إن الإحسان إلى اليتيم خُلق إسلامي رفيع, حثنا الإسلام عليه وندبنا إليه, بل وجعله من أفضل الأعمال وأزكاها، والاهتمام باليتامى، والوقوف على شؤونهم مدح شرف، ومنقبة وثناء، فهذه نساء قريش كن محل مدح ووفاء، وإعجاب وثناء منه -عليه الصلاة والسلام- لرعايتهن اليتامى...
الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، الملك العلي الأعلى، أحمده تعالى وأشكره، وأستعينه وأستهديه وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أرجو بها النجاة من أهوال يوم القيامة، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الهادي البشير، والسراج المنير، أرسله الله إلى الناس كافة؛ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، فبلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وترك الناس على النهج القويم، والصراط المستقيم على أبيض محجة، وأنصع رسالة، وأقوم سبيل، فصلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا كل ما يجلب سخط الله -جلَّ جلاله-؛ من الوقوع في معاصيه والتقصير في طاعته.
عباد الله: اهتم الإسلام بشأن اليتيم اهتماماً بالغاً؛ من حيث تربيته ورعايته ومعاملته وضمان سبل العيش الكريمة له، حتى ينشأ عضواً نافعاً في المجتمع المسلم، قال تعالى: (فَأمَّا اليَتِيم فَلاَ تَقهَر) [الضحى:9]، أي لا تذله وتنهره وتهنه، ولكن أَحسِن إليه وتلطف به، وكن لليتيم كالأب الرحيم.
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- أرحم الناس باليتيم وأشفقهم عليه، حتى قال حاثًّا على ذلك كما في حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال -عليه الصلاة والسلام-: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً" [البخاري (6005)]، فكافل اليتيم رفيق النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في الجنة؛ لأن النبي -عليه أفضل الصلاة السلام- أشهر يتيم في الإنسانية، وقد عاش اليتم أبًا وأمًّا، وذاق مرارة ذلك، ففوق أنه مبلغ عن الله تعالى ومخبر عنه، فهو يتحدث من خلال تجربة واقعية عاشها، ومرحلة شاقة خاضها.
عباد الله: يقول الله تعالى محذرًا من التكذيب بالدين موضحًا بعض العلامات على ذلك، قال: (أَرَأيتَ الّذِي يُكَذّبُ بالدّينِ * فَذَلِكَ الّذِي يَدُعُ اليتيمَ) [الماعون:1-2]، إن من علامة من يكذب بالدين ومن صفاته القبيحة؛ أنه لا يرعى لليتيم حرمة، فهو يدفعه بعنف وشدة، ولا يرحمه لقساوة قلبه، ولأنه لا يرجو ثوابًا، ولا يخشى عقابًا، ويسد كل باب خير في وجهه.
وهذه الآية والتي قبلها تؤكدان على العناية باليتيم والشفقة عليه، كي لا يشعر بالنقص عن غيره من أفراد المجتمع، فتتحطم نفسه، ويسوء حاله، ويصبح عضواً هادماً في المجتمع المسلم.
عباد الله: اليتامى هم أطفال ابتلاهم الله -سبحانه- بموت الأبوين أو أحدهما؛ فحُرموا الأبوة والرعاية، والدفء والحنان، فدعا الله -سبحانه- المؤمنين لأن يقوموا بهذا الدور الأبوي العظيم، والعمل الإنساني الفضيل؛ إحسانًا منهم وتفضلاً، وشكرًا على ما أولاهم من فضله، ولم يبخس الله تعالى معروف المحسنين، بل كان جزاؤهم أن جعل الإحسان إلى اليتامى نجاة لهم، نعم فأهوال القيامة العظيمة وكرباتها الشديدة قد جعل الله لكافل اليتيم منها نجاةً ومخرجًا، قال تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد:11-16].
وكفالة اليتيم تكون بضمّ اليتيم إلى حِجْر كافله أي ضمه إلى أسرته، فينفق عليه، ويقوم على تربيته، وتأديبه حتى يبلغ؛ لأنه لا يُتْمَ بعد الاحتلام والبلوغ، وهذه الكفالة هي أعلى درجات كفالة اليتيم، حيث إن الكافل يعامل اليتيم معاملة أولاده في الإنفاق والإحسان والتربية وغير ذلك، فالصحابة -رضي الله عنه-م كانوا يضمون الأيتام إلى أُسَرِهم.
وفي صورة أخرى من صور الإحسان إلى الأيتام أمر الله -عز وجل - بحفظ أموال الأيتام، وصيانتها، وعدم التعرض لها بسوء ورتب عليه أشد العقاب، قال تعالى: (إنّ الذِينَ يَأكُلُونَ أَمَوالَ اليَتَامى ظُلماً إنّما يَأكُلُون في بُطُونِهِم ناراً وسَيصلَونَ سَعِيراً) [النساء:10]، أوصى الله تعالى بالإحسان إلى اليتيم الذي ترك له والده مالاً برعاية هذا المال وتنميته وتثميره وعدم الاعتداء عليه بأي صورة من الصور، كما قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) [الإسراء:34].
وقد عدَّ الإسلام ذلك من كبائر الذنوب وعظائم الأمور، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" [البخاري: (2766)، ومسلم: (89)]. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالْمَعْرُوفِ) [النساء:6]، أنزلت في والي اليتيم الذي يقيم عليه ويصلح في ماله، إن كان فقيرًا أكل منه بالمعروف [البخاري: (2212)].
واستمراراً لحرص التشريع الإسلامي على أموال اليتامى، أمر باستثمارها وتنميتها حتى لا تستنفدها النفقة عليهم، فلقد ورد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "ألا من ربى يتيماً له مال فليتجر به، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة". ومن هنا يلزم الولي على مال اليتيم استثمارها لمصلحة اليتيم على رأي كثير من أهل العلم بشرط عدم تعريضها للأخطار.
وأكد الرسول -صلى الله عليه وسلم- على كفالة اليتيم، وضمّه إلى بيوت المسلمين، وعدم تركه هملاً بلا راعٍ في المجتمع المسلم؛ حتى لا ينعكس ذلك على نفسيته وأخلاقه في مستقبل أمره، وحتى لا يأخذ نظرة قاتمة على المجتمع حوله، ولهذا كان خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يُحسن إليه، فقد ورد من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خير بيت في المسلمين بيتٌ فيه يتيم يحسن إليه، وشرّ بيت في المسلمين بيتٌ فيه يتيم يساء إليه" [أخرجه ابن المبارك: (654)، والبخاري في الأدب المفرد: (137)].
كما جعل الإحسان إلى الأيتام والحنو عليهم علاجاً لقسوة القلب، ودواء لصلابتها، فقد شكا رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قسوة قلبه فأوصاه أن يمسح رأس اليتيم، روى أبو هريرة أن رجلاً شكا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قسوة قلبه، فقال: "امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين" [السلسلة الصحيحة (854)]، نعم، امسح رأسه، واقترب منه، وابتسم له، وطيِّب خاطره، وأدخل البهجة على روحه الظامئة بكلمة باسمة؛ تجد ثمرة ذلك عاجلة من الرحمن الرحيم.
عباد الله: إنَّ العلاقات الإنسانية تحقق كل مجدّ لها حين تضفي على هذا اليتيم المحروم من حنانها ودفئها، والرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يقتصر على دعوة أمته إلى هذا الخير الكبير، وإرشادهم إلى هذا الخلق النبيل، بل كان له قدم السبق واليد الطولى، حيث دعا إلى رعاية اليتيم بفعله قبل قوله، فمن ذلك ما فعل بأولاد أبي سلمة عبدالله بن عبد الأسد بن هلال المخزومي -رضي الله عنه- الذي مات سنة 4هـ عن أولاد صغار، وعن زوجته الكريمة أم سلمة -هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية- فيتم الأطفال، وتأيمت المرأة، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بكفالتهم جميعًا كما يكفل أبناءه.
ولما علم بانقضاء عدة أم سلمة -رضي الله عنها- أرسل إليها يخطبها؛ ليكفلها وأولادها، وقال لها لما أرادت أن تعتذر إليه بغيرتها وكثرة صبيانها: "أما قولك: غَيْرَى، فسأدعو الله فتذهب غيرتك، وأما قولك: فإني امرأة مصبية فستكفين صبيانك" [ضعيف النسائي: (3254)]، فرضيت وتزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- وعال أيتامها.
وهكذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُعنى بالأيتام بنفسه الشريفة؛ ليكون أسوة للأمة في العناية بهم وجبر كسرهم وسد عوزهم.
ولما مات جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- تعهد الرسول أولاده وأخذهم معه إلى بيته، فلما ذكرت أمهم من يتمهم وحاجتهم، قال: "العيلة -يعني الفقر والحاجة- تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة" [قال الهيثمي (6/157): رجالهما رجال الصحيح].
ولقد تمثل المجتمع المسلم تلك التوجيهات عملياً بدءاً من عصر الصحابة -رضوان الله عليهم- حتى يومنا الحاضر، فلقد ثبت أن هناك العديد من الصحابة والصحابيات كفلوا أيتاماً ويتيمات وضموهم إلى بيوتهم، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: أبو بكر الصديق، ورافع بن خديج، ونعيم بن هزال، وقدامة بن مظعون، وأبو سعيد الخدري، وأبو محذورة، وأبو طلحة، وعروة بن الزبير، وسعد بن مالك الأنصاري، وأسعد بن زرارة، وعائشة بنت الصديق، وأم سليم، وزينب بنت معاوية -رضي الله عنهم- وغيرهم كثير وكثير جدًّا من الصحابة -رضوان الله عليهم- والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: تعالوا بنا لنبحر سويًّا؛ حيث ترسو بنا سفينتنا على خير القرون، وعمدة هذه الأمة، إلى مجتمع الصحابة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليهم رضوان الله لنستعرض مشهدًا من مشاهد الإذعان والانقياد والمسارعة إلى هذه الفضيلة؛ حيث يروى لنا ابن عباس-رضي الله عنه- قال: لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء:10]، انطلق من كان عنده اليتيم فعزل طعامه وشرابه، فجعل يفصل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنزل قول الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة:220] [صحيح أبي داود: (2871)].
نعم إنها المسارعة إلى الطاعة، إنه انصياع الصحابة للأمر الإلهي، بمجرد أن نزلت الآيات هرع من عنده يتيم منهم فعزل طعامه وشرابه؛ حتى لا يختلط بغيره من الطعام فيحدث جورا على طعام أو مال اليتيم.
ثم لما كان التشريع الإسلامي يراعي مصالح البلاد والعباد شرَّع المولى -تبارك وتعالى- من الأطر والأسس ما يصون ويحفظ حق اليتيم من طعام وشراب ومال، فلا يضيع حقه ويختلط بغيره من أموال كافله فنزلت الآية الأخرى توضح هذا الإطار وترفع عن كافل اليتيم الحرج والمشقة التي تتأتى من عزل طعام اليتيم وشرابه، وأيضًا لتحافظ على طعامه وشرابه من التلف إذا أمسك الطعام عليه فقط.
ولا يحملنا الخوف من الشطط في مال اليتيم ألا نقوم عليهم ولا نسعى على كفالته بحجة ظلمهم؛ بل اسع لهذا الخير كما تسعى أيضا أن تتعفف ما استطعت من ماله، فلنا في سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- خير أسوة في أمره، وأفضل أسوة في فعله، وهكذا من سبقنا من الصحابة ومن تبعهم؛ فهم لنا أعلام؛ فهذا ابن عمر -رضي الله عنهما- كان لا يجلس على طعام إلا على مائدته أيتام.
وبينما حذَّرت الآية الأولى من أكل أموال اليتامى ظلمًا لتحافظ، وتصون حقوق اليتيم؛ جاءت الآية الأخرى لتضع أطرًا للتعامل بين اليتيم ووليه، ولترسم صورة عملية لهذه العلاقة تطبق على أرض الواقع قولاً وفعلاً فترفع الحرج بينهما، وتزيل المشقة، وتوطد أواصر الألفة والمحبة بينهما.
فهلا اتقينا الله في أموال اليتيم وفي طعامه وشرابه وحاله وماله، فنحافظ على أموالهم، ونرعاهم حتى يشبوا فيكبروا فنُسلِّم لهم أموالهم، فهم أمانة في أعناقنا وجب علينا رعايتها حتى بر الأمان طاعة لله وقربة من الله وحصنًا لنا من الظلم والوقوع في الظلم، فالظلم ظلمات يوم القيامة.
نسأل الله أن يجعلنا من المحسنين إلى الأيتام والأرامل، ونعوذ بالله من الإساءة إليهم وسوء الأخلاق يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير، وسلم تسليمًا.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظموه حق تعظيمه، وأثنوا عليه بما هو أهله، وأحسنوا إلى أرحامكم، واعلموا أن الشرع الإسلامي أكّد على رعاية اليتيم والعناية المستمرة به وحفظه، ومن الأدلة على ذلك وردت كلمة اليتيم ومشتقاتها في ثلاث وعشرين آية من آيات القرآن العظيم، وبالنظر في نصوص القرآن العديدة في شأن اليتيم، فإنه يمكن تصنيفها إلى خمسة أقسام رئيسة، كلها تدور حول: دفع المضار عنه، وجلب المصالح له في ماله، وفي نفسه، وفي الحالة الزوجية، والحث على الإحسان إليه، ومراعاة الجانب النفسي لديه.
عباد الله: الأدلة المتعلقة برعاية اليتيم متضافرة وكثيرة؛ فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا". وَأشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئاً". [البخاري: (5304)، واللفظ له، ومسلم: (2983)]، قال ابن بطال: "حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به؛ ليكون رفيق النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة، ومنزلة في الآخرة أفضل من ذلك".
وهل هناك أغلى ثمنًا، وأكبر جزاء، وأنفس عطاء، يتطلع إليه الصالحون أفضل من جنة الله إلا أن يكون النظر لوجه الله الكريم، لذا فإنَّ الفوزَ بالجنة منحة ربانية مباركة عظيمة، يمنحها الله لهذه الأمة المسلمة العظيمة؛ ليرسى دعائم الحب والوئام والتراحم، ويقضى على حب الذات وحب النفس يقضي على الذاتية والأنانية، نعم إنها المدينة الفاضلة التي أرسى دعائمها الإسلام مدينة ربانية على أسس إلهية المصدر وربانية التشريع.
قد يرغب محب الخير أن يعرف السر في بلوغ الكافل هذه المنزلة العظيمة، والرتبة الشريفة ليكون قريناً لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في المقام العظيم. قال أهل العلم: إنَّ محمداً -صلى الله عليه وسلم- كتب الله على يديه هداية قوم كانوا في ضلال مبين، قام عليهم، وأصلح شأنهم، علَّمهم وأرشدهم، ودلَّهم على الحق والطريق المستقيم؛ وكذلك كافل اليتيم، يحفظ يتيمه في حال صغره حين لا يعقل ولا يفقه، فيدله ويهديه، ويهذبه ويربيه، فإذا بلغ مبلغ الرجال، كان رجلاً سوياً، محفوظ الحقوق، موفور الكرامة، مع ما يتحمَّل الكافل من تبعات الوصاية والرعاية، وشؤون التربية وحسن العناية، وما يحف بذلك من تقوى ونزاهة وعفاف.
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال -عليه الصلاة والسلام-: "أدْنِ اليَتِيمَ مِنْكَ وأَلْطِفْهُ وامْسَحْ بِرَأسِهِ وأَطْعِمْهُ مِنْ طَعامِكَ فإنَّ ذَلِكَ يُلَيِّنُ قَلْبَكَ ويُدْرِكُ حاجتك" [الصحيحة (854)].
عباد الله: إن الإحسان إلى اليتيم خُلق إسلامي رفيع، حثنا الإسلام عليه وندبنا إليه، بل وجعله من أفضل الأعمال وأزكاها، والاهتمام باليتامى، والوقوف على شؤونهم مدح شرف، ومنقبة وثناء، فهذه نساء قريش كن محل مدح ووفاء، وإعجاب وثناء، منه -عليه الصلاة والسلام- لرعايتهن اليتامى؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على يتيم في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده" [البخاري (3434) ومسلم (2572)].
هناك أمور متنوعة ومجالات متعددة يسع المسلم فيها أن يقدم نفعًا لليتامى؛ لتجعل من نفسك يومها ممن أشاد الإسلام بهم في رعاية الأيتام، وبالتالي تحض بالفضل المترتب على ذلك.
أخي الكريم: صل اليتيم وأشعره بالرعاية، وأشعره بالاعتناء، ويكون ذلك بزيارة مؤسسات رعاية الأيتام، وفيها نعطف على اليتيم ونحصد الحسنات والمنح التي وهبنا الله إياها؛ خصوصًا في أيامنا المناسبات الإسلامية فنرسم البسمة على شفاههم ونملأ قلوبهم بالحب والانتماء لمجتمعهم، فنعوضهم عن فقدان الوالد أو الوالدة.
عباد الله: وتتنوع صور كفالة اليتيم، فمنها الكفالة الكلية أو الجزئية، فيمكن لأهل الخير ولأهل المال الموسرين القادرين أن يكفل طفلاً يتيمًا؛ فيتكفل بمصروفاته وحاجاته من ملبسٍ ومأكلٍ ومشربٍ حتى يبلغ رشده ويشتد عوده.
وهناك كفالة الاحتضان: وهي أحد صور كفالة اليتيم، وتتم من خلال احتضان يتيم ليعيش مع الأسرة، فيسكن معها فيشرب مما يشربون، ويأكل مما يأكلون، ويلبس مما يلبسون، على أن تراعي الضوابط الشرعية التي تمنع التبني الذي يدخل اليتيم في نطاق مشاركة الأسرة في الميراث، فهذا مما لا يقره الإسلام؛ حيث إنَّ اليتيمَ لا يُعدُّ فردًا من أفراد الأسرة يرث كما يرثون.
ومن طرق الإحسان إلى اليتيم: المساهمة في دعم جمعيات رعاية الأيتام، وذلك من خلال الدعم المادي والمعنوي والإداري؛ كأن يشارك في برامج الرعاية المعنوية والدينية لتربية اليتيم على أسس تربوية إسلامية.
ومن التواصل بين اليتيم وكافله أن توثق عرى المحبة والتواصل والتراحم بينهما فلا يصبح اليتيم عالة على الأسرة، ولا يشعر مع ذلك رب الأسرة بالمشقة كما لا يشعر اليتيم بالعزلة في مأكله ومشربه فتتسع الفجوة، وينشأ الجفاء بين اليتيم والأسرة التي يعيش في كنفها إن كان عمه أو خاله أو غيرهما.
وأنصحك -أخي- أن تضع في مخيلتك دائمًا، هذا الحديث، وارسم في دربك هذا المحفز، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي بعثني بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم، ولان له في الكلام ورحم يتمه وضعفه، ولم يتطاول على جاره بفضل ما آتاه الله" [الهيتمي المكي في الزواجر (1/252) رواته ثقات إلا واحدًا ومع ذلك ليس بالمتروك].
إن طرق الرعاية كثيرة وسهلة، وهي في حد ذاتها لا تفقر ولا تظني، وجزاء ذلك عند الله مغري، ومكافأته تغني، ولو إننا أمعنا النظر لوجدنا الكثير من الفضائل التي تعود على الفرد والمجتمع من فضيلة كفالة اليتيم ووصله، حيث وضع الإسلام حوافز تحث على السعي بل المسارعة إلى كفالة اليتيم ورعايته ووصله بشتى أنواع الرعاية والوصل؛ سعيًا للفوز بهذه الحوافز وطلبًا لرضا الله وانصياعًا لأوامر الشرع.
تلك هي قيم الإسلام، وسمو الإسلام، ومثالية الإسلام، وتلك هي أسس ودعائم الاستقرار للمجتمعات كما شرعها الإسلام، حض على الرحمة باليتيم، وحض على حقوق الجار، وحض على التواضع، ونبذ الكبر والفخر، والتطاول على الجار بفتنة المال والغنى.
فهلا سعينا لنيل الفضل واقتناص الفرص ونلنا الأجر العظيم في هذه الأيام المباركة، وهلا سعينا للفوز بالجنة بكفالة اليتيم ووصال اليتيم، وهلا جعلناه عيد رحمة باليتيم، عيد وصال مع اليتيم، عيد كفالة لليتيم، عيد رعاية لليتيم.
إنّ كافل اليتيم وراعيه، يعرض نفسه لمنح ربانية، وعطاءات إلهية، وسيلة للطاعات والقربى والزلفى من الله -تبارك وتعالى-؛ فهل بعد كل هذه العطايا والمنح يتكاسل عاقل عن رعاية اليتيم وكفالته إنها فرص أغلى من الذهب.
فاحرصوا -أيها الإخوة- على كفالة اليتيم، واعلموا أن هذا باب واسع لرضا الله -سبحانه-، ثم دخول الجنة.
نسأل الله أن يجعلنا من المحسنين إلى الأرملة واليتيم والمسكين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر يا رب العالمين. اللهم ارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي