إن السعادة، كل السعادة، في اجتناب هذه الخصال الثلاث: الشح، واتباع الهوى، والإعجاب بالنفس؛ فإنهن مهلكات. وتوبوا إلى الله واستغفروه، وأنيبوا إليه واشكروه، واعلموا أن أعظم سبب للتخلص من هذه الآفات هو الالتجاء برب الأرض والسموات.
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد: أيها الناس، اتقوا الله -تعالى-، واعلموا أن الله بعث نبينا -صلى الله عليه وسلم- بالأمر بالخير والنهي عن الشر، بل ما من خير إلا ودلنا عليه، وما من شر إلا حذرنا منه.
عباد الله: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات. فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه ..." رواه الطبراني، وقال عنه الألباني: حسن لغيره. وقوله: "ثلاث مهلكات"، أي: موقعات لفاعلها في المهالك.
أول هذه المهلكات: "شح مطاع". الشح! وما أدراك ما الشح؟! خُلُقٌ ذميم، تلبّس به بعضٌ من المسلمين، فحملهم على الشره والبطر والحرص الذميم على الدنيا، وهو شدة الحرص على الشيء، والإحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه.
والشح كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه، ووُقِي شرّه، وذلك هو المفلح، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].
قال الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: فمن وقاه الله شر شح نفسه بأن سمحت نفسه بالإنفاق النافع لها، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لأنهم أدركوا المطلوب، ونجوا من المرهوب، بل لعل ذلك شامل لكل ما أمر به العبد، ونهي عنه.
وقد جاءت السنة النبوية بالتنفير من الشح، وذمه، والتحذير منه؛ فمنها ما رواه عبد الله بن عمرو أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والشح! فإنه أهلك من كان قبلكم، أمَرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا" رواه أبو داود، وصححه الألباني.
بل عدّ النبي -صلى الله عليه وسلم- الشح من الكبائر المهلكة، فقد أخرج الإمام النسائي في سننه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل: يا رسول الله، وما هي؟ [فذكر منها]: "الشرك، والشح، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا" رواه النسائي وصححه الألباني، وكذلك الحديث الذي قبله.
أيها المؤمنون: إن الشح من شرّ الخلال التي يتصف بها الإنسان، فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "شرّ ما في رجلٍ شحٌّ هالع، وجبن خالع" رواه أبو داود، وصححه الألباني.
ولذا؛ كان هذا الخلق المشين من الأخلاق التي تفشو في آخر الزمان، لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح". قال ابن حجر-رحمه الله- عند قوله: "ويلقى الشح": المراد إلقاؤه في قلوب الناس على اختلاف أحوالهم؛ حتى يبخل العالم بعلمه فيترك التعليم والفتوى، ويبخل الصانع بصناعته حتى يترك تعليم غيره، ويبخل الغني بماله حتى يهلك الفقير. اهـ.
وقد حرص الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- على اجتناب هذا الخلق المذموم، فعن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: "اللهم قني شح نفسي", لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: "إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرقْ، ولم أزْنِ، ولم أفْعَل...". وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه.
أيها المؤمنون: ثاني هذه المهلكات الثلاث: "هوىً متبع"، وتلك صفة أخرى ذميمة قد تضافرت على ذمّها والتحذير منها نصوص الكتاب والسنة، وما ضل من ضل عن سبيل الرشاد والهداية، وأوغل في سبيل الضلال والغواية، إلا وكان الهوى العامل الأساس في ذلك.
وقد حذرنا الله من اتباع الهوى في آيات كثيرة من كتابه؛ قال ابن عباس-رضي الله عنه-: "ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه، قال -تعالى-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ) [القصص:50]، وقال -تعالى-: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [ص:26]، فالهوى قد يؤدي بصاحبه إلى النار، كما قال الشعبي-رحمه الله-: "إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار".
أيها المؤمنون: إن الهوى ليتمادى بصاحبه ويتمكن منه حتى يعسر عليه تركه، فقد جاء في حديث معاوية في ذكر الفرق الضالة في هذه الأمة: "وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأهواء, كَمَا يَتَجَارَى الكَلَبُ بِصَاحِبِهِ, لا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ ولا مَفْصِلٌ" أخرجه أبو داود، وقال الألباني: صحيح.
بل إن الهوى قد يصل بصاحبه إلى أن يكون عبدًا له من دون الله، قال -تعالى-: (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) [الفرقان:43]. قال قتادة -رحمه الله-: "هو الذي كلما هوي شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى".
إن جميع المعاصي والبدع -عباد الله- إنما تنشأ من اتباع الهوى؛ كما يقول ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: "فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه، فقال -تعالى-: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ) [القصص:50]، وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمون أهلها أهل الأهواء".
ولذا -عباد الله- فإن الهوى من أخوف ما خافه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته؛ فعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ، وَمُضِلاتِ الْهَوَى" رواه أحمد وصححه الألباني.
وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء" رواه الترمذي والحاكم، وصححه الألباني.
إنه لا نجاة من هلكة الهوى إلا بمخالفته، وسؤال الله الإعانة على ذلك، يقول الله -تعالى-: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:40-41].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المؤمنون: ثالث هذه الخصال المهلكة المذكورة في الحديث: "إعجاب المرء بنفسه"؛ قال المناوي-رحمه الله-: أي: تحسين كل أحد نفسه على غيره وإن كان قبيحاً.
وقال القرطبي: "وإعجاب المرء بنفسه هو ملاحظة لها بعين الكمال، مع النسيان لنعمة الله، والإعجاب وجدان شيء حسناً، قال -تعالى- في قصة قارون: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)، فماذا كان مصيره؟ (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ)، فثمرة العجب الهلاك.
وأشدّ أنواع العجب ما كان ناشئاً عن العلم والفقه, قال -تعالى-: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا)، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "الهلاك في اثنتين: القنوط والعجب".
وجاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مُرّجِلٌ رأسه -أي ممشطه-، يختال في مشيته، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل -أي يغوص وينزل- في الأرض إلى يوم القيامة".
وهذا ابن عمر-رضي الله عنه- يرى رجلاً يختال في مشيته ويجر إزاره، فقال: "إن للشيطان إخواناً!"، ورأى رجل رجلا آخر يختال في مشيته, فقال له: يا عبد الله, هذه مشية يبغضها الله، فالتفت إليه الرجل، وقال: ألا تعرفني؟! قال: بلى, أعرفك؛ أولك نطفة مذرة, وآخرك جيفة قذرة, وأنت بين ذلك تحمل (العذرة) [الخرأة].
وبعد: عباد الله، إن السعادة، كل السعادة، في اجتناب هذه الخصال الثلاث: الشح، واتباع الهوى، والإعجاب بالنفس؛ فإنهن مهلكات.
وتوبوا إلى الله واستغفروه، وأنيبوا إليه واشكروه، واعلموا أن أعظم سبب للتخلص من هذه الآفات هو الالتجاء برب الأرض والسموات.
اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم زيّنّا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.
اللهم لا تحرمنا خير ما عندك من الإحسان بشر ما عندنا من الإساءة والعصيان، وادفع عنا وعن المسلمين كل شر ومكروه بمنك وكرمك وتوفيقك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين.
اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار، وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز.
اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك، واجعلهم من أنصار دينك يا ذا الجلال والإكرام، وارزقهم بطانة الصلاح وأهل الخير، وأبعد عنهم أهل الزيغ والفساد.
اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا ونساءنا بسوء اللهم فاشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، انك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي