اعلموا أن أمنية رضا الله، والفوز بجنته، لا تنال بإيمان القلب وحده، وإنما تنال بطاعة الله، فها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدل الصحابي الجليل على الطريق إلى ذلك، فيقول له: "فأعني على نفسك بكثرة السجود". ولا ننسى أن من معاني السجود الخضوع لأمر الله، وطاعته في السر والعلانية، فليس المراد من...
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، والعمل بطاعته، والحذر كل الحذر من مخالفته ومعصيته، قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النــور: 63].
أيها الإخوة والأخوات في الإسلام: بين أيدينا الآن حديث نبوي شريف يحمل البشرى لكل مسلم ومسلمة، والبشارة طبعاً لا تكون إلا لمن كان مسلماً، وتلك هي الغاية المثلى من بعثة الأنبياء والمرسلين على مر العصور والأزمان، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) [البقرة: 213].
وقال تعالى في حق رسوله -صلى الله عليه وسلم- سيدنا محمد: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [الأحزاب: 45 – 48].
فاسمعوا معي -رحمكم الله- إلى هذا الحديث النبوي الشريف الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: "كنت أبيت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال لي: "سل؟" فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: "أو غير ذلك؟" قلت: هو ذاك، قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود".
أيها المسلمون: بعد أن استمعنا إلى نص الحديث، تعالوا بنا لنستفيد منه الفوائد الكبيرة، والمعاني العظيمة، كيف لا وهو قول من لا ينطق عن الهوى، ومن جاء من عند الله -تعالى-بالحجة والهدى والشريعة المثلى، فهذا الصحابي الجليل ربيعة بن كعب الأسلمي كان من فقراء الصحابة.
ولا ننسى -أيها الإخوة المؤمنون- أن الفقراء هم أول أتباع الرسل والأنبياء، وهم الذين يسارعون إلى الإيمان والتصديق بما جاء من عند الله -تعالى-؛ لأنهم كانوا مضطهدين في قومهم كما هم دائماً، يحسون بالظلم بل يعيشون صباح مساء في ظلم الأسياد والكبراء من الأغنياء والمترفين، قال تعالى حكاية عن قوم نوح: ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)[الشعراء: 111 – 115].
وجاء كفار قريش يطلبون من الرسول -صلى الله عليه وسلم- إن أرادوا أن يدخلوا في دينه -ألا يجمع بينهم وبين الفقراء والعبيد في مجلس واحد، فأنزل الله -تعالى- عليه ناهياً إياه عن سماع طلب الكفار هذا؛ لأن أولئك الفقراء أعظم منزلة عند الله من هؤلاء الأغنياء المتكبرين على الخضوع لأمر الله، قال سبحانه: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 52].
فربيعة بن كعب الأسلمي كان من فقراء الصحابة، وكان من أهل الصفة الذين يأوون إلى مكان في مسجد الرسول، سُمي بالصفة؛ لأنه ليس لهم بيت يؤويهم، وكان ربيعة ملازماً لخدمة الرسول يبيت عند باب بيته؛ لأداء خدمته، فيأتيه بما يطلب من ماء للوضوء وغير ذلك، وبقي على هذه الحالة حتى انتقل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى، وما أشرفها من خدمة، وما أعظمها من مهنة! وما أكرمه من عمل! وقد لاحظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- حرص هذا الصحابي على خدمته، فأراد أن يكرمه بأمر يفرحه به ويخفف عنه فقره، ولكنه ترك اختيار ذلك لربيعة، فقال له: "سل" أي اطلب ما تحتاجه وتتمناه نفسك، ولعل أول ما يتمناه الفقير المعدم: أن يرزق مالاً وبيتاً يسكنه، وهو طلب لا عيب فيه بالنسبة لفقير محتاج، هذا من جهة.
كما نلاحظ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو المخدوم لم يرض أن يستغل خدمة الرجل دون أن يكرمه، كما هو حال أكثر أغنيائنا اليوم، فهم يحبون دائماً أن يكونوا مخدومين دون أن يقدموا لمن يخدمهم أي تكريم، بل حتى أي حق من حقوق الخادم العامل ليل نهار.
وفي هذا درس لمن كان مخدوماً من طرف خدامين، سواء في البيت أو في العمل، أن يكرموا من يخدمهم ويؤدوا لهم حقوقهم كاملة غير منقوصة.
فما تظنون -معشر المسلمين والمسلمات- أن يكون طلب الصحابي وأمنيته من طرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
لقد كان ربيعة الصحابي الخادم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتطلع لأعظم أمنية لا يفكر، ولا يريد غيرها، فأجاب رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: "أسألك مرافقتك في الجنة".
الله! فهو لا يسأل بلوغ الجنة فحسب، وإنما يسأل الفردوس الأعلى، ليكون مع رسول الله فلا يفارقه أبداً، وأدرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه طلب لا يدرك إلا بعد عناء وجهد، وليس أمراً قريب المنال، والله -سبحانه- هو الذي يعطي هذه المنزلة لمن هو أهل لها، فقال له: "أو غير ذلك؟" يعني مما هو أهون أو أقل، وألح الصحابي ربيعة على طلبه، وقال للرسول -صلى الله عليه وسلم-: "هو ذاك".
وذاك اسم إشارة للبعيد ليدل على تطلعه لهذه الأمنية، مهما بعدت، وصعب الوصول إليها.
لكن الله -تعالى- لا يصعب عليه شيء.
وهنا يأتي الدرس النبوي التربوي لربيعة، ولكل من يتمنى أمنيته العظيمة، فيقول له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "فأعني على نفسك بكثرة السجود".
أي إذا أردت الوصول إلى هذه الأمنية، بأن تكثر من الصلاة، وتتقرب إلى الله بمناجاته، فكل سجدة تسجدها لربك تزداد منه قرباً، وتنال بها جنته ورضوانه، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وقد روى الإمام مسلم عن ثوبان قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، ومحا عنك بها خطيئة".
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين، وبحديث سيد الأولين والآخرين، وأجارني وإياكم من عذابه المهين.
أما بعد:
عباد الله: لكل إنسان أمنية في حياته يسعى من أجلها، ويحرص على بلوغها، ويضحي بكل ما لديه ليصل إليها، والشباب عموماً أكثر تطلعاً للأماني، وأكثر همة في السعي إليها، وأمنيات شبابنا اليوم هي الحصول على شهادة عليا، وزواج ومنصب ومال، ومنزل فاخر، وسيارة مريحة، ومكانة اجتماعية، وغير ذلك من الأماني الدنيوية التي لا حصر لها، ولا حد لنهايتها.
وقليل قليل من الناس من تجده يتمنى الأمنية العظمى، وهي نيل رضا الله، وبلوغ جنته التي أعدها للصالحين من عباده.
فإذا تمنى المسلم والمسلمة أمنية دنيوية مباحة، فلا ينبغي له أن يتخذها هدفاً كلياً، ومقصداً نهائياً، وإنما هي وسيلة من وسائل هذه الحياة وزينتها التي أكرمنا الله بها، لنشكره عليها ونسخرها في طاعته.
ولكن لا يجب أن تشغلنا عن الهدف الأسمى الذي شمّر من أجله الصالحون، فأسهروا ليلهم، وأظمأوا نهارهم، وبذلوا أرواحهم وأموالهم، لكي يصلوا إليها، فلما فازوا بأمنيتهم سعدوا أعظم السعادة، ونسوا كل ما أصابهم من هموم الدنيا وأكدارها.
ولذلك كان أحدهم إذا أصيب في المعركة، وأدرك أنه نال الشهادة في سبيل الله، يصبح فرحاً مسروراً قبل أن تخرج روحه، فيصيح: "فزت ورب الكعبة، غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه".
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن أمنية رضا الله والفوز بجنته لا تنال بإيمان القلب وحده، وإنما تنال بطاعة الله، فها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدل الصحابي الجليل على الطريق إلى ذلك، فيقول له: "فأعني على نفسك بكثرة السجود".
ولا ننسى أن من معاني السجود الخضوع لأمر الله وطاعته في السرو العلانية، فليس المراد من السجود المذكور في الحديث ذلك السجود الصوري الخالي من الخضوع، والخوف من الله -عز وجل-، بل هو السجود الذي يكون بأداء ما فرض الله، والابتعاد كل البعد عما حرم الله، والتواضع لعظمة الله، قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي