القبور -أيها المسلمون- الناس فيها بين طرفي نقيض، فطرف جعلها محلاً لعبادة غير الله، فدعا أربابها، وسأل أصحابها، واستغاث بهم، ومنهم من ابتدع فيها ما أنزل الله به من سلطان، ومنهم من تحرى العبادة عندها، فعبَد الله عند القبور. والطرف الثاني ممن أهملها وأهانها، ووطئ أصحابها، فلا احترام ولا صيانة ولا محافظة ولا عناية، فالشريعة جاءت بذم الطرفين، والنهي عن الفعلين، وبقي الطرف الوسط، فلا إفراط ولا تفريط ولا شطط، وهو زيارتها واحترامها بحدودها الشرعية ولا عبادتها ولا الابتداع عندها، ولا فعل المعاصي الشنيعة...
الحمد لله الكريم الغفور أحمده سبحانه وهو الرحيم الشكور، وأشهد أن لا إله إلا الله أمر باحترام القبور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سد ذرائع الشرك في القبور صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم ما يبعثر ما في القبور.
أما بعد: فاتقوا الله فتقواه وهداه سبب لخيره ورضاه وبره ونيل عطاياه.
أيها المسلمون: تأملوا حياتكم الفانية وأيامكم الماضية ماذا ادخرتم لحياتكم الباقية من الأعمال الصالحة، فوالله لن ينفع المرء إلا عمله الصالح حينما يغدو عنه كل قريب ورائح.
إخوة العقيدة:
الشريعة حمت التوحيد من جميع جوانبه، وأوصدت طرقه وأبوابه، الشريعة صانت التوحيد وسدت كل طريق يوصّل للشرك والتنديد.
ومن الأبواب العظيمة والمداخل الشركية الوخيمة والأمور البدعية الذميمة الموصلة للشرك والذريعة "القبور وزيارتها"، والتردد عليها وانتيابها، والذهاب إليها وتعظيمها.
القبور -أيها المسلمون- الناس فيها بين طرفي نقيض، فطرف جعلها محلاً لعبادة غير الله، فدعا أربابها، وسأل أصحابها، واستغاث بهم، ومنهم من ابتدع فيها ما أنزل الله به من سلطان، ومنهم من تحرى العبادة عندها، فعبَد الله عند القبور.
والطرف الثاني ممن أهملها وأهانها، ووطئ أصحابها، فلا احترام ولا صيانة ولا محافظة ولا عناية، فالشريعة جاءت بذم الطرفين، والنهي عن الفعلين، وبقي الطرف الوسط، فلا إفراط ولا تفريط ولا شطط، وهو زيارتها واحترامها بحدودها الشرعية ولا عبادتها ولا الابتداع عندها، ولا فعل المعاصي الشنيعة.
ومن ثم جاءت منهيات في القبور وألوان من البدع والشرور في القبور والمقابر لكل مشيع وزائر، فاستمعوا لها أيها الإخوة والآباء الأكابر.
فمنها بناء المساجد على القبور أو بناء القبور على المساجد، وهذا جاء فيه النهي الشديد والوعيد الشديد، ففي الصحيحين "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وقال: "ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".
وما زال ينهى ويكرر والروح تغرغر فذمه، ونهى عنه وأكد نهيه "فإني أنهاكم عن ذلك".
ومن صور اتخاذ القبور مساجد أن يبنى المسجد على قبر أو مقام نبي أو صالح أو ولي.
ومن صوره أن يُبنَى المسجد لله، ثم يدفن ويوضع فيه رجل صالح أو ولي أو عالم أو طالح، هذا وسواء وضع في أول المسجد أو آخره أو فوقه أو تحته أو في جنباته أو فنائه.
ولا يجوز الصلاة لله في المساجد التي وُضع فيها قبور؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، أي: مواضع للصلاة والعبادة.
وما بُنِي أخيرًا يُهدَم أولاً.
ومن ثَم حفظ الله قبر نبيه من عبادته، والصلاة إليه، ودعائه، فاستجاب الله دعاءه بقوله "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد"، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ كل ذلك لأن القبور تتطاول إليها الأعناق، وتتشرف إليها العيون والأحداق، وفي هذا يقول ابن القيم:
فأجاب رب العالمين دعاءه *** وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه *** في عزة وحماية وصيان
فعلى هذا لا يجوز بناء المساجد على القبور ولا القبور على المساجد، فهذا من أعظم الوسائل للشرك الأكبر والأصغر، والبدع المحدثات، والقول المنكر وهو من أعظم فتن هذا العصر، ومن على القبر سراجًا أوقد أو ابتنى على الضريح المسجد فإنه مجدّد جهارًا لسنن اليهود والنصارى.
ومن منهيات الأمور حول المقابر والقبور: البناء على القبور بأيّ نوع من البناء أو الأبنية سواء بالرخام أو الأسمنت أو وضع محيط بالقبر كغرفة أو التدوير حولها بالبلوك أو العقود والقباب؛ لما في مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليّ: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته"، وفي رواية "صورة إلا طمستها"، "ولا قبرًا مشرفًا إلا سوّيته" أي: سويته بالأرض؛ لأن رفعه وإظهاره مدعاة إلى تعظيمه وإشهاره وعبادته ودعاءه؛ لكن يُرفَع القبر ليتوقى ويُصان، ويحفظ ولا يُهان ويُعرف بدون علو وبنيان ورخام وحيطان.
كم حذّر المختار عنها، ولعن فاعله، كما روى أهل السنن، بل قد نهى عن ارتفاع القبر وأن يُزَاد فيه فوق الشبر.
وكل قبر مشرف فقد أمر *** بأن يسوَّى هكذا صح الخبر
ومن ذلكم بارك الله فيكم: تجصيص القبور وزخرفتها، وتزيينها، ووضع الورود عليها، فقد صح الخبر عن سيد البشر أنه نهى عن أن يجصص القبر، ومن الجص تنويرها بالنورة والأسمنت والرخام، فهو وسيلة كبيرة إلى دعائها والاستغاثة بها، والطواف بها وحولها.
ومن المنهيات: فعل الصلوات، فالصلاة عند القبور مدعاة للتعظيم والشرك بالرب الكريم والمقصود بالصلاة لله عندها وتحري قبول ذلك بينها ففي مسلم "لا تصلوا إلى القبور".
ونهي خامس: وهو الصلاة إلى القبور، وفرق بين الصلاة عندها وإليها، ولهذا جاء النهي "لا تصلوا إلى القبور"؛ بأن تجعل بينك وبين يديك وأمامك قبرًا تصلي إليه، وهو أعظم من الأول، وهو الصلاة عندها؛ لأنه جمع سيئتين وخطيئتين عظيمتين صلى عندها واستقبلها.
وسواء الصلاة نافلة أو فريضة، وثم تنبيه من تفوته الصلاة في المساجد أو تفوته الصلاة عليها، فيأتي المقبرة ويقضي صلاته، ومثله من يصلي الرواتب في المقابر، فهذا أعظم وسائل الشرك والمحاذر.
يقول شيخ الإسلام: "ولهذا تجد أقوامًا كثيرين يتضرعون عندها، ويخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في المساجد، بل ولا في السَّحَر، ومنهم من يسجد لها، وأكثر من يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال".
وسادس المنهيات -أيها الإخوان في الطاعات والخيرات-: الذبح عند القبور، وأما الذبح لها فهو شرك أكبر، فالذبح عبادة، فإن ذبح عند القبر فبدعة محدثة ضلالة، وإن ذبح للقبر فشرك أكبر وخسارة.
وفي بعض الأمصار جلب الذبائح من الأغنام والأبقار عند القبور، وما يدعى أنهم من الأخيار، ومن ذلكم النذر عند القبور وللقبور فمنكر من القول وزور.
ومن ذلكم -بارك الله في جمعتكم واجتماعكم-: زيارة القبور للنساء، واتباعها للجنائز إلى المقابر أو في المقابر، ولقد "لعن الرسول زوارات القبور"، كما في السنن.
وفي الصحيحين تقول أم عطية: "نُهينا عن اتباع الجنائز"، ولذلك لما في المرأة من الضعف وقوة العاطفة وكثرة البكاء والنياحة، وفي بعض الأمصار يسمع لها من الزغاريد والدعاء والصراح والبكاء، ولم يؤثر عن صحابية زيارة المقبرة والمقابر، لا قبر النبي وصاحبيه ولا البقيع وشهداء أحد وأهل بيته، لكن للمرأة الصلاة على الجنائز في المسجد، وأما الاتباع ودخول المقابر ولو كانت في سيارة أو مكان منعزل فتمنع سدًّا للذريعة وحماية للشريعة.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عباد الله: ومن منهيات القبور وما فيها من الفتن والشرور: إسراجها وتنويرها ووضع الكهرباء الثابت فيها، فإضاءتها بالأنوار الكهربائية وإسراجها داخل أسوارها الحيطانية سواء بأنوار أو زيوت أو غاز أو شموع، فكل ذلك محدَث ممنوع، وهو من فتح الذرائع بها وفيها تشبه بالكفار في زيارات مقامات قبورهم ولها، ومن على القبر سراجًا أو قد أو ابتنى على الضريح مسجدًا؛ فإنه مجدّد جهارًا لسنن اليهود والنصارى.
وكذا من المنهيات: تخليط القبور وصبغها بالأصباغ والأدهان، وتطيبها بأجود الأطياب والريحان، ووضع ذلك على القبور والحيطان، وكذا وضع الستور على القبور والخرق والفرش والدثور مما يفضي إلى تعظيمها ودعائها والتفاخر في أستارها.
ومن ذلكم: الطواف على القبور وهو على حالتين -أيها الأخ المسرور-؛ فإن كان يطوف لله، ويتقرب بطوافه لله حول هذا القبر والمقام فبدعة منكرة ومحدَثة شنيعة محرمة وفعلة قبيحة مستنكرة، وإن كان طوافه تقربًا للمقبور فشرك أكبر.
ومن ذلك وما هنالك: التبرك بالقبور، وطلب البركة من المقبور، والعكوف عليها، والحضور رجاء البركة والمنفعة، وربما جلب أولاده وأهله لبركة السيد والولي والمقبرة، وهذا منكر وزور، وطلب النفع ودفع الشرور شرك بالرب الغفور.
وكذا التمسح بالقبور والمقامات بجسمه أو أطرافه، أو وضع ثيابه وخده على عتبات المقامات والمقابر.
ومن المنهيات: الجلوس والوطء على القبور، وفي الصحيح: "لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها"، ومنه إهانتها بوطئها والقعود عليها، وفي مسلم "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر".
فلا يجوز إهانتها ودوسها، ويجب صيانتها من النجاسات والقاذورات والدواب والحيوانات، وحفظها بالأبواب المغلقات.
ومن إهانتها: الاتكاء عليها، ومن ذلك المشي بالنعال بين القبور بدون حاجة كشوك أو رمضاء أو غرض أو داء لقوله؛ لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يمشي بنعليه بين القبور ناداه: "يا صاحب السبتيتين انزعهما".
ومن سد الذرائع وحفظ التوحيد من الشنائع: عدم الكتابة على المقابر والقبور، سواء كتابة أو رموز أو نحت الكتابة على الصخور بكنية أو اسم أو وسم مذكور أو تاريخ وفاة أو آيات من الكتاب المسطور، أو وضع لوحات بين القبور.
ومن منهيات القبور: شدّ الرحال لزيارتها، وهذا من أعظم الفتن والشرور والمحن، وأشدها انتشارًا في هذا الزمن؛ كما في بعض الأمصار.
وفي صحيح الأخبار: "لا تُشد الرحال إلا ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"، ومن جاء إلى مسجد المدينة فليقصد الصلاة فيه لمضاعفة أجره، ثم له أن يسلّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه، لا أن يذهب للمدينة لقصد الزيارة بل يقصد المسجد، والزيارة تبع.
ومن الشرور في القبور التوسل بالمقبور؛ فإن كان توسله بذات المقبور لجلب الخير ودفع الشرور فشرك أكبر مأزور، وإن كان توسله بالجاه والقدر فبدعة منكرة وشنعة محدثة.
ومن ذلكم تحرّي الدعاء عند القبور، والصدقة عندها، وتوزيع المياه بين جوانبها، ورفع الأصوات بالأذكار داخلها، وقراءة القرآن في وسطها وعندها، ووضع الزهور والأشجار والرخام والأحجار، ورصفها، ووضع الطرقات فيها، والمياه الباردة، والغرف الوارفة والساحات الواسعة والسرادقات المكيفة والبدع المحدثة عند القبور كثيرة.
وقد عافانا الله منها بحمد الله، بسبب دعوة التوحيد والمعتقد السليم والتقعيد، وهناك كتاب جميل اسمه "بدع القبور"، فجمع وشفى ما في الصدور.
فاحذروا وانتبهوا ممن ابتلي في بعض الأمصار ما يقع في المقابر من الفتن الصغار والكبار، فالقصد من التنبيهات العلم بما يقع عند القبور والمقامات، والتذكير والتعليم بهذه المنهيات، ومن باب عرفت الشر لا للشر، لكن لتوقيه، ومن لا يعرف الشر يقع فيه.
وسدًّا للذرائع وصيانة وحماية للشرائع، ومن جميل تراجم إمام الدعوة ومجدد الملة محمد بن عبدالوهاب -أجزل الله له الأجر والثواب-: باب ما جاء في حماية المصطفى حمى التوحيد وسدّه طرق الشرك، وباب ما جاء في أن سبب كفر بني آدم، وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين، وباب ما جاء من التغليظ عند مَن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده، وباب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيّرها أوثانًا تُعبد من دون الله، وباب ما جاء في حماية المصطفى جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك.
وانظر شرح هذه التراجم في السفرين العظيمين للإمامين الجليلين أبناء الأخوين في فتح المجيد وتيسير العزيز الحميد.
وأخيرًا رحم الله حافظ الحكمي؛ حيث قال: "وحذر الأمة عن إطرائه فغرّهم إبليس باستجرائه، فخالفوه جهرة، وارتكبوا ما قد نهى عنه ولم يجتنبوا، فانظر إليهم قد غلوا وزادوا ورفعوا بناءها وشادوا بالشيد والآجر والأحجار لا سيما في هذه الأعصار وللقناديل عليها أوقدوا، وكم لواء فوقها قد عقدوا، ونصبوا الأعلام والرايات وافتتنوا بالأعظم الرفات، بل نحروا في ساحها النحائر فِعْل أولي التسييب والبحائر، والتمسوا الحاجات من موتاهم، واتخذوا إلههم هواهم قد صادهم إبليس في فخاخه، بل بعضهم قد صار من أفراخه يدعو إلى عبادة الأوثان بالمال والنفس وباللسان فليت شعري من أباح ذلك، وأورط الأمة في المهالك، فيا شديد الطول والإنعام إليك نشكو محنة الإسلام".
هذا وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي