(121)﴾[النحل:120-121]، ووصف سيدنا نوح -عليه السلام- بكثرة الشكر لربه فقال عنه: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾[الإسراء: 3].

ولقد تحدث القرآن عن الشكر في آيات كثيرة؛ فمرة يأمر بالشكر وينهى عن ضده، يقول الله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾[البقرة: 152]، وأخبر -سبحانه- أن الشاكرين هم أهل عبادته فقال: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾[النحل:114]، وقسّم الله الناس قسمين: شكور وكفور، فقال: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾[الإنسان:3].

إن ربنا -سبحانه- يحب أن يحمد ويشكر على فضله، قال -سبحانه-: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾[الزمر:7] وإن كان -سبحانه- غني عن شكر الشاكرين فلا يزداد ملكه شيئاً بشكر الناس له، كما أنه لا يتضرر بكفرهم؛ والمنتفع بالشكر أولاً وآخراً هو الإنسان نفسه، كما أنه المتضرر بالكفر، قال -سبحانه-: ﴿وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾[النمل:40].

فهذه النصوص المتعددة عن الشكر تدلنا على أهميته، وفضله، وعظيم منزلته عند الله -سبحانه-.

عباد الله: إن الشكر من العبادات القلبية العظيمة التي يحبها الله فيكرم أهلها خيراً في الدنيا والآخرة، ولذا فلشكر الله على نعمه ثمرات عظيمة، منها:

أنه سبب لرضى الله عن عبده، قال -تعالى-: ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾[الزمر: 7].

الشاكرون هم المخصوصون بفضل الله ومنته عليهم من بين عباده فقال: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾[الأنعام:53].

الشكر أمان من عذاب الله، قال -سبحانه-: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾[النساء: 147]، قال قتادة: “إن الله جل ثناؤه لا يعذِّب شاكرًا ولا مؤمنًا”، وهو سبب لحفظ النعم، وزيادتها؛ فإن شُكرت قرّت واستقرت، وإن كُفرت زالت وفرت، قال -تعالى-: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾[إبراهيم: 7].

وللشاكرين الأجر الكبير؛ فقد أطلق -سبحانه- جزاء الشاكرين إطلاقاً، ووعدهم بأحسن الجزاء وأوفاه، وجعل أجرهم عليه، فقال: ﴿وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ﴾[آل عمران:144]، وقال: ﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾[آل عمران:145].

أيها المسلمون: إن قلوبنا غافلة عن شكر نعم الله التي نعيشها اليوم في واقعنا؛ فلنسأل أنفسنا هل شكرنا ربنا على نعمة الإسلام؟ هل شكرناه على نعمة الهداية والتوفيق لأداء الطاعات؟ لنسأل أنفسنا من سوّانا؟ من خلقنا وصورنا؟ من آوانا؟ من كفانا؟ من كسانا وأطعمنا؟ من يسر أمورنا؟ من أعاننا وأغنانا؟ هل شكرنا ربنا على هذه النعم ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[النحل:78]، وقوله: ﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[القصص: 73].

أقول ما سمعتم وأستغفر الله…

الخطبة الثانية:

الحمد لله الكريم المنان واسع العطاء والإحسان، والصلاة والسلام على سيد الشاكرين، نبينا محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

عباد الله: إن العبد إذا شكر الله على ما أعطاه من النعم آتاه الله أشرفَ منها، وإذا جحد نعم الله عليه استدرجه بهذه النعم، يقول الحسن: “إن الله يمتِّع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يشكر عليها قلبها عذابًا“، وإذا رأيت ربَّك يوالي عليك نعمَه وأنتَ تعصيه فاحذره؛ لأن ذلك استدراج منه، قال -سبحانه-: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[القلم:44]، قال سفيان: “أي: يُسبغ عليهم النعم ويمنعهم الشكر“.

ومن جحود النعمة وعدم شكرها: نسبتها إلى غير خالقها؛ فعن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- قال: صلى بنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: “هل تدرون ماذا قال ربكم؟” قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: “قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب“(البخاري ومسلم).

ومن جحود النعمة: استعمالها في معصية الله؛ فإذا أنعم الله عليك بنعمة فلتكن نعمته عوناً لك على طاعته، وتحقيق عبادته، قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾[التكاثر:8]، يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم، أن يقال له: ألم نصلح لك جسمك ونرويك من الماء البارد“(صحيح الجامع).

ومن جحود النعمة: أن يزدري العبد نعمة الله عليه ويحتقرها، فينظر دائماً لمن هو أعلى منه شأناً وأحسن حالاً، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “انظُروا إلى من هو أسفَل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فَوقَكم؛ فهو أجدَر أن لا تزدَروا نعمةَ الله عليكم“(رواه البخاري)؛ فلن يعرف الإنسان قدر نعمة الله عليه إلا إذا نظر لمن هو أسوأ حالاً منه.

اعلموا أن إبليس تعهد بصدكم عن شكر ربكم -تعالى- بكل الطرق والمحاولات، قال الله على لسانه: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾[الأعراف: 17]؛ ولذا نحن بحاجة إلى عون من الله ليوفقنا لهذه العبادة؛ فلا بد من اللجوء إليه -سبحانه- طلباً للعون والتأييد والتوفيق، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك“(رواه النسائي).

إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى *** فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ

وليكن لنا في رسولنا -صلى الله عليه وسلم- قدوة حسنة في شكره لربه، حيث قام من الليل حتى تفطرت قدماه، فلما قيل له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال -صلوات ربي وسلامه عليه-: “أفلا أكون عبدًا شَكُورًا؟!“(رواه البخاري).

بل كان -صلى الله عليه وسلم- إذا تجددت له نعمة، أو اندفعت عنه نقمة، خر ساجداً لله سجود شكر، كما في حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “كان إذا جاءه أمر يُسرّ به خر ساجداً شكراً لله تعالى“(رواه أبو داود) “وأتاه بشير يبشره بظفر جندٍ له على عدوهم، وكان رأسه في حجر عائشة فقام وخر ساجداً -صلى الله عليه وسلم-“(رواه أحمد).

ومن تأمل أدعية النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى أنها لا تكاد تخلو ابتداء من حمد الله وشكره، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعاء الاستفتاح: “اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءُ الأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ…”(رواه مسلم).

وأرشدنا -عليه الصلاة والسلام- إلى دعاء عظيم نقوله في كل صباح ومساء، فقال -صلى الله عليه وسلم-: “من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر ذلك اليوم، ومن قالها حين يمسي أدى شكر تلك الليلة“(رواه النسائي).

صلوا وسلموا على النبي المصطفى ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[الأحزاب:56].


تم تحميل المحتوى من موقع