إن التشيع الصفوي ما استلب إيران في القرن العاشر، وقتل فيها مليون مسلم سني إلا ليعيد مملكة ساسان، وكانت عينهم منذ انتزعوا بلاد فارس على العراق، وزحف إسماعيل الصفوي بجيوشه عليها فاحتلها، واستباح أهلها، ونبش قبر الإمام أبي حنيفة النعمان نكاية بأهل السنة، إلى أن طرده العثمانيون منها في معركة جاليدران، ولكن الصليبيين رأوا في الباطنيين خير حليف لهم على كسر المسلمين؛ ولذا تحالفوا معهم، ومكنوا لهم، وأمدوهم بما يحتاجون في القديم والحديث. وثورة العمائم الصفوية مطلع هذا القرن الهجري على حكم الشاه العلماني ما جاءت إلا من فرنسا التي يسمونها بلاد الأنوار ومهد العلمانية..
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، ذِي السُّلْطَانِ وَالْقَهْرِ وَالْقُوَّةِ، وَصَاحِبِ المَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعِزَّةِ (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [يونس: 3]، نَحْمَدُهُ فَهُوَ أَهْلُ الْحَمْدِ، وَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَهُ المُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، عَلَانِيَتُهُ وَسِرُّهُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ قَاصِمُ المُتَجَبِّرِينَ، وَكَاسِرُ المُتَكَبِّرِينَ، وَأَمَانُ الْخَائِفِينَ، وَمُجِيرُ المُسْتَجِيرِينَ "إِذَا قَضَى الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ) [سبأ: 23]".
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَلَّ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، وَجَاءَ بِالْحَقِّ الْيَقِينِ، وَالنُّورِ المُبِينِ، فَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ كَانَ مِنَ المُهْتَدِينَ المُفْلِحِينَ، وَمَنْ حَادَ عَنْهَا كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ الْهَالِكِينَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِقُلُوبِكُمْ، وَاشْكُرُوهُ فِي نَعْمَائِكُمْ، وَلُوذُوا بِهِ فِي ضَرَّائِكُمْ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ لِلَّهِ -تَعَالَى-، وَالْخَلْقَ كُلَّ الْخَلْقِ يَسِيرُونَ بِقَدَرِهِ، وَلَا يَخْرُجُونَ عَنْ أَمْرِهِ، وَلَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام: 17].
أَيُّهَا النَّاسُ: بَعَثَ اللهُ -تَعَالَى- رَسُولَهُ مُحَمَّدًا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، فَآمَنَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَأَوْزَاعٌ مِنَ الرُّومِ وَالْعَجَمِ، وَامْتَدَّ الْإِسْلَامُ مِنَ المَدِينَةِ حَتَّى غَطَّى جَزِيرَةَ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَجَاوَزَهَا إِلَى فَارِسَ وَالشَّامِ، بِالدَّعْوَةِ وَالْجِهَادِ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا.
وَلَمْ يَهُنْ ذَلِكَ عَلَى الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَقَدْ هَوَتْ مَمَالِكُهُمْ، وَسَقَطَ قَادَتُهُمْ وَفُرْسَانُهُمْ صَرْعَى تَحْتَ أَقْدَامِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
وَقَدْ كَانَتِ الْفُرْسُ وَالرُّومُ تَحْتَقِرُ الْعَرَبَ، وَكَانَ الْفُرْسُ أَشَدَّ كَرَاهِيَةً وَاحْتِقَارًا لِلْعَرَبِ مِنَ الرُّومِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَضْمَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْكَرَاهِيَةَ، وَدَخَلُوا الْإِسْلَامَ عَلَانِيَةً، وَحَاكُوا الدَّسَائِسَ بِاخْتِرَاعِ الْفِرَقِ الْبَاطِنِيَّةِ، الَّتِي لَمْ تُخْتَرَعْ إِلَّا لِهَدْمِ الْإِسْلَامِ مِنْ دَاخِلِهِ، وَإِعَادَةِ مَمْلَكَةِ كِسْرَى وَإِيوَانِهِ، فَجَعَلُوا التَّشَيُّعَ طَرِيقًا إِلَى غَايَتِهِمْ، يَضْحَكُونَ بِهِ عَلَى السُّذَّجِ وَالرَّعَاعِ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ؛ لِيُقَدِّمُوهُمْ قَرَابِينَ عَلَى المَذْبَحِ السَّاسَانِيِّ؛ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ يُعِيدُونَ أَمْجَادَ الْأَكَاسِرَةِ.
يَقُولُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَزْمٍ الْأَنْدَلُسِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ -تَعَالَى--: "وَالْأَصْلُ فِي أَكْثَرِ خُرُوجِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ عَنْ دِيَانَةِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْفُرْسَ كَانُوا مِنْ سَعَةِ المُلْكِ وَعُلُوِّ الْيَدِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ... حَتَّى أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْأَحْرَارَ وَالْأَبْنَاءَ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ سَائِرَ النَّاسِ عَبِيدًا لَهُمْ، فَلَمَّا امْتُحِنُوا بِزَوَالِ الدَّوْلَةِ عَنْهُمْ عَلَى أَيْدِي الْعَرَبِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ أَقَلَّ الْأُمَمِ عِنْدَ الْفُرْسِ خَطَرًا؛ تَعَاظَمَهُمُ الْأَمْرُ، وَتَضَاعَفَتْ لَدَيْهِمُ المُصِيبَةُ، وَرَامُوا كَيْدَ الْإِسْلَامِ بِالمُحَارَبَةِ فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى، فَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُظْهِرُ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْحَقَّ" انْتَهَى كَلَامُ الْإِمَامِ ابْنِ حَزْمٍ، وَنَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُجْزِلَ مَثُوبَتَهُ؛ إِذْ يَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ وَهُوَ فَارِسِيُّ الْأَصْلِ؛ تَجَرُّدًا لِلْحَقِّ، وَوَلَاءً لِلْإِسْلَامِ وَلَوْ عَلَى حِسَابِ عِرْقِهِ وَبَنِي جِنْسِهِ.
إِنَّ التَّشَيُّعَ الصَّفَوِيَّ مَا اسْتَلَبَ إِيرَانَ فِي الْقَرْنِ الْعَاشِرِ، وَقَتَل فِيهَا مِلْيُونَ مُسْلِمٍ سُنِّيٍّ إِلَّا لِيُعِيدَ مَمْلَكَةَ سَاسَانَ، وَكَانَتْ عَيْنُهُمْ مُنْذُ انْتَزَعُوا بِلَادَ فَارِسَ عَلَى الْعِرَاقِ، وَزَحَفَ إِسْمَاعِيلُ الصَّفَوِيُّ بِجُيُوشِهِ عَلَيْهَا فَاحْتَلَّهَا، وَاسْتَبَاحَ أَهْلَهَا، وَنَبَشَ قَبْرَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ نِكَايَةً بِأَهْلِ السُّنَّةِ، إِلَى أَنْ طَرَدَهُ الْعُثْمَانِيُّونَ مِنْهَا فِي مَعْرَكَةِ جَالِيدْرَانَ، وَلَكِنَّ الصَّلِيبِيِّينَ رَأَوْا فِي الْبَاطِنِيِّينَ خَيْرَ حَلِيفٍ لَهُمْ عَلَى كَسْرِ المُسْلِمِينَ؛ وَلِذَا تَحَالَفُوا مَعَهُمْ، وَمَكَّنُوا لَهُمْ، وَأَمَدُّوهُمْ بِمَا يَحْتَاجُونَ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ.
وَثَوْرَةُ الْعَمَائِمِ الصَّفَوِيَّةِ مَطْلَعَ هَذَا الْقَرْنِ الْهِجْرِيِّ عَلَى حُكْمِ الشَّاهِ الْعَلْمَانِيِّ مَا جَاءَتْ إِلَّا مِنْ فَرَنْسَا الَّتِي يُسَمُّونَهَا بِلَادَ الْأَنْوَارِ وَمَهْدَ الْعَلْمَانِيَّةِ، فَكَيْفَ يُمَكِّنُ الْعَلْمَانِيُّونَ لِعِمَامَةٍ دِينِيَّةٍ ضِدَّ بَدْلَةٍ عَلْمَانِيَّةٍ لَوْلَا أَنَّ المَقْصُودَ طَعْنُ خَاصِرَةِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْعَمَائِمِ الْبَاطِنِيَّةِ المُتَشَوِّفَةِ لِإِعَادَةِ مَمْلَكَةِ سَاسَانَ المَجُوسِيَّةِ تَحْتَ لَافِتَاتِ الْوَلَاءِ لِآلِ الْبَيْتِ.
وَمَا كَانَ مَشْرُوعُ تَصْدِيرِ الثَّوْرَةِ إِلَّا خِدَاعًا لِلسُّذَّجِ مِنَ المُسْلِمِينَ لِيَنْضُوُوا خَدَمًا لِلْمَشْرُوعِ المَجُوسِيِّ السَّاسَانِيِّ، وَمَا كَانَ اسْتِنْبَاتُ التَّشَيُّعِ فِي كُلِّ الْبُلْدَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَّا لِتَطْوِيقِ الْأُمَّةِ بِهَذِهِ الْأَقَلِّيَّاتِ الَّتِي يَزْرَعُونَهَا لِتَشْغَلَ المُسْلِمِينَ؛ وَلِتَجِدَ فِيهِمُ الْقُوَى الِاسْتِعْمَارِيَّةُ الْغَرْبِيَّةُ حُجَّةً لِلتَّدَخُّلِ بِدَعْوَى حِمَايَتِهِمْ، وَفَرْضِ شُرُوطِهِمْ وَإِمْلَاءَاتِهِمْ.
وَمُنْذُ الثَّوْرَةِ الخُمَيْنِيَّةِ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْغَرْبِ مُجَرَّدَ حَرْبٍ كَلَامِيَّةٍ دِعَائِيَّةٍ، وَكَانَ الضَّرْبُ وَالْقَتْلُ وَالِاحْتِلَالُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، حَتَّى كَشَفَ المَشْرُوعُ الِاسْتِعْمَارِيُّ عَنْ نَوَايَاهُ الْبَاطِنَةِ بِتَسْلِيمِ دُوَلِ السُّنَّةِ لِلصَّفَوِيِّينَ دَوْلَةً دَوْلَةً.
وَظَنَّ الصَّفَوِيُّونَ أَنَّهُمْ قَدْ حَازُوا الْكَعْكَةَ السُّنِّيَّةَ بِأَكْمَلِهَا، وَلَا شَيْءَ يَرُدُّهُمْ عَنْهَا، فَخَلَعُوا رِدَاءَ التَّقِيَّةَ، وَأَسْفَرُوا عَنِ النِّيَّةِ، الَّتِي هِيَ إِعَادَةُ الْإِمْبَراطُورِيَّةِ الْفَارِسِيَّةِ، حَتَّى صَرَّحَ مُسْتَشَارُ رَئِيسِ دَوْلَتِهِمْ قَائِلًا: "إِيرَانُ الْيَوْمَ أَصْبَحَتْ إِمْبَرَاطُورِيَّةً كَمَا كَانَتْ عَبْرَ التَّارِيخِ، وَعَاصِمَتُهَا بَغْدَادُ حَالِيًا، وَهِيَ مَرْكَزُ حَضَارَتِنَا وَهُوِيَّتِنَا الْيَوْمَ كَمَا فِي المَاضِي".
إِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى إِعَادَةِ مَمْلَكَةِ كِسْرَى السَّاسَانِيَّةِ الَّتِي احْتَلَّتِ الْعِرَاقَ، وَجَعَلَتِ المَدَائِنَ عَاصِمَةً لَهَا. فَطَرَدَهُمُ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مِنْهَا بِالْفَتْحِ الْإِسْلَامِيِّ الْعَظِيمِ فِي الْقَادِسِيَّةِ ثُمَّ نَهَاوَنْدَ.
وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ تَعْلَمَهُ الْجُيوبُ الْبَاطِنِيَّةُ مِنْ غَيْرِ الْفُرْسِ وَالَّتِي نَذَرَتْ نَفْسَهَا، وَرَهَنَتْ إِرَادَتَهَا لخِدْمَةِ المَشْرُوعِ الصَّفَوِيِّ أَنَّهُمْ مَهْمَا كَانُوا، وَمَهْمَا قَدَّمُوا لَيْسُوا إِلَّا مُجَرَّدَ عَبِيدٍ وَخَدَمٍ لِلْمَشْرُوعِ الْعُنْصُرِيِّ الْفَارِسِيِّ، وَلَا مَكَانَ لَهُمْ فِيهِ. إِنْ هُمْ إِلَّا بَيَادِقُ تُسْتَخْدَمُ ثُمَّ تُرْمَى.
وَمِمَّا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَسْتَبْشِرُوا بِهِ أَنَّهُ لَنْ تَعُودَ مَمْلَكَةُ فَارِسَ، وَلَنْ يَقُومَ لَهُمْ كِسْرَى؛ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ النَّبَوِيَّةَ جَاءَتْ بِذَلِكَ، وَالنَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَلَا عَوْدَةَ لِلْأَكَاسِرَةِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَلَا عَوْدَةَ لِلرُّومَانِ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَالتَّارِيخُ يَدُلُّ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ؛ فَالشَّامُ عَجَزَ الرُّومَانُ عَنْ إِعَادَتِهَا أَيَّامَ الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ مَكَثُوا فِيهَا مِئَتَيْ سَنَةٍ لَكِنْ لَمْ تَسْتَقِرَّ لَهُمْ حَتَّى أُخْرِجُوا مِنْهَا. وَأَيَّامَ الِاسْتِعْمَارِ قَاوَمَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ مِنْهَا فَسَلَّمُوهَا لِلنُّصَيْرِيِّينَ نِيَابَةً عَنْهُمْ لِيَحْكُمُوهَا، فَكَانَ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ ظُلْمٍ وَبَطْشٍ بِأَهْلِ الشَّامِ، وَيُوشِكُ حُكْمُهُمْ لَهَا أَنْ يَسْقُطَ، وَسَيَسْقُطُ بِإِذْنِ اللَّهِ -تَعَالَى-.
وَأَمَّا الْعِرَاقُ الَّتِي يَحْلُمُ مَجُوسُ الْيَوْمِ أَنْ يُعِيدُوا فِيهَا أَمْجَادَ كِسْرَى فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا ذَلِكَ أَيَّامَ المَدِّ الصَّفَوِيِّ قَبْلَ أَرْبَعَةِ قُرُونٍ، وَلَنْ يَسْتَطِيعُوا بِإِذْنِ اللَّهِ -تَعَالَى-.
وَإِنْ كَانَ مُلْكُ الرُّومِ قَدْ بَقِيَ خَارِجَ الشَّامِ فَإِنَّ مُلْكَ نُوَّابِ الْأَكَاسِرَةِ لَمْ يَسْتَقِرَّ حَتَّى خَارِجَ الْعِرَاقِ، وَلَنْ تَدُومَ لَهُمْ دَوْلَةٌ؛ وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَيْهِمْ، كَمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى، مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ البَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّ قَيْصَرَ بَقِيَ مُلْكُهُ وَإِنَّمَا ارْتَفَعَ مِنَ الشَّامِ وَمَا وَالَاهَا، وَكِسْرَى ذَهَبَ مُلْكُهُ أَصْلًا وَرَأْسًا: أَنَّ قَيْصَرَ لمَّا جَاءَهُ كِتَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبَّلَهُ وَكَادَ أَنْ يُسْلِمَ، وَكِسْرَى لمَّا أَتَاهُ كِتَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَزَّقَهُ، فَدَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُمَزَّقَ مُلْكُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَكَانَ كَذَلِكَ.
فَوَاللَّهِ لَا يَعُودُ مُلْكٌ دَعَا أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُمَزَّقَ. وَلَا يَرُدُّ اللهُ -تَعَالَى- دَعْوَةَ نَبِيِّهِ، وَهَذِهِ أَعْظَمُ بِشَارَةٍ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، فَمَهْمَا رَأَوْا مِنْ تَآمُرِ الْأَعْدَاءِ وَتَكَالُبِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْغَايَةِ فَلَنْ يُحَقِّقُوهَا.
وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ: "فَارِسُ نَطْحَةٌ أَوْ نَطْحَتَانِ، ثُمَّ لاَ فَارِسَ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَالرُّومُ ذَاتُ الْقُرُونِ أَصْحَابُ بَحْرٍ وَصَخْرٍ كُلَّمَا ذَهَبَ قَرْنٌ خَلَفَه قَرْنٌ مَكَانَهُ، هَيْهَاتَ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ، هُمْ أَصْحَابُكُمْ مَا كَانَ فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ" (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ).
كُلُّ هَذِهِ المُبَشِّرَاتِ النَّبَوِيَّةِ تُبَدِّدُ الْخَوْفَ، وَتُزِيلُ الْيَأْسَ، وَتَطْرُدُ الْوَسَاوِسَ، وَتَبْعَثُ الْأَمَلَ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَدَمُ الْغُرُورِ بِذَلِكَ، وَيَجِبُ نُصْرَةُ الْأُمَّةِ وَقَضَايَاهَا.
مَعَ الِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ -سُبْحَانَهُ-، وَصِدْقِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَتَحْكِيمِ شَرْعِهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ، أَفْرَادًا وَحُكُومَاتٍ، فِي حَالِ الْأَمْنِ وَحَالِ الْخَوْفِ، فَإِنَّ مَنْ تَعَرَّفَ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- فِي الرَّخَاءِ عَرَفَهُ اللهُ -تَعَالَى- فِي الشِّدَّةِ، وَمَنْ أَكْثَرَ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ اسْتُجِيبَ لَهُ فِي الشَّدَائِدِ، مَعَ السَّعْيِ فِي جَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَرَأْبِ الصَّدْعِ، وَالْحَذَرِ مِنَ الْأَعْدَاءِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ عَدُوٌّ وَلَنْ يَكُونَ صَدِيقًا أَبَدًا، وَلَنْ يَرُدَّهُ عَنْ غَيِّهِ وَمَطْمَعِهِ إِلَّا عَجْزُهُ عَنْ تَحْقِيقِ مُرَادِهِ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَكْفِيَ المُسْلِمِينَ شُرُورَ أَنْفُسِهِمْ وَشُرُورَ أَعْدَائِهِمْ، وَأَنْ يَحْفَظَ بُلْدَانَهُمْ وَعَوْرَاتِهِمْ، وَأَنْ يَرُدَّ كَيْدَ الْكَائِدِينَ إِلَى نُحُورِهِمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ..
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاهْرَعُوا إِلَيْهِ فِي الشَّدَائِدِ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ فِي الْعَظَائِمِ، وَعَلِّقُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَتُوبُوا إِلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ، فَمَا نَزَلَ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَقَدْ أَثْبَتَ التَّارِيخُ الصَّفَوِيُّ أَنَّ الصَّفَوِيِّينَ يُقَاتِلُونَ بِغَيْرِهِمْ، وَيَنْتَظِرُونَ الْحِبَالَ المُمْتَدَّةَ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا هُوَ سِرُّ نَشْرِهِمْ لِلتَّشَيُّعِ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ، مِنْ أَجْلِ تَجْنِيدِ السُّذَّجِ لَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَهَذَا هُوَ سِرُّ الْحِبَالِ المَمْدُودَةِ لَهُمْ مِنَ الْغَرْبِ مُنْذُ قَامَتْ ثَوْرَتُهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَفَضِيحَةُ (إِيرَان جِيتْ) كَانَتْ فِي شِدَّةِ الْعَدَاءِ الْغَرْبِيِّ الْإِيرَانِيِّ، وَكَانَ الدَّعْمُ يَصِلُ إِلَيْهِمْ سِرًّا حَتَّى انْكَشَفَ الْأَمْرُ وَفُضِحُوا.
لَقَدِ اسْتَنْبَتُوا لَهُمْ فِي الْيَمَنِ ذِرَاعًا مِنَ الْفِرْقَةِ الْجَارُودِيَّةِ الَّتِي انْشَقَّتْ عَنِ الزَّيْدِيَّةِ، وَرَبَّوْا قَادَتَهَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فِي قُمْ وَطِهْرَانَ، ثُمَّ أَعَادُوهُمْ وَأَغْدَقُوا عَلَيْهِمُ الْأَمْوَالَ وَالسِّلَاحَ مِنْ أَجْلِ تَشْكِيلِ قُوَّةٍ لِاخْتِطَافِ الدَّوْلَةِ فِي الْيَمَنِ كَمَا فَعَلَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ فِي لِبْنَانَ، وَكَمَا فَعَلَ النُّصَيْرِيُّونَ فِي الشَّامِ. وَبِخِيَانَاتٍ مِنْ قِيَادَاتٍ فِي الْيَمَنِ، وَشِرَاءٍ لِلذِّمَمِ، وَتَوَاطُئٍ دَوْلِيٍّ لِإِكْمَالِ المَشْرُوعِ الصَّفَوِيِّ لِيُطَوِّقَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَيَخْنِقَهُمْ تَسَاقَطَتْ مُدُنُ الْيَمَنِ وَاحِدَةً تِلْوَ أُخْرَى، حَتَّى أَخَذُوا الْعَاصِمَةَ وَزَحَفُوا عَلَى عَدَنَ فِي غُرُورٍ وَكِبْرِيَاءَ، يُوَازِيهِ غُرُورٌ مِنْ طِهْرَانَ بِأَنَّ الْأَمْرَ قَدِ اكْتَمَلَ لَهُمْ، وَأَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مُرْتَهَنُونَ لَهُمْ.
وَهَذَا جُنُونُ الْعَظَمَةِ الَّذِي يُعْمِي مَنْ يُقَاتِلُونَ بِغَيْرِهِمْ، وَيَنْتَصِرُونَ بِسِوَاهُمْ؛ حَتَّى سَلَّطَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْنَادِ الْإِسْلَامِ مَنْ يُوقِفُ زَحْفَهُمْ، وَيَرُدُّهُمْ عَنْ غَيِّهِمْ، وَيَخْضِدُ شَوْكَتَهُمْ، وَيَقْطَعُ الذِّرَاعَ الصَّفَوِيَّ فِي جَنُوبِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَإِلَّا لَوْ عَقَلُوا لَعَلِمُوا أَنَّهُ مِنَ الْجُنُونِ أَنْ يُطَوِّقُوا أَهْلَ السُّنَّةِ وَهُمْ يَبْلُغُونَ تِسْعِينَ بِالمِئَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَجَاوَزُ الْفِرَقُ الْبَاطِنِيَّةُ كُلُّهَا عَشْرَةً فِي المِئَةِ، وَفِي الْيَمَنِ لَا يَبْلُغُ ذِرَاعُهُمُ الْحُوثِيُّ رُبْعَ مِلْيُونٍ يُرِيدُ بِالْحِبَالِ المُمْتَدَّةِ لَهُ مِنْ طِهْرَانَ أَنْ يُصَادِرَ إِرَادَةَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِلْيُونَ مُسْلِمٍ! خَابُوا وَخَسِرُوا.
إِنَّ أَحْدَاثَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ أَثْبَتَتْ أَنَّ الدَّوْلَةَ الصَّفَوِيَّةَ أَضْعَفُ مِمَّا يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهَا تَبُثُّ الرُّعْبَ دِعَايَةً لَهَا، وَلَوْلَا الْحِبَالُ المَمْدُودَةُ لَهَا سِيَاسِيًّا وَعَسْكَرِيًّا مِنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ لَما تَمَدَّدُوا فِي دِيَارِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، بَلْ وَلَسَقَطَتْ دَوْلَةُ المَلَالِيِّ الصَّفَوِيَّةِ؛ وَلِذَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى أَهْلِ السِّيَاسَةِ وَالرَّأْيِ فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَطْعَ الْأَذْرُعَةِ الصَّفَوِيَّةِ المُمْتَدَّةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَالَّتِي تُرِيدُ تَطْوِيقَ أَهْلِ السُّنَّةِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُؤَيِّدَ الدُّوَلَ الْعَرَبِيَّةَ وَالْإِسْلَامِيَّة فِي قَطْعِ الذِّرَاعِ الصَّفَوِيِّ الْحُوثِيِّ لِيَرْتَاحَ مِنْهُ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَيَنْعَمُوا بِالْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ؛ وَلِئَلَّا يَكُونَ عَوْنًا لِلصَّفَوِيِّينَ عَلَى خَنْقِ المُسْلِمِينَ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَنْصُرَ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ، وَأَنْ يَكْبِتَ الْبَاطِلَ وَأَهْلَهُ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي